ينظر الآلاف من شباب قطاع غزّة إلى تركيا كأرضٍ لتحقيق الأحلام أو على الأقل كممرٍ لأرض الأحلام أوروبا، في ظل حالة القهر التي يعيشونها بفعل عوامل عديدة أبرزها الحصار الصهيوني المفروض على القطاع منذ أكثر من 14 عاماً على التوالي، وبفعل حالة الضنك ونسب الفقر والبطالة التي تُصنّف بالأعلى على الإطلاق في صفوف هؤلاء الشباب الذين يلجؤون للسفر من أجل العمل و"تكوين المستقبل" وإرسال الأموال إلى الأهل للتخفيف من وطأة الحال الصعب الذي يعيشونه، لكنّ الحقيقة والواقع لهما رأي آخر.

عددٌ لا بأس به من الشباب كان يُسافر إلى تركيا، وما هي إلّا عدّة أشهر ويخرج بعضهم على وسائل التواصل الاجتماعي مناشداً الجهات الرسميّة من أجل التدخّل لإعادته إلى القطاع بعد اكتشافه الحياة في الخارج لا سيما بالنسبة لفلسطيني لا يملك جواز سفره أو أورقه أي قوة "فخبزُ غزّة الناشف أرحمُ من لحمِ الغربةِ المُتبّل بالذُل والشقاء" قال عدد منهم لموقعنا.

محمد لافي (28 عاماً) شابٌ من قطاع غزّة دفعه الوضع العام في القطاع إلى التفكير بالهجرة، ولتحقيق ذلك كان عليه استدانة أموال السفر كي يتحقّق له مراده، يقول محمد لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: "عملت تنسيق مدفوع الأجر للجانب المصري لكي أسافر إلى تركيا، لكنّ هذه الرحلة لم تكن هيّنة كما يُصوِّر لنا البعض، وفي أول الرحلة جلست أربعة أيّام في الجانب المصري، ناهيك عن البيات (النوم) في الصالة المصريّة التي كانت الأجواء باردة جداً فيها مع عدم توفّر أي مقومات للحياة داخل هذه الصالة نهائياً".

معاملتهم لنا في مطار القاهرة تفتقر إلى الاحترام.

وأكمل لافي لموقعنا: "عدا عن كل هذا هناك معاملة سيئة جداً لنا كفلسطينيين عند عملية الترحيل إلى المطار (كانوا يعاملوننا كالحيوانات) وكل شيء ممنوع حتى النزول من السيارة، معاملة تفتقر لأي نوع من الكرامة الإنسانيّة"، مُؤكداً أنّ تركيا لم تكن في يومٍ من الأيّام أرض الأحلام لأي شاب فلسطيني، وإنّما هي مكان للانتقال والهجرة إلى البلاد الأوروبيّة، لأنّ تركيا عملتها سهلة الصرف ومهما عَمِل الشاب داخل أراضيها لا يستطيع تحويش المال (ادخاره للمستقبل)، وجاءت جائحة كورونا وأغلقت البلاد وقضت على أي أمل للعمل.

رحلة لجوء محفوفة بالألم

كما بيّن لافي الذي تخرّج من قسم الصحافة والإعلام: أنا مكثت في تركيا تسعة أشهر وكنت أعمل في مكان جيّد جداً ولكن كنت أشاهد الشبّان الفلسطينيين وهم ينامون في الحدائق العامّة لا حول لهم ولا قوة في بعض المناطق التي يعملون فيها كمنطقة أكسراي مثلاً، فذهبت باتجاه الهجرة ووصلت فعلاً إلى اليونان ولكن في كل مرة كانت الشرطة اليونانيّة تخطفنا في الليل وتُعيدنا إلى تركيا.

وحول قرار العودة إلى قطاع غزّة، قال لافي إنّه بعد كل هذه المعاناة أصبح يفكّر جدياً في حياته، يُتابع: أنا جرّبت متعة السفر وحققت مجموعة من أهدافي ولكن بشكلٍ عام الهدف الأساسي الذي سافرت من أجله غير موجود فرأيت الأفضل أن أعود وأعيش بين أهلي وأحبابي لأنّ تركيا مهما تواجدت فيها لن أدّخر شيئاً.

يؤكّد محمد أنّه وفي طريق عودته للقطاع وفور دخول الصالة المصريّة شعَر وكأن هناك لوحاً من الثلج نزل على صدره وأشعره بالاطمئنان والأمان، يُتابع: شعرت أنني في بلدي ولي سند وأصدقاء وأحباب، أنا في تركيا اُصبت بفيروس "كورونا" لكنّني واجهت المرض وحيداً لم أجد من يقف بجانبي ويُخفّف من آلامي، لقد كنت وحيداً بمعنى الكلمة، أمّا الآن ورغم كل الظروف السيّئة والصعبة في غزّة، إلّا أنّني بين أهلي وأصدقائي الذين يحبونني ويخافون عليّ.

هناك شبّان يخافون من كلام الناس في حال عودتهم إلى القطاع.

قصةٌ أخرى، أحمد علي عروق، قال:  إنّه وكبقيّة الشباب الذي يُريد بناء نفسه وتكوين مستقبله سافر إلى تركيا على أمل العمل والعيش الأفضل في الخارج، يوضّح أحمد لموقعنا أنّ الحصول على عملٍ في تركيا ليس بالأمر السهل، وكل ما تحصّله من أموال هو نفس ما تصرفه لكي تعيش في هذا البلد، أو كما يقول المثل الشعبي "الطايح رايح".

ولفت عروق خلال حديثه: أنا قضيت ثلاث سنوات ونصف في تركيا لكنّني وجدت الأمر بلا فائدة (ع الفاضي) بمعنى الكلمة، أنا كنت أعمل للدولة فقط ومطلوب منّي أن أتعب فقط بدون أي تقدّم، وخلال وجودي هناك عملت في العقار، والشركات، وغيرها من الأعمال الكثيرة، لكنّ كل هذا لم يعطني دافع حتى 5% للبقاء هنا، فتساءلت: لماذا أقضي عمري في الخارج بدون أي فائدة؟ فقررت العودة إلى بلدي أفضل، وأبدأ حياتي من جديد.

ويؤكّد عروق لموقعنا أنّ عشرات الشبّان كانوا يسألونه عن السفر والعمل في تركيا من باب أنّه جرّب هذا الأمر، لكنّه كان ينصح الجميع بألّا يخوضوا هذه التجربة لأنّه حاول من قبلِهم ووجد الأمر بلا فائدة، يُضيف: أنا لم اُكابر على نفسي وعدت إلى غزّة، هناك شبّان يخافون من كلام الناس في حال عودتهم إلى القطاع فقد يوسمون فلان إذا عاد خالي الوفاض من الغربة بأنّه "فاشل"، لكنّني وضعت كلام الناس جانباً وعدت إلى أهلي وبلدي لأبحث عن مستقبلي من جديد.

دفعت تحويشة عُمري من أجل السفر.

"أنا الآن عمري 23 عاماً ونصف ولكنّني تجرّأت وأخذت قرار العودة والعُمر لا يزال أمامي، والآن في غزّة سأبدأ من جديد بعد أن دفعت (تحويشة عمري) في عمل التنسيق الذي سيُخرجني منها، يُكمل عروق الذي نصح الشباب في ختام حديثه عدم السفر: الكثير من الأقارب والأصدقاء يأتون ويخبرونني بأنّهم سيبيعون ذهبهم أو كذا وكذا من أجل السفر والعمل في تركيا، أنا أنصح كل شاب مهما كانت حياته صعبة في غزّة بألّا يفكّر مجرّد تفكير في أنّ السفر سيحل له مشاكله، بل سيزيدها تعقيداً. أعرف شباب اليوم في تركيا والإمارات وغيرها من الدول يعضّون أصابع الندم ويتمنون العودة إلى غزّة. أنا عدت عن طريق طائرة الإجلاء التي وفرتها السفارة الفلسطينيّة في تركيا بالتنسيق مع سفارتنا بالقاهرة ودفعت تذكرة طيران بقيمة 750 دولار لأنّني استطعت الاستدانة من هنا وهناك وتدبّرت أموري، لكن يوجد آلاف يرغبون بالعودة ولكن لا يستطيعون.

يُشار إلى أنّه لا توجد أي إحصائيّة رسميّة صادرة عن الجهات الحكوميّة في غزّة أو حتى المؤسسات الحقوقيّة بشأن أعداد الشباب والعائلات التي هاجرت من قطاع غزّة خلال السنوات الأخيرة التي أعقبت عدوان 2014.

وتذكّرنا مأساة الشباب المُهاجر العائد إلى أرض بلده ليبدأ البحث عن مستقبله من جديد بعد أن خذلته التوقّعات والظروف، بمأساة مفقودي سفينة الإسكندرية (6/9/2014) الذين غادروا القطاع أملاً في العيش الكريم في الخارج، لكنّهم لم يعودوا إلى أحضان أُسرهم حتى يومنا هذا، إذ فُقدت آثارهم منذ ذلك الحين وسط تأكيدٍ من بعض الأهالي أنّ أبنائهم على قيد الحياة ولكن في السجون المصرية.

أحمد حسين-قطاع غزة/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد