يصادف يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام ذكرى ما يُسمّى بـ" يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني" الذي أقرّته الأمم المتحدة سنة 1977، بالتزامن مع الذكرى الثلاثين لقرار تقسيم فلسطين الصادر عنها برقم (181) لعام 1947.
مناسبة تغلغلت في عمق "التقاليد الوطنية الفلسطينية" حيث لم يعد إحياؤها تقليداً سنوياً، يقتصر على المنظمة الدوليّة -التي ظلمت الفلسطييين بقرار التقسيم قبل ذلك -فحسب، بل غدا كمناسبة "وطنية" تحييها الفصائل وبعض الفاعليات الأهليّة والإعلاميّة الفلسطينية في الداخل والشتات، ليبتعد بعض المنتقدين بالقول: "وكأنّ الفلسطينيين يحتفلون بقرار تقسيم بلادهم، وشرعنة وجود الكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني على 57% من أراضي بلادهم، مقابل 43% لأصحاب الأرض الفلسطينيين وفق قرار التقسيم، في تكريس لـ "تطبيع ذهني" مع "حقيقة" وجود كيان عنصري على أرض فلسطين التاريخية، رمي إليه هذا اليوم الأممي "
يحيي الفلسطينيون والمتضامنون معهم يوم التضامن هذا العام، بمناسبة مرور 43 عاماً على إقرار اليوم "العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني" و73 عاماً على صدور قرار التقسيم، لكن مشهدية الاحتفاء الفلسطيني الرسمي به تبدو وكأنها، محاولة لإنعاش ميّت، والجثّة هنا "حل الدولتين" الذي أرسى مدماكه ذلك القرار وباتت مضامينه الناظم المركزي للذهنية الفلسطينية الرسميّة.
وجهات نظر تعددت في قراءة هذه المناسبة ومضامينها، ففي رؤية عاميّة بسيطة هي فرصة للصراخ في " يوم شرعي" منحته الأمم المتحدة للفلسطينيين. وأخرى ترى فيها "الحقوق" وقد تجسّدت عرفاً عالمياً إزاء المسألة الفلسطينية، والأمل عند أصحاب هذه الرؤية، أن تتجسد واقعاً على الأرض، و"كفى الفلسطينيين شرّ المواجهة مع ما قُسم لهم ومن قسّمَ".
وثالثة تجتر أطروحات الحلّ المرحلي الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1974، فيما تحاول سلطة "أوسلو" من خلال هذه المناسبة، تذكير العالم، بأنّ للفلسطينيين حقّاً على أراضيهم بـ"دولة"، تراجعت حدودها عن المقسوم دوليّا، إلى ما وقّعت على تقسيمه "أوسلوياً" مع إبراز قابليتها لقبول حلول " الأمر الواقع" الجديد. ومن بين هذه وهاتيك وتلك، تُبَلور الفاعلية الفلسطينية دوماً رؤىً من خارج ذاك السياق، روئ ترتقي لطموحات الشعب الفلسطيني الذي لم يقبل يوماً التنازل عن ذرة من ترابه.
"لشرعنة وعد بلفور وليس مناسبة للاحتفاء"
الناشطة الفلسطينية في "منتدى فلسطين للمواطنة" المقيمة في فرنسا لانا صادق، اعتبرت أنّ "ذكرى صدور قرار التقسيم لا يجب أن تكون لدى الفلسطينيين مُناسبة للاحتفال، بل على العكس، فهي ذكرى لبداية فصول مأساتهم الأليمة التي لاتزال قائمة حتّى اليوم".
وقالت صادق لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين": إن "قرار التقسيم جاء لشرعنة وعد بلفور، لتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، فمن خلاله مكّنت الأمم المتحدة الحركة الصهيونية سياسياً، بعد نجاح بريطانيا بفتح أبواب فلسطين للمهاجرين اليهود وتمكينهم عسكرياً مقابل إضعاف وقمع الفلسطينيين على مدار ما يقارب ثلاثة عقود، من الاحتلال البريطاني لفلسطين".
ولفتت صادق، إلى أنّ "إسرائيل تلجأ لإستخدام هذا القرار، لإثبات ارتباطها القانوني بفلسطين، حيث قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في حينه تقسيم أرض فلسطين بين الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، وبين المهاجرين اليهود الجدد، تلبية لرغبة الحركة الصهيونية، وبنسبة تميل لصالح هؤلاء المهاجرين، رغم أن نسبتهم لم تكن قد تجاوزت ثلث عدد السكان".
حركات التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني التي تنشط في إطار حل الدولتين تفعل ذلك لأنها ترى فيه حلّاً للمسألة اليهودية
ووفق الناشطة الفلسطينية، فإنّ الأمم المتحدة أسهمت في خلق المشكلة الفلسطينية واستمرارها، بداية من قرار التقسيم، الذي أعطى السند الشرعي والقانوني لـ"إسرائيل"، مشيرة إلى أنّ هذا التضامن مع الشعب الفلسطيني ضمن هذه المناسبة الأممية، يقوم على أساس غير عادل ولا يلبّي الحقوق الوطنية الفلسطينية كاملةً، "فحل الدولتين حسب قرارات الأمم المتحدة، هو مناقض بحد ذاته لقرارات أخرى كحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني" حسبما أضافت.
كما لفتت صادق، إلى أنّ "العديد من حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني في العالم لا تزال تنشط في إطار حل الدولتين، بالرغم من معرفتها أّنّ هذا الحل هو غير عادل للشعب الفلسطيني" ونبّهت إلى أنّ هذا الحل بحسب وجهة نظرهم "هو حلّ للمسألة اليهودية وما تعرض له اليهود من مجازر وعداء عبر التاريخ، والذي كان من قبل الغرب نفسه".
ضرب الاحتلال لـ"حل الدولتين" يفتح آفاق أوسع في مفهوم التضامن
بات من نافل القول: إنّ طبيعة الكيان الصهيوني الاستعماري، لا تقبل أساسا بـ"حل الدولتين" بل أنّ الاحتلال استفاد على مدى اكثر من 30 عاماً من المفاوضات، لاستكمال سياسة التطهير العرقي على الأرض، ليس فقط تجاه الضفة وغزة، انما أيضاً بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام 48، الذين يخضعون لنظام " ابارتايد" ويتعرضون لسياسة العقوبات المختلفة، وفق الناشطة لانا صادق.
وأضافت: " إن برلمان دولة الاحتلال، بعد أن أقرّ قانون يهودية الدولة، إنما يقوم بتسريع عملية التهويد، خاصة لمنطقتي الجليل والنقب، بالتالي فان حل الدولتين أصبح غير قابل للتطبيق، إلاّ اذا قبلت القيادة الفلسطينية بمشروع دولة هزيلة، مكونة من معازل جغرافية محاطة بالمستعمرات وجدار الفصل العنصري وبدون أيّة سيادة".
كلّ تلك المعطيات، قد تضع جزءاً من حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني أمام حرج، "فهو لن يستطيع تبرير مواقفه، وبالتالي إمّا أن يبقى عليها، فيفقد مصداقيته، أو أن ينضم لحركة عامة على مستوى العالم للتضامن مع الشعب الفلسطيني بناء على الحقوق والعدالة" حسبما أشارت.
نشاط BDS أحد عوامل إحداث خرق في حركة التضامن نحو احترام حقوق الشعب الفلسطيني كاملة
وعلى صعيد حملات التضامن في فرنسا حيث تقيم صادق، أشارت إلى تعدد في المواقف التضامنيّة، بين من يدعم قرارات "منظمة التحرير الفلسطينية" وموقفها الداعي الى القبول بحل الدولتين حسب قراري الامم المتحدة (242) و(338)، و من يدعم توجهات حركة "حماس"، وجزء آخر مكون من أحزاب وجمعيات تدعم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق تقرير المصير، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، والمساواة للفلسطينيين في مناطق الـ 48.
كما نوّهت إلى حملة مقاطعة "إسرائيل" وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات "BDS" التي تعتبر خرقاً لمفهوم التضامن المكرّس وفق "حل الدولتين" وسياقية " اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني".
واستطاع نشطاء الحملة ومناصروها، تحقيق بعض الانتصارات خلال سنوات انطلاقها في فرنسا، رغم ما يواجهونه من تحركات مُضادة من الحكومة على الصعيد القانوني، ومن أنصار كيان الاحتلال، وفق صادق فإن "نشاط الحملة ونشاط بعض الجمعيات الفلسطينية وتغير الوقائع على الأرض وسياسات اسرائيل العنصرية ساهمت في إحداث خرق في حركة التضامن باتجاه احترام حقوق الشعب الفلسطيني كاملة".
إلّا أنّ تعميق هذا الخرق، يحتاج حسبما أكّدت الناشطة الفلسطينية لـ " بوابة اللاجئين الفلسطينيين" إلى تكثيف العمل مع الحركات المتعددة التي تتبنى الحقوق الفلسطينية، والحل المبني على قيام دولة فلسطين الديمقراطية العلمانيّة الواحدة لكافة سكّان فلسطين وعودة اللاجئين إليها، وتكريس خطاب وحدة الشعب الفلسطيني، بكافة توزعاته الجغرافية " لاننا جميعا نخضع لنظام استعماري عنصري استيطاني ولازلنا نعيش في نكبة مستمرة".
مسار انحداري لمفهوم التضامن مع الشعب الفلسطيني
من جانبه، رأى الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني حيّان جابر، أنّ انحداراً بمفهوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، بدا واضحاً ليس فقط على المستويات الرسمية، إنما على المستويات الشعبية العالمية، حيث انساقَ الوعي في مسار انحداري إلى مستوى من التضامن ضمن إطار الحق في دولة فلسطينية، ولكن دون حتّى تحديد ما هي هذه الدولة وحدودها " وكأنّما مشكلة الفلسطينيين فقط في دولة" حسبما أشار.
وأرجع جابر في حديث لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" ذلك، إلى تماهي النهج والجسم السياسي الفلسطيني الرسمي، مُمثّلاً بالسلطة ومنظمة التحرير والفصائل، مع المنحى العام للمجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة، التي جعلت ذكرى صدور قرار التقسيم، يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي يستند إلى حل الدولتين الذي تجاوزه الواقع على الأرض، و يتناقض أساساً مع الحق الفلسطيني، ومع قرارات دولية أخرى تعبّر عن الحقوق الفردية والجماعية للشعب الفلسطيني.
نهج التنازلات الذي بدأته م ت ف تماهى مع قرار التقسيم رغم تناقضه مع حقوق الشعب الفلسطيني
واعتبر جابر ذلك "إحدى الكوارث التي أفرزها النهج السياسي لمنظمة التحرير وكرّسته فيما بعد السلطة الفلسطينية بشكل واضح بعد اتفاقات أوسلو" حيث أنّ "جذر المشكلة الذي تجلّى في البرنامج المرحلي، تماهى مع الخطاب الدولي الذي يمثله قرار التقسيم، بغض النظر عن مدى تمثيله للحقوق الفلسطينية، ومدى توافقه أو تعارضه مع باقي قرارات المجتمع الدولي".
وأوضح جابر، أنّه بالعودة الى قرارات المجتمع الدولي والهيئات الدولية، هناك تعارض بين قرار التقسيم وقرارات أخرى كحق تقرير المصير الصادر عن الجمعية العامة برقم( 3236) في 22 نوفمبر 1974، وحق العودة، وحتى صك الانتداب، و بالتالي "هناك مجموعة تناقضات قانونية يمكن العمل عليها سياسياً إعلامياً وتوعوياً. الّا أنّ ذلك، قد تجاوزته القيادة الفلسطينية، التي تماهت فعليّاً مع قرار التقسيم وحل الدولتين رغم كل التناقضات التي تضمنها إضافة الى تناقضه مع حقوق الشعب الفلسطيني" حسبما أضاف.
وأشار الكاتب الفلسطيني، إلى أنّ الكارثة الأكبر، تمثّلت في أنّ نهج التنازلات التي تم تقديمها في البرنامج المرحلي، تضخّمت بشكل أكثف وأوضح بتوقيع اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقيات، "وهو ما حوّل قرار التقسيم من تقسيم فلسطين الى دولتين لشعبين بحدود واضحة وصريحة، الى حق الفلسطينيين في دولة بصيغة مبهمة، وبالتالي تم تقليص فلسطين الى حدود تتناهى الى الصفر، أوصلتنا بالنهاية إلى صفقة القرن التي حولتها الى جزر فلسطينية متفرقة تفصل بينها مستوطنات".
استنهاض مفهوم التضامن وفق استراتيجيات بديلة
ويرى جابر، أنّ الواقع الفلسطيني بحاجة إلى تغيير مفهوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، عبر استنهاض خطاب الحق الفلسطيني، المستند على الحق في دولة استناداً إلى قرار حق تقرير المصير المُشار إليه، وسواه من الثوابت القانونية والحقوقية والتاريخية للشعب الفلسطيني.
الدعوة لإقامة دولة المواطنة الواحدة هي النقيض المباشر لفكرة وجود دولة الكيان الصهيوني الاستعماري
وبالتالي لابد من العمل على استراتيجية جديدة، تقوم على تحويل " اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني" المُقر أممياً، إلى مناسبة لفضح الممارسات الاستعمارية العنصرية الصهيونية، على اعتبار أنّ الصهيونية كعقيدة ومؤسسات ثقافية وعسكرية وأمنية، تمثّل كارثة انسانية، ويشكّل وجودها خطورة ليس فقط على الشعب الفلسطيني الذي تحتل أرضه، إنما على العالم وعلى اليهود انفسهم الذين تقوم بتعبئتهم عنصريّاً وتستثمرهم في مشروعها الاستعماري، وهذه إشكاليّة، يتوجب علينا العمل عليها ومواجهتها مع شعوب العالم الساعية لاحقاق العدالة والمساواة، وفق جابر.
وأضاف، أنّ "فكرة الدعوة لإقامة دولة موطنة واحدة، على أساس حق عودة اللاجئين الفلسطينين، والتساوي بين سكّانها الحاليين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والاثننية، هي النقيض المباشر لفكرة وجود دولة الكيان الصهيوني العنصري الاستعماري، وذلك لا يتم الاّ بعد تفكيك الصهيونية ومؤسساتها وأدواتها لثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية".
ويرى الباحث الفلسطيني، أنّ هذه النقطة كفيلة بقلب المعادلة، إذا ما جرى اعتمادها كاستراتيجية بديلة، يجري على اساسها تعبئة الرأي العام العالمي وحركات التحرر، من خلال إعادة التاكيد على الحقوق الفلسطينية كاملة، وربطها بالقرارات الدولية، و فضح العنصرية والإجرام الصهيوني الاستعماري، ونقد بعض القرارات الأممية التي تتعارض مع نصوص القانون الدولي والحقائق التاريخية، وإعادة تأسيس خطاب فلسطيني تحرري وعالمي يسعى لإستعادة جميع الحقوق الفلسطينية المغتصبة، ومنها الحق في الارض، و حق العودة وتقرير المصير وبالتالي الحق في دولة تضمن العدالة والمساواة الكاملة لكافة سكّان فلسطين التارخية.
وبالتالي "فإنّ الحاجة لمثل هذه الاستراتيجية، هو نتيجة طبيعية لفشل القوى الفلسطينية المتمثلة بمنظمة التحرير وفصائل العمل الوطني، في التواصل مع حركات التحرر والشعوب، وتثبيت خطاب الحق الفلسطيني كحق تقرير المصير وحق العودة، ما أدّى إلى تراجع نحو خطاب يختصر المعاناة الفلسطينية بالحق بإقامة دولة، ولو كانت على أراضي مدينة أريحا، إلى جانب فشل استراتيجياتها في تحصيل الحقوق الفلسطينية التاريخية" حسبما أضاف.