متوارثةٌ معاناة اللاجئة الفلسطينية، التي تعيش في بلد ومجتمع ونظام يرفضها، خطّت طريقها، تحدّت المجتمع واللجوء والجهل والعنف، ونهضت من تحت ركام آلامها لتصنع واقعاً متميّزاً.
وُلدت "سوسن حكمت عبد الحليم" من عائلة معروفة داخل مخيّم المية ومية بمدينة صيدا جنوب لبنان، تربّت على الحب والحنان وتحمّل المسؤولية والاستقلالية الشّخصية، إلى أن رماها نصيبها في الزواج إلى مخيّم نهر البارد شمال البلاد، حيث بدأت رحلتها بالعمل هناك سنة 1991.
عملت "عبد الحليم" في عدة مؤسسات تربوية ثم افتتحت معهداً للتربية، وسمّته معهد نهر البارد التربوي، بعدما لمست العدد الكبير للمتسربات الفلسطينيات من المدارس، واستطاعت أن تنظّم شهادات المعهد الرسمية بالتوافق مع معاهد لبنانية، ومن خلاله تمكّنت من تخريج عدّة فتيات تمكنّ لاحقاً من الالتحاق بالجامعة.
وأثناء تلك الفترة، كانت سوسن تُكمل دراستها الجامعية وهي أم لطفلتين، بالتزامن مع معاناتها من العنف الجسدي والنفسي واللفظي الذي كانت تتلقاه من زوجها، لتتخذ قرار الطلاق بعدها والذي كلّفها التنازل عن الكثير من حقوقها الماديّة، إضافةً إلى المهاجمة المجتمعية، ورغم ذلك تمكّنت من إدارة حياتها.
وعن ذلك تقول سوسن لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين": "كان لدي بنتان، وكنت اصطحبهما معي إلى المعهد والجامعة، كانت ابنتي الكبيرة وهي في سن الثامنة من عمرها تجلس في مكتبة الجامعة إلى أن أنهي محاضراتي، وكنت في ذلك الوقت أطلب منها تلخيص موسوعات علمية، وهذا كان من الأمور التي بلورت شخصيتها فيما بعد فحظيتُ بابنتين متميزتين".
وتضيف : "صحيح كنت موظفة وأعمل، وعندي بنات، ولكنّي نجحت في تنظيم وقتي وكانت تجربتي حافزاً وقدوة للكثيرات من مخيم نهر البارد ليكملن دراستهن الجامعية، خاصة البنات العاملات".
التسرّب المدرسي للاجئات.. دفعها للقول: "لا للجهل"
تقول سوسن: إنّ التسرّب المدرسي في مخيم نهر البارد ظاهرة قويّة، ونسبتها أعلى من مخيّمات صيدا، إذ لمست منذ أول مجيئي عام 1991، حقيقة أنّ كل بيت في نهر البارد يكاد لا يخلو من فتاة متسربة، وخاصة البنت البكر.
وتضيف: "إنّ سبب تسرّب الفتيات من المدرسة في الغالب، ناتج عن ضغط الأهل، الذين يجبرون بناتهم لترك تعليمهن بهدف مساعدة الأم في أعباء المنزل، حيث النساء في ذلك الوقت كن يعملن خارجاً لجلب الطعام ويعتمدن على بناتهن لتدبير شؤون المنزل"
وعليه، وجدت سوسن حاجة وواجباً مجتمعياً، دفعها لزيارة الآباء وإقناعهم بضرورة إلحاق بناتهم في المعهد من أجل إعادة تأهيلهن.
حاولت سوسن أن تكسب ثقة الأهالي من خلال تذكيرهم بواجبهم الديني والأخلاقي تجاه بناتهم من ناحية ضرورة تعليمهن، وطالما تلقت ردوداً مثل: "اذا بتطلع البنت من البيت مين بدو يشتغل بالدار؟"
كان يقابها الأهالي بدايةً بالرفض حسبما أكّدت، إلاً أنّ استخدامها المنطق الديني والشرعي في مجتمع يعتبر نفسه محافظاً، والحديث عن أهمية التحصين من خلال الثقافة، جعلها تكسب ثقة الكثيرين.
وتلفت سوسن إلى مسألة هامّة: "كوني إمرأة محجبة، وكوني أعلّم القرآن والدين، جعل الأهل مطمئنين من ناحيتي، وبنفس الوقت استغليت توجهي الديني لإقناعهم بضرورة حصول البنات على شهادة علميّة".
وترى أنّ، موضوع التسرب المدرسي هو مشكلة في نظام وكالة "أونروا" أيضاً، وكانت قد تعاونت مع عدد من مدراء مدارس "أونروا" لتطّلع بنفسها على ملف المتسربات، وتحاول التواصل معهن.
حملت سوسن ذات الفكرة معها عندما عادت، بعد طلاقها، من مخيم نهر البارد إلى مخيم المية ومية، وحسب قولها: إن إحدى البنات اللواتي تسربن من صف السابع متوسط،، وعملت على إعادة تأهليهن، الآن استطاعَت أن تتخرج من الجامعة بشهادة علم نفس تربوي.
تقول سوسن: لا للجهل، وتؤكد أنها ترفض التسرب رفضاً قاطعاً، وخاصة تسرب الفتيات، "فعلى الفتاة أن تحمل على الأقل شهادة أو مهنة تمكنها من الاعتماد على نفسها وإعالة ذاتها في مجتمع يرفضها".
واجهت الطلاق والعنف الأسري وثقافة مجتمعية ظالمة
نجاح سوسن في مجتمع وزمن لم يعتد نجاح النساء، جعلها تعاني الكثير، فهي ترى أنّ سبب تعنيف زوجها المتواصل لها هو الغيرة، وتقول: "كان العنف من سمات طبعه، وكان يعنّفني على أتفه الأسباب، ويستغل أي حوار ليضيف عليه العنف النفسي واللفظي والجسدي."
حاول زوجها تقليل قيمتها وقيمة عملها ونجاحها ليُشعرها بالفشل وهو تصرف ناتج عن ثقافة مجتمع ذكوري يربّي الرجل على أساس أنه مركز الصورة ومركز الحديث ومركز كل النجاحات.
تضيف: "طالما تعرضت للعنف الجسدي وتأذيت إثر ذلك، إلى أن اتخذت قراري بالانفصال وكان ذلك في سنة 2007 قبل أحداث مخيم نهر البارد بثلاثة شهور".
تصف حالها آنذاك: "عانيتُ من مجتمع ذكوري يرفض قراري، لأنني رفضت الخضوع للعنف، وورقة الطلاق تثبت الظلم الذي تعرّضتُ له عند الفسخ، فقط لأنني تمسّكت بإبنتيّ الصغيرتين وخفت عليهما من الضياع، حُرمت من النفقة الشرعية عليهما بحجة أنني أخذتهما وعليّ تحمل مسؤولية تربيتهما، حتى نفقة فترة العدّة لم تُفرض لي من المحكمة السنيّة رغم أن الزوج أخذ بيت الزوجيّة الذي اشتريته أنا من مالي، وذقت بعد الطلاق مرّ الظلم ومرّ هذا المجتمع الذكوري بكل أطيافه."
إن الضرب ثقافة في نهر البارد، كانت نساء رجال الوجهاء الذين حاولوا الإصلاح بيني وبين طليقي ترينني أجسامهن ولونها أزرق من آثار الضرب!!
من أبرز معالم الذكورية وضوحاً ثقافة "أن المرأة عليها أن تصبر"، واجهت ذلك سوسن مع عائلتها بالطبع، ومع رجال ووجهاء المجتمع في نهر البارد الذين كانوا يتدخلون لحل المشكلة بينها وبين زوجها.
تقول سوسن: "إن الضرب ثقافة في نهر البارد، كانت نساء رجال الوجهاء الذين حاولوا الإصلاح بيني وبين طليقي، ترينني أجسامهن ولونها أزرق من آثار الضرب" في محاولة لهؤلاء النساء الإفصاح عن وجعهن ووجع حقيقة كون أزواجهن ينظّرون عكس ما يتصرفون.
رفضت سوسن العنف، وحاولت توعية النساء من حولها بضرورة رفضه أيضاً إذ إنه لا يجوز شرعاً ولا قانوناً ولا من الناحية الأخلاقية، إلى أن تعرضت بعد طلاقها، لمحاولة تهديد بضرورة خروجها من المخيم، تحديداً من حي صفورية، والعودة إلى صيدا، "وإلّا رح يصير شي ما يعجبها"، كان ذلك التهديد من رجال طبعاً وجدوا توعية نسائهم على مناهضة العنف خطراً عليهم.
تقول سوسن: أنها تعرضت لكلام قاسي جداً، إذ وبخها أستاذ دين مرة قائلاً: "يعمي بنت مين إنت لتعترضي؟ إيه وضربك شو يعني؟"
وتضيف: "عملية الرفض كان بدها قوة لتقولي لا، أنا يلي قوّاني أكتر دراستي التربوية والصحة النفسية."
لاحقتها الذكوريّة في ميدان عملها
وتكثر في المجتمعات ذات الأنظمة الأبوية "الفسرجة"، أو ما يعرف بالـ"mansplaining "وهي اعتقاد الرجل دائماً، أنه يعرف ويفهم أكثرمن المرأة حتى في مجال تخصصها، وبالتالي يمكنه إدارة وتوجيه الأمور أفضل.
لا تقتصر "الفسرجة" على المجتمعات التي يغيب عنها العلم فقط، بل يتعداها إلى كل أشكال وبيئات المجتمع حتى أكثرها تحرراً، فالمؤسسة التربوية التي عملت بها سوسن لم تسلم من طابعها الذكوري، إذ كانت، ولأنها ذات شخصية قوية أولاً وامرأة مطلقة ثانية، تُمنع من البروز والظهور ومناقشة أفكارها على الرغم من تخصصها وحيازتها ماجستير في التربية.
رغم كل ما عانته سوسن عبد الحليم، الّا أنها لم تيأس، بل أكملت دراستها الجامعية بعد طلاقها لتأخذ الماجستير التربوي، ومن ثم عملت في عدة مؤسسات تعمل على دعم الطفل والمرأة التربوي والنفسي، وإعادة تأهيل النساء والفتيات، ومنهم مركز الرحمة ومركز الاستماع في مخيّم عين الحلوة، المدعوم من قبل منظمة "يونيسيف"، وبرنامج التدخل المبكر بالتنسيق مع وكالة "أونروا" والاتحاد الأوروبي.
ثمّ عملت مشرفة تربوية، وساهمت من خلال ذلك في تأسيس وإطلاق مدرسة أكاديمية صيدا، إلى أن قررت افتتاح مشروعها الخاص، حيث عملت على فتح مدرسة شبه مجانية تدعى مدرسة الغد المشرق الجديد.
لا تجعلي اليأس يدخل قلبك نحن شعب ابتلينا بالعنصرية عدا على الذكورية الطاغية في مجتمعاتنا لذا تسلّحي بالثقافة
ويعود سبب افتتاحها المعهد إلى طموحها لإكمال مسيرتها التربوية أولاً، وبسبب عدم استقبال المدارس الرسمية للاجئين الفلسطينين والسوريين. ولا شك لكي تنفذ أفكارها وتعمل بها ميدانياً ولتتخلص من ذكورية المؤسسات التي تعبت وهي تواجهها، تقول: "في كل مدرسة عملت بها كنت أواجه الذكورية على كافة مقاييسها، وكانت مدرستي الخاصة تحدياً كبيراً طبعاً منذ بداية تأسيسها، حيث استكثرها عليّ كثير من الذكور، لكنني استطعت تثبيت دعائمها السنة الماضية مادياً ودفع بدلات إيجارها، وهي مدرسة خاصة غير ربحية بمرسوم جمهوري لبناني وتلاميذها معظمهم من الجنسيات الفلسطينية والسورية، مع وجود أقلية لبنانية، وهي تعتمد على أقساط الطلاب، ابتداءً من الروضة ولغاية الصف التاسع متوسط، وبين التلاميذ كثيرمن الحالات المتعثرة أكاديمياً واجتماعياً وأيتام، والتحديات الآن التي أواجهها هي تحديات جائحة "كورونا" كغيرنا من المؤسسات في لبنان، وإنني جاهدة لإخراج المدرسة من هذه الأزمة، ونحن كنا قد برزنا أكاديمياً من خلال الاون لاين ورغم عمر المدرسة القصير "سنتان" إلاّ أننا أكاديمياً لا نقل عن أي مدرسة لها من العمر سنين".
بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، توجه سوسن رسالة لكل امرأة فلسطينية وتقول لها: "لا تجعلي اليأس يدخل قلبك نحن شعب ابتلينا بالعنصرية، عدا عن الذكورية الطاغية في مجتمعاتنا، لذا، تسلّحي بالثقافة وبادري ليكون لك موقعك الريادي في مجتمعك، وناضلي من أجل حقوقك الإنسانية أولاً، والقانونية، والدينية، ولا تسمحي لأحد أن يتعدى عليك أو عليها، وما زال متاحاً لكل أم وكل إمراة أن تطوّر من نفسها ثقافياً وتربوياً وعلمياً.
سوسن مثال للمرأة واللاجئة التي تستطيع أن تكون كل شي، وأن تتحدى أي شي، خارج إطار القوالب النمطية التي زرعها في لاواعينا المجتمع، وهي مثال أيضاً للمرأة التي ظلمها التاريخ، ولم تنصفها الدول والأنظمة والمؤسسات وقوانين الواقع، والتي تُعلّمنا أن المرأة يضيع حقها إن لم تنتزعه بأيديها وتقل "لا".