ما يزال فيروس "كورونا" منتشراً في مدن وقرى ومُخيّمات اللاجئين بالضفة المحتلة، وحتى اليوم لم تستطيع الطواقم الطبيّة السيطرة على الأرقام المُخيفة للمرضى داخل المستشفيات وخاصّة في غرف العناية المركّزة لمدّهم بالأكسجين ليبقوا على قيد الحياة، ولو لعدّة أيامٍ أُخر.

أزمة فيروس "كورونا" لم تعد بجديدة، بل أصبح وقعها على مسامعنا -ربّما جميعاً- أقلّ وطأةً مقارنةً بعامٍ مضى رُغم اشتداد خطورة هذا الفيروس مع مرور الوقت، لكنّ الجديد في كل مرّة، المبادرات المجتمعيّة والنشاطات فرديّة كانت أم جماعيّة، والتي تخرج للنور في ظل الروتين اليومي المليء بروائح "الهاي جل" والكمامات التي أصبحت تُلازمنا كما هواتفنا في كل مكان.

في مُخيّم الفارعة للاجئين الفلسطينيين، 17 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من مدينة نابلس، أقسمت الطفلة لمار (5 سنوات) على والدها سامي أبو السمن ليأخذ حصّالتها اليوميّة ويتبرّع بكل ما فيها من نقود لصالح الحملة التي يتحدّث عنها الجيران في المُخيّم من أجل توفير الأكسجين لمرضى المُخيّم، فماذا كانت القصّة؟.

يوم الرابع عشر من شهر مارس/ آذار الماضي، أطلقت اللجنة الشعبيّة لخدمات مُخيّم الفارعة حملةً لجمع التبرّعات من أهل الخير ومن استطاع من سكّان المُخيّم، وذلك كما قالت اللجنة في إعلانٍ لها، إنّه من أجل "حياة أبنائنا وأمهاتنا وآبائنا، ومن منطلق النقص الحاد للإمكانيّات المتوفّرة في مستشفياتنا لمواجهة جائحة كورونا، جاءت هذه الحملة لشراء أجهزة التنفّس الاصطناعي من أجل توفير أكثر من جهاز لإنقاذ الحياة في حالة حدوث أي طارئ داخل المُخيّم".

بابا خذ من سقّاطتي واشترِ دواء

بالعودة إلى الطفلة لمار، منذ صِغرها وهي تخبّئ مصروفها اليومي في "السقّاطة" أو "الحصّالة" أو "الحوّاشة" كما عوّدها والدها هي وأخوتها، ومنذ بداية أزمة جائحة "كورونا" كانت لمار تُبادرُ دوماً وتطلب من والدها أن يأخذ المال من حصّالتها ليُطبّب جدّتها عند مرضها، أو والدتها، أو عمّتها، وتقول: "بابا خذ من سقّاطتي واشتر دوا"، وفيء يومٍ من الأيّام سمعت لمار والدها يقول لوالدتها: لا يوجد معي أي أموال، لتُجيب لمار مسرعةً: "عادي بابا خذ من سقّاطتي واشتر أغراض البيت"، ينقل لنا والدها سامي الصورة خلال حديثه لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين".

يُتابع: في بداية أزمة "كورونا" أصيب خالي عبد الناصر جوابرة بالفيروس وكانت حالته الصحيّة سيّئة، وكنت أتحدّث وأتشاور أنا وإخوتي لنجمع المال من بعضنا البعض ونشتري له جهازاً للتنفّس الاصطناعي، وكانت لمار على هذا الحديث وطلبت منّي أن آخذ من حصّالتها لأشتري له الجهاز من أجل أن يعيش، بكل براءة، ومن هُنا أدركت أنها بذرةُ خير ستنضج مع مرور الأيّام، وعندما أعلنوا عن حملة جمع التبرّعات في المُخيّم أوّل من خطر ببالي هي لمار، وعندما أخبرتها بالأمر قالت حرفياً: "آه بابا، خذ كل سقّاطتي واشتري أجهزة عشان الناس ما تموت من كورونا".

اللجنة الشعبية في مخيم الفارعة كرمت لمار وجاد لمبادرتهما

وخلال حديثه، عبَّر الوالد عن سعادته الكبيرة بما بدرَ من طفلته، يُكمل لموقعنا: الحمد لله ستكون بذرة خير، وحتى هذه اللحظة هي سعيدة جداً بعد أن كرّمتها اللجنة الشعبيّة هي والطفل جاد، كرّموها وأعطوها "حصّالة" هديّة، وقالت لي: هذي بدي أعبيها مصاري وأرجع أتبرّع فيها كمان مرّة، وبالفعل تضع مصروفها في "الحصّالة" بشكلٍ يومي.

1-1.png

الطفل جاد هو الآخر لم يتوانى عن التبرّع كما فعلت لمار، فُهنا، تُثبت المُخيّمات كما عادتها أنّها تُحب الحياة، وأنها منبع حقيقيّ للعطاء. جاد أبو الحسن (6 سنوات) هو طفلٌ من مُخيّم الفارعة، يقول والده لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، أنّه ومنذ الإعلان عن انطلاق حملة التبرّعات لشراء أجهزة التنفّس أحببت أن تأتي المُبادرة من ابني جاد من خلال التبرّع بحصّالته التي يجمع فيها مصروفه اليومي، أخبرته بالأمر ووافق على الفور.

ودعا والد الطفل كافة أهالي المُخيّم رغم أنّهم لم يقصّروا تجاه هذه الحملة بالمطلق، إلى المزيد من التكافل من أجل الحفاظ على أرواح المرضى المُصابين بفيروس "كورونا"، لافتاً في ختام حديثه لموقعنا، إلى أنّ ابنه جاد يفهم تماماً ماذا تعني "كورونا"، ومدى خطورتها علينا جميعاً، وليس مجرّد أنّ والده اقترح عليه التبرّع بمصروفه اليومي من أجل إنقاذ مرضى المُخيّم.

حملة التبرعات جاءت انطلاقاً من حالة الاكتظاظ التي تُعاني منها المستشفيات في الضفة

رئيس اللجنة الشعبيّة لمُخيّم الفارعة، عبد المنعم مهداوي، أكَّد لموقعنا أنّ فكرة جمع التبرّعات جاءت انطلاقاً من حالة الاكتظاظ التي تُعاني منها المستشفيات الحكوميّة وغير الحكوميّة، إذ لا يوجد متّسع في الأسرّة لمرضى "كورونا"، وخاصّة في ظل تصاعد أعداد الإصابات، ومن هُنا جاءت فكرة توفير أجهزة تنفّس بسعة (5 لتر أكسجين) لمرضى المُخيّم الذين لا يستطيعون الحجز في المستشفى في ظل حالة الضغط الموجودة، ولنكون جاهزين في هذه الحالة لتوفير جهاز تنفّس للمريض في بيته تحت رعاية ممرّض أو أخصائي، وفعلاً كانت الحملة ناجحة، وأهلنا في المُخيّم استجابوا بشكلٍ سريع واستطعنا حتى اللحظة شراء سبعة أجهزة.

1-2.jpg

 

داخل المخيم من الصعب تنفيذ التباعد الاجتماعي

وقال مهداوي: إنّ اللجنة تتعامل مع الأمر بمهنيّة عالية جداً، إذ أنّ أي مريض يكون بحاجة إلى جهاز تنفّس عليه إحضار تقرير طبّي يُثبت حاجته لذلك، لأنّ هذه الأجهزة في بعض الحالات قد يكون ضررها أكثر من نفعِها إذا كان المريض ليس بحاجة إليها، مُؤكداً أنّ تكلفة الجهاز الواحد تبدأ من (2000 إلى 2500) شيكل بحسب المواصفات المختلفة.

وبشأن الطفلة لمار، والطفل جاد، قال مهداوي إنّ اللجنة الشعبيّة حرصت على تكريمهما لأنّهما غامرا بمصروفهما اليومي المتواضع، وهذا ينم على الانتماء لدى أبنائنا في المُخيّمات الذين يتعاطفون مع مرضى مُخيّمهم، مُشيراً إلى أنّ مُخيّم الفارعة يُعاني من انتشار فيروس "كورونا" كباقي مُخيّمات اللاجئين في الضفة الغربيّة، وكما يعلم الجميع أنّ المُخيّم مكتظ سكانياً، ونسب البطالة مُرتفعة جداً داخله، وكل هذه الأمور لا تُعاني منها المدينة، ولا القرية، بمعنى أنّ التباعد الاجتماعي من الصعب جداً تنفيذه داخل المُخيّم، وبشكلٍ يومي نسجّل إصابات جديدة بالفيروس ومنها موجودة في المستشفيات على أجهزة التنفّس الاصطناعي، وسجّلنا منذ بداية الأزمة في مارس الماضي 7 حالات وفاة داخل المُخيّم متأثرةً بإصابتها بالفيروس.

دورٌ خجول لوكالة "أونروا"

وعن جهود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" تجاه المُخيّم في ظل هذه الأزمة، بيّن مهداوي أنّ إمكانيّات وكالة الغوث متواضعة حتى من قبل أزمة "كورونا"، والتقليصات التي أقدمت عليها الوكالة أساسها سياسي وهذا انعكس بالتأكيد على مُخيّمات اللاجئين، لافتاً إلى أنّها وزّعت طروداً صحيّة وغذائيّة على اللاجئين المُصابين بالفيروس في المُخيّم بشكلٍ متواضع جداً، والسلطة الفلسطينيّة دعمت المُخيّم في بداية الأزمة وخاصّة العمّال، ولكن تقلّص الدعم مع اشتداد الأزمة على الجميع.

وفي ختام حديثه مع موقعنا، أكَّد رئيس اللجنة الشعبيّة أنّه ومنذ بداية شهر رمضان لم يصل المُخيّم أي نوع من المساعدات، وهذا ما يدفع التزام اللاجئين بالحجر الصحي نسبياً إلى حدٍ ما، والسبب الأساسي "لقمة العيش".

أحمد حسين/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد