"لكل قرية في تشيلي، ستجد ثلاثة أشياء: شرطي، وراعي، وفلسطيني".. هذا قول مأثور يخبرك به التشيليون، حين وصولك، معبراً عن السمات السيسولوجية داخل مجتمعهم بجانب تاريخية العلاقة بين فلسطين ودولة تقع على أقصى الساحل الجنوبي الغربي لأمريكا الجنوبية.

 

التشيلستيون

برز في مؤتمر فلسطينيي الخارج في اسطنبول عام 2017 مصطلح "التشيليستيون " خلال عرض قدمه مدير الاتحاد الفلسطيني في تشيلي أنور مخلوف خلال حديثه عن الوجود الفلسطيني في قارة أمريكا الجنوبية، مشيراً إلى الفلسطينيين التشيليين، أي ذلك الوجود الذي يحمل هويتين مختلفتين لكن مندمجتين.

 لم يكن مصطلح "التشيلسيون" عشوائيا أو محض صدفة أو مزحة من ممثل أكبر تنظيم مدني في تشيلي، لكنه يشير إلى ترسيم هوية فريدة من الهوية الفلسطينية والتشيلية ليس عبر دمج هويتين ولكن بنسج هوية مميزة عن الأصل، تذكر الباحثة لينا مروان التشيلية من أصل فلسطيني أن "مصطلح التشيليستيون تعني إنها ليست هوية متقطعة، ولكنها تعني اندماج هويتين تنتميان إلى بعضهما البعض وليس لهما مشاكل في الانتماء سوياً".

ما بين القدس وسانتياغو 13 ألف كم مربع، تلك المسافة البعيدة التي لم تمنع التشلسيون من التواصل مع الوطن الأم، كما لم تقف عائقاً أمام الاحتفاظ بهويتهم وحقوقهم والدفاع عن قضيتهم، كما أن بعد المسافة كان سبباً للاندماج في المجتمع الجديد وسبر أغواره مع تسامح التشيليسيون مع السكان الأصليين دفعهم لتشكيل هوية خاصة ومميزة تجمع ما بين الوطن الأم والوطن المؤقت.

 تشير بعض المصادر الصحفية إلى أن عدد الفلسطينيين في تشيلي بلغ ما يقارب من نصف مليون، وتعتبر الجالية الفلسطينية في تشيلي من أكبر الجاليات الموجودة خارج الوطن الأم فلسطين، وإن لم يكن هناك إحصاء رسمي فإن جميع التقديرات والدراسات المحلية تشير إلى وجود 450 ألف تشيلي من أصل فلسطيني، بالإضافة إلى عدد قليل من اللاجئين الذين هجّروا من فلسطين بعد عام 1948 ، والذين يحمل معظمهم الجنسية التشيلية، لأن القانون يسمح للأجنبي المقيم في البلاد لأكثر من خمسة أعوام أن يطلب الجنسية التشيلية التي تمنح إليه دون أية صعوبات، بعد إجراء المعاملات القانونية المطلوبة.

منذ ثلاث عقود مضت، بات للقرارات السياسية سواء على المستوى الفلسطيني أو المستوى الدولي تداعيات ثقافية أيضاً لا تقل سوءاً، فكما يتم التنازل عن بعض حقوق الفلسطينيين في الداخل والشتات، تبرأت القيادة الفلسطينية المتمثلة بسلطة "أوسلو" من حلفائها في أمريكا اللاتينية وبالتالي اتسعت الهوة بين الفلسطينيين وإخوانهم من الجاليات الفلسطينية في دول أمريكا، أولئك الذين تمسكوا بشدة بهويتهم ولغتهم وموسيقاهم وحبهم لوطنهم ودعمهم لقضيتهم الرئيسية.

 

من وطن أم إلى مؤقت

يدين غالبية الجالية الفلسطينية في تشيلي بالمسيحية، وتعتبر أعداد الفلسطينيين المسيحيين في تشيلي أكبر من عددهم في فلسطين.

 توجد كنيسة فلسطينية في سانتياگو، وهي كنيسة إگلسيا أرتودوكسا سان جورج، تأسست عام 1917.

يتوزع أبناء الجالية الفلسطينية في كافة أقاليم ومناطق تشيلي، والغالبية منهم موجودون في العاصمة سانتياغو والمناطق المحيطة بها، وكذلك في الجنوب من تشيلي، وعلى وجه الخصوص منطقة كونسبسيون، تشيان، فاديفيا، لينارز، كوريكو، تالك.

نجحت الجالية الفلسطينية في تشيلي بشكل لافت في الاندماج في المجتمع التشيلي، بل أصبحت أحد مكوناته الرئيسية، وصاحبة نفوذ اقتصادي وتأثير سياسي كبير.

الفلسطينيون في تشيلي هم من طبقة الأغنياء و تبوأ كثير منهم مناصب عليا في الدولة. يعمل الفلسطينيون في تشيلي في كافة القطاعات الاقتصادية، وعلى كافة المستويات، هناك رجال أعمال ومستثمرون كبار، وحسب التقارير الصحفية، فإن الجالية الفلسطينية تسيطر على 70% من الاقتصاد، ويوجد أكبر عشرة بنوك في تشيلي: ستة منها مملوكة لفلسطينيين، وهناك وزراء وأعضاء برلمان من أصل فلسطيني.

هناك الكثير من المؤسسات التابعة للجالية الفلسطينية في تشيلي، ومن أهمها: نادي فلسطين "أسسه الوافدون الأوائل إلى تشيلي من فلسطين، واسم النادي هو "باليستينو" وهو من الأندية العريقة في هذا البلد، وسبق له الفوز ببطولة الدوري والكأس أكثر من مرة، ومعظم مشجعيه هم من أبناء الجالية الفلسطينية، وهناك الفيدرالية الفلسطينية، ولجنة حق العودة، اللجنة الديمقراطية الفلسطينية، اتحاد المرأة الفلسطينية، الاتحاد العام لطلبة فلسطين، المدرسة العربية، ومؤسسة بيت لحم 2000.

تخبرنا بيترز سبولفيدا نافروا عضو اتحاد طلبة فلسطين في تشيلي أن "منظمتهم قامت على قيم أساسية مثل عدم التمييز على أساس الدين أو العرق، وهدفت إلى مقاومة الاستعمار والصهيونية، كما تقوم بنشاطات وأعمال للتضامن مع اللاجئين والمهاجرين والمناداة بحقوق المرأة"

تضيف نافروا لبوابة اللاجئين الفلسطينيين أن اتحاد طلبة فلسطين يضم عدداً من الطلبة غير الفلسطينيين، ويفتح عضويته للناشطين والناشطات من التشيليين الذين يؤمنون بالحق الفلسطيني، ويساهموا في العمل التطوعي، "فنحن لا نتلق تمويلاً من أي مصدر ولا نريد ذلك، لأن عملنا يأتي في إطار الدفاع عن الحقوق والحريات، ولدينا أنشطة أخرى ثقافية وهي التعريف بالحقوق الفلسطينية والتضامن مع الشعب الفلسطيني."

 

مدارس لحفظ الوطن

يوجد في تشيلي ثلاث مدارس عربية، ابتدائية، ثانوية كاملة، مديروها، منحدرون من أصل فلسطيني، في المدن الثلاثة : كونسبسيون (Concepcion) ، فينادي المار (Vina del Mar) ، سانتياغو (Santiago) ، إذ يتلقى طلابها معلومات عن التاريخ والفولكلور الفلسطيني والعربي. كما توجد أربع كنائس مسيحية عربية وجامع إسلامي.

يشارك التشلستيون في جميع مرافق الحياة والاقتصادية بشكل رئيسي فحسب الإحصائيات يشكل الاقتصاد التشيليين ما يعادل ثلث الاقتصاد التشيلي، فعلى سبيل المثال يوجد في تشيلي 14 بنك ثلاثة منها يملكها منحدرون من أصل فلسطيني، أي بنسبة الخُمس، وهذه النسبة يمكن أن تعكس إيجابية مشاركتهم في الاقتصاد الوطني التشيلي.

وسيطرت الكثير من العائلات الفلسطينية كعائلة هرماس وأوب سليمة وكارمي، وحزبون ومسلم وعواد ونزال على 75% من صناعة النسيج منذ ثلاثينات القرن الماضي في تشيلي، والتي وصلت إلى مستوى عال وحظيت بمركز ممتاز في الأسواق المحلية، والأمريكية والعالمية.

بات ألفارو سايه «صايغ» البندك، من مواليد 1949، من أصل فلسطيني واحداً من أثرى أثرياء تشيلي والقارة اللاتينية. وبحسب إحصاءات فوربس لعام 2018 فقد صنف صايغ في المرتبة الرابعة ضمن قائمة أغنى الأغنياء في تشيلي، وهو رئيس مجموعة تجارية تشكل إحدى أكبر التكتلات الاقتصادية في البلاد، وهو أيضاً القائم بأعمال الرئيس التنفيذي لمجموعة إعلامية ضخمة، وصاحب سلسلة من الفنادق الكبرى في كل دول أمريكا الجنوبية، ومن بين الأسماء الشهيرة ألبرتو قسيس، رجل الأعمال الذي يسيطر على نحو 40% من سوق اللحوم المصنعة في تشيلي، حتى لقب بـ«ملك النقانق».

تقلد الفلسطينيون في تشيلي مناصب سياسية عليا فكما ساهموا في الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير، كانت لهم مساهمات في الشأن السياسي التشيلي، ففي الأربعينيات من القرن الماضي تم انتخاب أول عضو من أصل فلسطيني في مجلس الشيوخ التشيلي، وجاء التحول الأبرز في عهد الرئيس التشيلي كارلوس ايبانيز (1952- 1958) عندما شارك في حكومته وزيران من أصل فلسطيني من حزب العمال، اشتهر منهم رافاييل طارود (طراد) الصيداوي (1918- 2009)، الذي شغل آنذاك منصب وزير الاقتصاد والمناجم، وقد واصل طارود مسيرته السياسة، والتي بلغت ذروتها عام 1970 حين أعلن عن ترشّحه للانتخابات الرئاسية لعام 1970.

كان السائد خلال تلك المرحلة توجه الفلسطينيين إلى الأحزاب اليسارية. ووصل فرانسيسكو شهوان إلى منصب نائب رئيس الجمهورية في التشيلي في الفترة (2006 - 2010)، واليوم تقلد محمود عليوي نائب وزير الداخلية وهو بذلك أول فلسطيني مسلم وصل لمنصب كبير، بينما كانت ولا تزال مشاركة الفلسطينيين المسيحيين في الحياة السياسية في تشيلي هي السائدة حيث يشكلون 90% من الجالية هناك، بجانب 10% من أعضاء مجلس الشيوخ التشيلي من أصول فلسطينية، و11% نواب في مجلس الشعب، كما ينتمي تسعة رؤساء بلديات و 26 عضوًا في مجلس المدينة إلى عائلات فلسطينية.

 

رحلة اللجوء

كانت الرحلة تبدأ في أحد الموانئ التالية : بيروت، حيفا والإسكندرية عن طريق إحدى بواخر الشحن، حتى إحدى الموانئ الأوروبية، وغالباً ما كانت هذه في "جنوا" بإيطاليا ومرسيليا في فرنسا، وبعدها ينتقل المسافر إلى سفن أكبر تتوجه إلى ريو دي جانيرو في البرازيل أو بونس آيرس في الأرجنتين.

 بعد ذلك يُقطع ما ينوف عن 2000 كم حتى الوصول إلى مدينة ميندوزا (Mendoza) على حدود الأرجنتين وبلاد التشيلي، وبعد الاستراحة يستمر العبور إلى جبال الأنديز العالية على ظهر حصان أو بغل مدة أكثر من أسبوع، حتى الوصول إلى مدينة لوس انديز تشيلي، وبعدها يتم التوجه إلى المدينة التي يقطن فيها أقرباء الفلسطيني المهاجر أو اللاجئ، أو من هم على استعداد لاستقباله في إحدى مدن البلاد التي تبعد مئات بل آلاف الكيلومترات عن نقطة وصوله.

الهجرة باتجاه البعيد لم تستلزم شهوراً فحسب، بل نفقات كثيرة وتعباً وجهداً، ومواجهة مخاطر الفقر والعوز وركوب سفن شحن والدرجات الثالثة وقمرات الأمتعة، وأحياناً السير لأيام عبر الغابات المهجورة والجبال المتجمدة ثم الوصول إلى سكة الحديد القديمة.

 كيف استطاع أولئك الشباب السفر إلى هناك، كيف استطاعوا العيش رغم اختلاف اللغة والثقافة والقوانين والسياسات المختلفة تجاه المهاجرين، كيف استطاعوا تكوين مجتمعاتهم واندماجهم في المجتمع الجديد وهويتهم المختلفة ذات الطابع الخاص؟.

 

الهجرات الأولى نحو "أرض الآمال"

" على سفح سلسلة هذه الجبال العالية، أنا محفوظ مصيص، ابن فلسطين في القارة الأمريكية مواطن من العالم الثالث، أصرخ بأعلى صوتي، ضد الظلم والطغيان" وصف شاعر فلسطيني هجرة الفلسطيني من بلاده إلى بلاد بعيدة كانت تسسم حينها في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين " أرض الآمال" والصعوبات التي لقاها وكيف كانت حياته قبل أكثر من مائة عام؟

كان على بلدان أمريكا الجنوبية الانتظار حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر لكي تتحرر من سيطرة المتنازعين الأوربيين خاصة الإسبان والبرتغاليين، وبعد حرب مريرة تأسست جمهوريات مستقلة تعايش فيها كل المواطنين من بيض وسكان أصليين ومهاجرين في أجواء من الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، ساعد ذلك بدوره على النمو والتطور الأمر الذي شجع على الهجرة من أجل زيادة السكان واستصلاح الأراضي واستغلال الثروات الطبيعية الوافرة، وبدأت موجات من الهجرة المبرمجة تصل إلى معظم بلدان القارة.

على الجانب الآخر من العالم الجديد انتقلت أخبار تلك القارة الي منطقة الشرق الأوسط وبخاصة ولاية سورية التي كانت تضم كل من سوريا وفلسطين ولبنان التابعة للدولة العثمانية، والتي كانت تخوض هي الأخرى مآسي طالت جميع طوائفها، من تجنيد إجباري في الجيش العثماني، ومجاعات وأوبئة وبطالة متفشية وزراعة في أسوأ إنتاجها، كما بدأت بالظهور نزاعات دينية كانعكاس للحرب التي قامت بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا أولاً واليونان ثانياً في نهاية القرن التاسع عشر، ولاسيما أن السلطات الدينية المسيحية في فلسطين وفي ربوع منطقة الشرق كانت تحت سيطرة و تأثير رجال الاكليروس اليونان والروس.

الهجرات الأولى نحو " أرض الآمال"  كان هدفها اقتصادياً في المقام الأول، خاصة بعد عام 1908 إذ أصبحت الخدمة العسكرية إلزامية تحت ظل حكومة الاتحاديين في نهاية العهد العثماني، كان معظم المهاجرين من المسيحيين في بادئ الأمر، وأكثرهم من المزارعين والفلاحين والعمال أو صغار الملاك وقلة منهم كانوا متعلمين أو أصحاب حرف.

يعتبر السيد جبران دعيق من مدينة بيت لحم، أول فلسطيني وصل إلى هذه البلاد في عام 1880، وفي العام نفسه تبعه السيد صالح يوسف جاسر، لقد سكن كلاهما في مدينة كونسيبسيون Concepcion في المنطقة الوسطى الجنوبية، وعملا في صناعة تحف الأراضي المقدسة والتجارة بها.

 بعد ذلك تبعهم مهاجرون آخرون وعلى فترات يمكن أن نحصرها بثلاث مراحل رئيسة ومنتظمة وجماعية الاولى بدأت من عام 1880-1914 والمرحلة الثانية من 1914- 1939 ثم مرحلة النكبة وعام 1967 النكسة، ثم بدأت هجرات متفرقة خلال الحرب اللبنانية التي بدأت من عام 1975- 1985، ثم بدأت مرحلة جديدة في التسعينيات والالفين خاصة الفلسطينيين في العراق.

اتسمت المرحلة الأولى بهجرة أعداد قليلة خاصة من المسيحيين الفلسطينيين ومن مدينة بيت لحم وبيت جالا وقراها نظرا للأوضاع الاقتصادية السيئة والاضطرابات السياسية في البلاد، وفقا للإحصاء التشيلي لعام 1885 وصل 29 فلسطينياً، وكان يطلق عليهم "الأتراك من آسيا" قصد بهم الفلسطينيون آنذاك، واستمرت الهجرة إلى تشيلي بأعداد قليلة وصولاً لعام 1908 حيث تدفق عدد من الفلسطينيين المسيحيين، وقليل من المسلمين الفارين من التجنيد الإجباري.

لعبت سياسة التجنيد الإجباري العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى دوراً كبيراً في فرار عدد من الفلسطينيين إلى تشيلي، إلا أن أكثر موجات اللجوء جاءت بعد نكبة عام 1948، والنكسة عام 1967، وتبعها موجات لجوء واسعة في أعقاب الحرب الأهلية في لبنان، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وكذلك جاءت موجات أخرى بعد الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، وترحيل الفلسطينيين من الكويت والعراق، على أثر حربي الخليج الأولى والثانية.

صعوبات كثيرة واجهت التشيليين من أصل فلسطيني نظراً لدفاعهم ودعمهم للقضية الفلسطينية وارتباطهم بالوطن "الأم" منذ فترة الثمانينات بسبب تزايد الوجود الصهيوني في الدولة التشيلية المتزامن مع نمو وتزايد السياسات النيوليبرالية، حيث حاولت الجاليات اليهودية الضغط على القيادات السياسية بكل أطيافها للحد من ذلك الدعم غير المشروط، بل قامت بتقديم رشاوى لعدة حكومات تشيلية لتغيير اسم نادي بالستينو متهمين أعضائه "بمعاداة السامية"، لكن قوبل ذلك كله بالرفض تارة من قبل الحكومات وفي أغلب الأحيان بسبب الشعب الداعم للقضية والحقوق الفلسطينية.

كتبت سيسيليا بايزا، الأستاذة في جامعة برازيليا تقول "يمكن العثور على السياسيين الفلسطينيين التشيليين عبر الطيف السياسي من اليمين إلى الحزب الشيوعي ، ولكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين، فهم يتعاونون".

 

مجزرة ضد اللاجئين توحدهم

رغم أن المجتمع التشيلستييي خضع في كثير من الفترات للانقسام في القضايا السياسية والاقتصادية التي تخص تشيلي، ففي السبعينيات انحاز الأغنياء منهم إلي الديكتاتور اوغستو بينوشيه المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تحمل بقية المجتمع وطأة العنف الاقتصادي.

لكن مجزرة صبرا وشاتيلا 1982 وحدت المجتمع التشيلي وخاصة التشليسيين حيث نظموا أول مظاهرة خلال حكم بينوشيه تنديدا بالمجزرة. وأصر المجتمع التشيلي على التعاون - عبر الانقسامات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية - لدعم فلسطين.

وفي عام 2008 ، استقبلت تشيلي 130 لاجئاً فلسطينياً فروا من الحرب في العراق. استقبلتهم ميشيل باشيليت رئيسة البلاد آنذاك، والتي رفضت حضور احتفال سفارة إسرائيل "بعيدها الوطني"، ونظمت باشليت في فترة العدوان الصهيوني على قطاع غزة   عدة مسيرات مؤيدة للفلسطينيين جمعت آلاف الأشخاص في نفس الوقت في سانتياغو. كما قامت بسحب السفير التشيلي من تل أبيب وعاد بعد وقف إطلاق النار، بينما قام الرئيس الأسبق الرئيس سيباستيان بينيرا بعد زيارته 2010 إلى فلسطين بالاعتراف بالحق في دولة فلسطينية.

 

في وصف الهوية الفلستا/تشيلية

تقول الكاتبة والباحثة التشليسية لينا مرواني: "لقد بذلوا قصارى جهدهم لتمريرها دون أن يلاحظها أحد، لقد أسكتوا سرد أصولهم إلى العالم الخارجي، ترجموا أسمائهم بحكمة إلى الإسبانية (جدي، عيسى أو يسوع، أصبح سلفادور، إخوته جاد الله و عطا الله تحولت إلى ناتاليو وألبرتو، جدتي، Milade ، أصبحت ماريا ، وهلم جرا، لقد خففوا من ألقابهم ، ما لم يكن مسؤولو الهجرة قد فعلوا ذلك بالفعل عند نقطة الدخول، كسبوا المال كتجار وجعلوا أطفالهم يتلقون التعليم ويتزوجون خارج مجتمعهم حتى يندمجوا بشكل كامل. في غضون ذلك ، فقدوا لسانهم ".

تشير المصادر البحثية أن في عام 1941 كان عدد العائلات الفلسطينية في تشيلي وصل الي 1224 عائلة جاؤوا من بيت جالا، وبيت لحم ، وبيت ساحور- والقدس، والطيبة والجفنة في رام الله وبيت ساحور، كانت أغلب تلك الهجرات الفردية من قبل المسيحيين الفلسطينيين في المنطقة الوسطى من تشيلي نظرا لما تتمتع به من مناخ أشبه بمناخات الشرق الاوسط.

وفقاً لبعض شهادات المهاجرين الأوائل امتهن بعض منهم تجارة المنفتورة (الأقمشة) إذ يقومون بالتجوال في المدن والقرى عبر السير في أماكن وعرة وتربية وغير ممهدة ليصلوا ويبيعوا كافة المنتجات للسكان، .

 أطلق السكان في تشيلي على أصحاب هذه المهنة اسم " الكشيش" أي الكاش بمعنى النقد كما كان معروفاً في التعامل النقدي، لكن العرب أدخلوا الدفع بالتقسيط، لذا راجت مهنتهم وتطورت حتى فتحوا محلات تجارية في الأقمشة والحرير والحلي من الأقراط والأساور والخواتم.

جاءت صحيفة " لا يونيون " (La Union) في عددها الصادر في 25 / 9 / 1940 على ذكر الجالية العربية ودورها بالقول: إن أثر وتأثير الهجرة العربية كبير وعميق، الآن، مثلا، إن لباس الحرير ليس ملكاً للأغنياء فقط، بل إن الحرير الصناعي أصبح لباس كل امرأة من بنات شعبنا، كما أن قماش " المالطي " (Tocuyo) والمخطط (Gasinota) أصبح في متناول عمالنا وفلاحينا".

من التجارة إلى الصناعة إلي السياسة، لم يك العيش في بيئة جديدة ووسط مختلف والتعبير بلغة لاتينية بالأمر السهل، كانت أولى آثاره السلبية تغيير وتحريف الأسماء العربية، إما عن طريق ترجمتها أو تغيير في نطقها لتسهيل لفظه، بجانب ما واجهوه من اضطهاد من قبل اليهود في أمريكا اللاتينية، خاصة من الحركة الصهيونية نفسها، لكن ظل المجتمع التشيلي يتسم بالسماح والقبول للمهاجرين العرب خاصة الفلسطينيين بجانب دعم الحركات السياسية التشيلية للقضية الفلسطينية خاصة بعد الحقبة البيونشية.

 

الأدب اللاتيني وصورة العربي/الفلسطيني

في رواية «قصة موت معلن» المبنية على أحداث حقيقية، لجابرييل غارسيا ماركيز تجد وصفاً دقيقاً للعرب/الأتراك في روايته فيقول عن بائعي الحلي وشارع الأتراك العرب أولئك الذين يلبسون الأقراط ويأكلون الحلاوة ويعيشون ويشتغلون في الشارع الذي يتقدم وينحدر بنفس إيقاع الازدهار والتقهقر الذي تمر به (ماكوندو) مدينة متخيلة لدى الكاتب " فيما كان المكان يتشكل من كاتشاكيين و سواحلية الأطلنطي وبوليفار وانتييانيين (نسبة جزر أرخبيل الانتيل) وعرب وأوربيين جاؤوا للقرية مجذوبين بحمى الموز".

هناك روايات قدمت وصفاً دقيقاً عن حالة العرب في تشيلي وأمريكا اللاتينية خاصة أنه كان يطلق عليهم "الأتراك"، يقول الباحث ماتياس رافيدي تشيلي من أصول فلسطينية «إن معظم المهاجرين جاؤوا إلى هذه الأصقاع وفي نيتهم العودة من حيث قدِموا، إلا أن الظروف أقعدتهم، وسرعان ما أصبحوا يحتلون مواقعَهم في المجتمع الجديد، كل حسب تخصصه وميوله وتكوينه وظروفه واهتمامه ومستواه الثقافي».

 وجاء على لسان إحدى الشخصيّات الرئيسيّة في رواية الكاتب البرازيلي المعروف خورخي أمادو "غابرييّلاً قرنفل وقرفة"، تجسيد لحالة الغضب الشديد التي كانت تعتري المغتربين العرب، و يستشيطون غضبًا عندما كانوا يُنعتون بـ "التركي".

وفي رواية "من تلميذ إلي رجل"   الكاتب غونزاليس فيرا (Gonzalez Vera) يعطي صورة واضحة عن الأيام الأولى للمهاجرين "ربما لفت نظرك كيف يعيش هؤلاء الأتراك! يبدؤون العمل في الصباح الباكر، ويغلقون متاجرهم عندما لا يتجول أحد في ساعات متأخرة من الليل، إذا دخل زبون بكل هدوء، يتحرك الواحد منهم، وهكذا يدخرون الطاقة والملابس. بعد ذلك يتوجهون إلى بيوتهم وهم يعيشون جماعات في نفسها…"..

ويقول الكاتب اديسيو الفاردا (Edesio Alvarado) في كتابه "التركي طارود" (El-Turco Tarud) مشيراً إلى عضو مجلس الشيوخ، والوزير، والمرشح إلى رئاسة الجمهورية السيد رفائيل طارود عام 1970 والذي كان ابن مهاجر فلسطيني " إن والدي طارود، وصلت إليهما أخبار تشيلي من الناس الذين كانوا قد سبقوهم إليها. وهذا الأخير كان قد سافر عند جورج إبراهيم الذي كان يسكن في مدينة طالكا".

برزت أسماء لامعة في الأدب اللاتيني من أصول عربية منهم محفوظ ماسيس، المولود عام 1916 في تشيلي وهو من أصل فلسطيني، ونجد في أعماله إشارات كثيرة إلى أصله العربي، حيث تتكرر أسماء الأهرام، والجِمال، والفراعنة، والصحارى إلخ. ومن أهم كتبه «أحلام قابيل»، و«النجوم الباهتة»، حيث يدافع فيه عن حق شعبه في الحياة الكريمة في فلسطين خاصة في كتابه «بكاء اللاجئ»

من الكتاب التشيليين من أصل فلسطيني الذين اهتموا بالتأريخ للمهاجرين العرب في تشيلي ماتياس رافيدي ومن أعماله في هذا المجال بالذات كتابه «كُتاب تشيليون من أصل عربي»، وقد قسم كتابَه إلى أجيال من الكتاب التشيليين الذين ينحدرون من أصل عربي، وعرف بكل جيل على حدة، انطلاقًا من الكتاب الذين وُلدوا في التاريخ المتراوح بين 1890 و1904 والذي يُعرف بجيل 1920 إلى جيل الكتاب المولودين بين 1950 و 1964. ومن الأسماء التي ساقها الباحث رافيدي ساهموا في الأدب اللاتيني خاصة في تشيلي: بنديكتو شوقي، يوسف عويل حنا، موريس موسى، إدريس سبيلا، روبرتو سراح، محفوظ ماسيس، وفريد هيد ناصر.

تخبرنا شاعرة فلسطينية عما يلاقيه المهاجر الفلسطيني وعن إشكالية الاندماج "نحن نقول لأولئك الذين وصلوا لتوهم، بأننا لم ننته بعد، لأننا لم نر البحر الذي أعطانا أسمائنا، رغم ان الصمت ضروري للصلاة، لكن سيأتي الفرح يوماً ما، كل ما علينا أن نرتدي ذلك الصوت حول عنقنا.. صوت ينادي أنا من فلسطين.

خاص/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد