دُمّرت خلال الحرب في سوريا بعض المخيّمات، وتحوّل 60% من لاجئيها ولاجئاتها إلى مهجّرين داخليّاً خلال سنوات الحرب، لتنخفض إلى 40% بحسب آخر معطيات أوردتها وكالة " أونروا" في تقرير النداء الطارئ للعام 2021، ما يعني أنّ الاف مؤلفّة من النساء الفلسطينيات تعشن مجرّدات عن مقومات عيشهنّ "الطبيعية"،أو على الأقل "الاعتياديّة" التي طبعت حياهنّ في سنوات ما قبل الحرب، بعد تحوّلهنّ إلى لاجئات مهجّرات، عدا عن فقدان عوامل الإعالة والأمان الإيوائي، فضلاً عن تشتت اسرهّن نتيجة الهجرة المتزايدة للأبناء، وفقدان العديدات لأزواجهنّ وأبنائهنّ بسبب الحرب.
الجدير بالذكر، أنّ أيّة جهة، سواء حقوقية أو مدنيّة ولا حتّى وكالة " أونروا"، لم توفّر احصاءات تظهر مدى تأثير الحرب على شريحة النساء الفلسطينيات في سوريا، سواء معيشيّاً أم اجتماعيّاً، ولم نشهد برامجاً خاصّة لاحتواء هذه الشريحة من أزماتها المركّبة، الّا أنّ الرصد اليومي لأخبار اللاجئين، يضع أمامنا العديد من الحالات الفرديّة التي لا تشبه سواها، من حيث حجم التأثّر بعوامل النزوح والانهيار المعيشي والاقتصادي والاجتماعي.
"أم يزن حمادة" إمرأة فلسطينية مهجّرة من مخيّم اليرموك وتعيش في منطقة صحنايا بريف دمشق، وأمّ لثلاثة أطفال، قبلت أن تتحدّث لـ " بوابة اللاجئين الفلسطينيين" عن واقعها الحالي، وتؤكّد أنّ ما جرّته الحرب على النساء الفلسطينيات المهجّرات من مخيّم اليرموك، لا يشبه مثيله في كافة عقود اللجوء الفلسطيني في البلاد.
ظروف التهجير ساوت المرأة بالرجل في المعاناة خارج المنزل بينما أبقت المسؤوليات داخله على عاتقها
وتقول "أم يزن" إنّ ظروف الحرب أزالت الفوارق الاجتماعيّة بين النساء والرجال في العديد من المهام إلى حدّ ما، حيث باتت مهام الإعالة وتأمين مستلزمات العيش ومتطلبّاته من مسؤوليّة المرأة كما الرجل، تعاني فيها المرأة لاستيفاء أجرة المنزل ومصاريف العيش والمدارس وسواها، الّا أنّ مسؤوليّات المرأة داخل المنزل بقيت على حالها، ما يؤشّر إلى أنّ ميزان المساواة ما يزال مائلاً، والمرأة تكابد معاناةَ مسؤوليّاتٍ مُضاعفة القتها ظروف التهجير على عاتقها.
وتعمل "أم يزن" في مجال تنجيد المفروشات مع إحدى الورش المختصّة في منطقة صحنايا منذ العام 2019، حيث وجدت هذا العمل "بشقّ الأنفس" حسب تعبيرها، نظراً لكون دخل زوجها الذي يعمل موظّفاً حكوميّاً، لم يعد يلبّي متطلبات أجرة المنزل والفواتير المعيشيّة الأخرى، التي تقضم كامل قيمته، فيما يتكامل عملها مع عمل زوجها لإبقاء أسرتها ضمن ظروف الحدّ الأدنى من العيش، بينما لا تجد لنفسها مساحة للراحة والتقاط الأنفاس.
ورغم أنّها حاصلة على شهادة من المعهد التجاري المتوسّط في دمشق، الّا أنّ حصول "أم يزن" على عمل ضمن اختصاصها، ضرب من ضروب المستحيل، في ظل واقع البطالة والانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد، والذي دفع الكثير من النساء للخوض في سوق العمل وبأيّة مهنة مُتاحة تحفظ لهنّ ولأسرهنّ كرامة الحد الأدنى من العيش، في وقت تجد نفسها مُطالبة للاستمرار في واجباتها كأمّ ومربيّة داخل المنزل.
وتصف "أم يزن" حياتها لـ " بوابة اللاجئين الفلسطينيين" بأنّها "حياة لا تشبه الحياة على الإطلاق"، من ناحية صعوبة التوفيق بين العمل خارج المنزل وداخله، فالمسؤوليات المنزليّة لا يمكن تقدير مدى صعوبتها وخصوصاً أنّ لديها أطفال أكبرهنّ فتاة بعمر 12 عاماً، حيث باتت هذه الأخيرة تتحمّل عبء العناية بأخواتها وأصغرهم صبيّ بعمر 6 سنوات، الأمر الذي يُفقد الأسرة توازنها النفسي والاجتماعي، وفق تعبيرها.
تخشى أم يزن أم تتفاقم الأوضاع أكثر ويصبح ما هو متاحاً الآن غير مُتاح في المستقبل القريب
تقول "أم يزن": أغيب عن المنزل يوميّاً منذ التاسعة صباحاً حتّى الخامسة مساءً خلال فترة العمل، وقبلها أقوم بتجهيز أبنائي للذهاب إلى المدرسة منذ الساعة السادسة والنصف صباحاً، وأعدّ ما استطيع من طعام للغداء، حتّى يجده زوجي وأبنائي جاهزاً عند عودتهم من مدارسهم وزوجي من عمله، فيما تنتظرني بعد عودتي إلى المنزل، الكثير من الأعمال التي أقوم بها، فيما تساعدني ابنتي في اتمام بعضها على حساب دراستها وأمورها.
واقع تخشى "أم يزن" أن يطول أو يتفاقم، أو أن يمتدّ أكثر، فبالرغم من استقرارها في عمل يدر عليها دخلاً يمثّل لعائلتها أساس معيشي بالحدّ الأدنى إلى جانب دخل زوجها، الّا أنّ الواقع غير مضمون في البلاد التي تتداعى أحوالها الاقتصاديّة باستمرار، ومن هنا لا تكفّ الهواجس المرعبة عن التحكّم في مخيّلتها ازاء اسرتها واطفالها، في حال فقدت عملها، أو بلغت الأوضاع في البلاد مبلغاً يُفقدها وزوجها توفير الإيواء ولقمة العيش لأبنائها.
حال هذه المرأة الفلسطينية المهجّرة عن مخيّم اليرموك، تشاركها فيه الكثير من النساء، الّا أنّ العمل غير متوفّر الا للقلائل، فيما تكابد أخريات الفقر المطلق، ولا يقوَينَ على مواجهته، الّا بالكثير من التدبير، كحال اللاجئة " أم اسماعيل" وهي من مهجّرات مخيّم اليرموك وتعيش في بلدة يلدا جنوب دمشق.
وفي حديث مع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" عن واقعها في يوم المرأة العالمي الذي يصادف في يوم 8 آذار/ مارس من كلّ عام، تقول: إنّ الأعياد والمُناسبات التي تخصّ المرأة لم تعد موجودة في قاموس النساء الفلسطينيات، سواء يوم المرأة أم عيد الأمّ، ولا حتّى أيّة مُناسبة عامّة أخرى.
توكّد "أم اسماعيل" أنّ القضيّة الأساسية التي تعيش من أجلها هذه الأيّام، تتلخّص في كيفيّة تدبيرها لأمور الطعام لأسرتها المكوّنة من 4 أبناء إضافة إلى زوجها، الذي يعمل لأكثر من 10 ساعات يوميّاً ليجلب ما يستطيع جلبه من مال ليسد رمقهم يوماً بيوم.
تقضي أم اسماعيل يومها في البحث عمّا تشتريه بمصروف منزلها اليومي لتتدبّر أمور الطعام لعائلتها
واكتفت اللاجئة بالإشارة لموقعنا، إلى أنّ زوجها يعطيها مصروفاً يوميّاً للمنزل، لا يتجاوز الفي ليرة سوريّة في أغلب الأحيان، أي ما يعادل أقل من دولار واحد، وعليها تدبّر أمور الطعام، لافتةً إلى أنّ هذا المصروف يشكّل جلّ ما يحصّله زوجها يومياً من عمله بورشة لتقطيع الحديد بمنطقة الحسينية، بينما تقع على عاتقها مسؤوليّة التصرّف من خلال مبلغ تتدهور قيمته الشرائيّة يوماً بعد يوم.
تجول "أم اسماعيل" يومياً على باعة الخُضار والمُزارعين في المنطقة الجنوبيّة لدمشق، لتحصّل منهم ما يتيسّر لها من خضراوات "مضروبة أو مافيها روح" حسب تعبيرها، والتي يبيعها المزارعون بأسعار أقلّ من النوعيّات الجيّدة والنظيفة، لتنتقي منها ما يصلح طبخه، وتضيف :" معيشتنا تقتصر على البطاطا المسلوقة، أو الكوسا والباذنجان والبندورة التي انتقيها من اكوام البضاعة التالفة، اصنع لأولادي أكلة بسيطة، وأحيانا تأتينا معونة برغل ورز وزيت واتدبّر فيها الأمور".
ظروف حياة اللاجئات الفلسطينيات في سوريا، لا تشبه سواها لدى النساء الأخريات، فمنذ تهجير الفلسطينيين عن بلادهم على أيدي العصابات الصهيونية عام 1948، باتت المخيّمات المجال الحيوي الوحيد للاجئين واللاجئات، ففيها تأسست مقوّمات حياتهم الاقتصادية والمعيشيّة وكذلك السياسية، الأمر الذي جعل من كارثة الحرب في سوريا وتهجيرهم عن مخيّماتهم وتدميرها، تجرَّ عليهم ويلات مضاعفة وخصوصاً النساء اللواتي بتن أمام مسؤوليات مركّبة في واقع يفتقد لأدنى مقومات الأمان المعيشي والاجتماعي، ولا حلّ قريب لهنّ الّا بإعادتهنّ إلى منازلهنّ، علهنّ يعدن إلى حياة عاديّة كانوا عليها، وهذا ما بات أقصى طموح لهنّ.