ناجي العلي..ثلاثة وثلاثون عاماً من الغياب والساحر المُضاد يتأصّل فينا

السبت 29 اغسطس 2020
من الانترنت
من الانترنت

ثلاثة و ثلاثون عاماً مضت، نفتقده، ثم نجده أمامنا يتجدد فينا و يتأصل عاماً بعد عام، كلّما بَعُدَ عنّا استطال ظلّه ليغطّي مساحة حلمنا و توقنا إلى ينبوع ضوء مشرق مرة، و إلى الأبد فظاهرة هذا الفنان تتجلى قدرتها على اختراق الزمن و الالتفاف على الراهن لتنبثق كل مرة، كمارد عصي على التقزّم و الانحلال.

 ظلّ ناجي العلي بعد موته مثلما كان في حياته، بوصلتنا نحو هدفنا و حقنا غير القابل للقسمة، فما هي ظاهرته و بما تتغذى قواه الدائمة التجدد و الاستطالة و ما هو صوته الذي يتردد فينا بلا هواده؟ دعونا نسافر في فضاءات هذا المبدع.

  الشاهد :

لم يكن ناجي نكهة أو تقليعة يغيبها الزمن، بل تلك نقطة تقاطع ساطعه لآمال أمته و لمقومات وجودها، استحضر حنظله فصار شاهده و شاهدنا معاً، لم يتريث كثيرا قبل أن يرسم طريقه الذي سار عليها طوال ممارسته الفنية النضالية، لقد تخلى ناجي بسرعه عن طموحه في  أن يكون فناناً تشكيلياً، لأنه أدرك أنّ رسالته هي من النوع المباشر و البسيط كبساطة الأبيض و الأسود، الذي لا يحتمل تأويلاً أو ظلالاً تحدّ من سطوعه و وضوح بيانه.

 لذلك أخذت رسومه شكل حاجته إلى التعبير بقوة عن ماهية وجدانه الوطني و الانساني، لم ينشغل كما فعل غيره، بنقد جهة سياسية لحساب جهة أخرى، و لا بالتفكه على بعض المظاهر الاجتماعيه و البحث عن المفارقات اللفظية، بل انطلق فورا و بلا هوادة إلى موضوعه الأساسي مستخدما كل أسلحته المشروعه و الممنوعه ليكتسب بذلك سماته و خصوصيته و فرادته، فتارة يقتصر على الرسم وحده ليكون معبراً صافياً صادقاً، و تارة أخرى يقول جملته أو موّاله أو غضبه داخل الرقعه المخصصه له لتكون منبرا ساخناً لما يجول به خاطره عن قضية لها أولويه مطلقه، على كل ما هو قابل للاجتهاد و الجدل.

كل ذلك، يبرر تمسّك العلي بتعميق وسائل التأثير و التواصل مع جمهوره، باستخدام كل ما توافر له من رصيد معرفي و روحي، من دون أن يلغي ذلك انتباهه و رغبته في تطوير أدواته الفنية البحته، شرط أن تخدم دائما ما حرص على ايصاله عن القضيه التي يتناولها، متجنبا الوقوع في ترف و إغراءات الشكل كغايه في ذاتها.

 مفعول كالسحر المُضاد

هل بالإمكان إطلاق صفة الساحر المضاد الذي يفكّ السحر، على فن ناجي العلي؟، تبدو هذه الصفه مجرد صفه إجرائية، ذلك لأن ما يؤثر فينا بعمق ليس عملية فك سحر، بل تلك القدرة التي نحسها تنبعث فينا جرّاء أعماله، و نحن نعي زوال السحر، و هي الشعور بقدرتنا الذاتيّة.

إنّ ما يحاوله ناجي و هو يخترق هيمنة المثل و الأفكار و التصورات المتخثره بفعل تسلط ثقافة المراسيم، إنما هو استعادة كرامته الشخصية، كرامة الوعي الذاتي و القدرة على التواصل مجدداّ في هذا المحيط البشري المتسع، إنه التواصل بين الفرد و الآخر، و التواصل بين الفرد و المحيط في مؤاخاة انسانية، لا تقطعها حواجز الاضطهاد و الاستغلال و المنافع الطبقيه.

هذه الكرامة الشخصيه للفنان ليست مسألة خاصه به،  إلا من منظور يراها أنّها الملح الذي يملّح به أعماله،  أما على صعيد تاريخية هذا الفعل، فإنها مسألة خاصه بالمجموع كله بكرامته، و من هنا استعادة الكرامة التي يحسها المشاهد لرسوم ناجي العلي، هي العمق البعيد لانفكاك السحر و لتساقط تعاويذ الكهان و الكذبه.

 

  الحريه و الفن :

التقى ناجي مراجعه، و هو ذاهب الى فلسطين، التقاها و هو يذكر هراوة الدركي الذي لا يرحم و هو يبحث عن رغيف الخبز منفرداً، و هو ينتقل من عالم المهنة الشقية الى فضاء الفن، لم يكتشف الحريه في الفن، بل ذهب الى الفن لأنه كان يعرف الحرية و يعرف أن وراء العالم المعيشي القاسي عوالم مختلفه، فلا أحد يرى الواقع المعيشي مفرداً إلّا إذا كان عبداً أقبل على العبودية فأسعدته، و ما كان واقع ناجي إلاّ ذلك الواقع الذي يتعرف بصيغة الجمع، واقع المعاناة وواقع التمرد، واقع المنفى و واقع المقاومة واقع الجهل، و واقع الإنارة، واقع الآخرين القامع، وواقع التمرد الذي يصطدم بالاخرين و يشهر ريشته المبدعه.

  الشاهد و الشهيد:

 توقع ناجي أن يقوم أناس جبناء باغتياله و قد عبّر عن ذلك من خلال رسوم موثقة، لكنه يبقى ناجي حيّاً بولادة حنظله حتى بعد تغييبه جسديا عنّا، و عن مسرح الحياة فلقد تداخل و تآخى و اندمج مع آلاف الأطفال و غير الأطفال الذين هم في المكان المتقدم من المعركة، يدافعون و يضحون علّ ما حلم به و بشّر و جسّده ناجي يتحقق.

ما وراء الكواليس:

 نعم يشقى المعنى قبل أن يعثر على تعريفه، و يشقيك و يحيلك إلى القواميس و النظريات و آراء الباحثين و أصحاب الاختصاص، لكن حياة ناجي العلي تغنينا عن أيّ بحث آخر في معنى الشجاعه، هو ابن الحياة الذي تسميه جداتنا العارفات بطبع الدنيا، ابن موت كأن الوجدان العاصف في كل آوان لا يقضي عليه إلا موت عاصف قبل الآوان، و تخبرنا الفيزياء أن الموجه العاليه تهوي بقوة و ارتطام و وضوح، و قبل الخروج و الانتهاء من عالم و فضاءات مليئه بالتأملات الابداعية، يبقى السؤال هل كان ناجي يخشى كل ما وقع لنا ووقع لفاطمه من بعده ؟!.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد