من رحم المعاناة يولدُ التميز والإبداع ليكون أصحابها في صدارة قائمة شرف خاصة بهم، ومن هؤلاء كانت الطالبة الكفيفة آية عزّو، التي حصلت على تقدير جيد جدًا في الفرع الأدبي (اقتصاد واجتماع) في الثانوية العامة بلبنان لعام ٢٠٢٠/٢٠٢١م.
شاءت قدرة الله أن تولد "آية" اللاجئة الفلسطينية في لبنان كفيفة، وأن تكبر في إطار حياةٍ صعبة داخل منزلٍ صغيرٍ جدًا لا تدخله الشمس ولا الهواء، يبعد 2 كيلو متر عن مدرستها الواقعة في منطقة بئر حسن جنوب العاصمة بيروت.
ورغم قساوة الظروف، وصعوبة التعلم التي واجهتها في المراحل الدراسية الأولى من عمرها، إلا أنّ آية امتلكت عزيمةً كفلت تفوقها منذالصِغر، معتمدةً على نفسها من بعد أمّها.
لا ترى “آية عزّو” بعينيها منذ ولادتها، لكن لم يدفعها ظلام البصر إلى الاستسلام ولم يمنعها من إكمال مشوارها الدراسي، وأصرّت على ألّا تكون أسيرة للظروف، وقرّرت التفوّق دراسياً.
في الامتحان لم تكتب المكلفة بتلقي الإجابات مني ما كنت أقول فحصلت على مجموع قليل
وعن بداية مشوارها الدراسي الناجح، تقول آية لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: بدأتْ رحلتي مع النجاح في الصف التاسع "البريفيه" تحدّيتُ كلّ الظروف الصّعبة وأصررتُ على النجاح وقد خضّتُ التحدي داخل قاعة الامتحان ذاتها عندما سمعت المراقبة تقول لشابّة كلّفتها وزارة التربية للكتابة عنّي لماذا تكتبين غير ما تقوله لكِ آية؟! وهنا كانت الصّدمة بالنسبة لي وتساءلتُ في نفسي ماذا فعلتُ لتقومَ بهذا العمل كانت تكتب قبل أن أقول لها ولا تنتظرني حتى أفكّر بالإجابة على الرغم من أنّها تتلقّى مقابلاً ماديّا، ولكن سرعان مااستعدت قوّتي وقررت أن أُكمِل الامتحان، والحمد لله نجحت لكن شعرت بالألم لأن المجموع أقلّ من قدراتي.
تعرضت للتنمر ولم يسمحوا لي بتصوير المقررات الدراسية !!
تضيف آية: إنه مع بداية دراستها في المرحلة الثانوية انتقلتُ إلى مدرسة جبران تويني الرسمية وهي الوحيدة التي فيها "دمج" لكن رحلتي مع هذه المدرسة كانت صعبة جدًا، لم تشعر يوماً بالراحة أو الانتماء للمكان، لم توفّر المدرسة لها أي جهد مراعاةً لظرفها، فقد كانتُ الكفيفة الوحيدة بين 45 طالباً وطالبة، ولم يسعَ أيُّ معلّم على شرح شيءٍ لي أو حتى سؤالي إن كنتُ فهمتُ أمْ لا، وتعرّضت للتنمّر والنبذ من قبل المدرسة، حتى أنّ إدارة المدرسة كانت ترفض تصوير المقررات المكتوبة لها رغم أنها تدفع ثمنها.
باختصار كانت سنةً صعبة جدًا على هذه الفتاة الصغيرة، ورغم هذا تجاوزتها ونجحت.
لن أنسى يد المعلّمة التي بأصابعها شرحت على يدي الدرس وبسطته بطريقة سهلة أفهمها
وفي الصّف الحادي عشر تواصلت والدة آية مع مديرة التعليم في وكالة غوث وتشغيل اللائجين الفلسطينيين "أونروا" إيمان مصرية ووافقت على دخولها ثانوية الجليل، وعن اللحظة الأولى لدخولها المدرسة تقول آية:" كان هناك خوفٌ وخجلٌ كبيران ينتاباني لكن ما إن دخلت باحة المدرسة، كلّ شيء زال، لأوّل مرّة في حياتي أشعر أنّي بمكان أنتمي إليه، يريدني، يعاملني بحبّ وعطاء بدون تمييز أو عنصريّة، على عكس سنوات عمري الدراسيّة السابقة، إدارة المدرسة وضعتني في صفّ بالطّابق الأرضي كي لا أتعذّب على الدرج، وفي حال كان هناك نشاط في الطابق العلويّ كان أصدقائي في الصف يساعدوني، وخلال الحصص كان كلّ أستاذ وأستاذة بدون استثناء يأتي بجانبي ويسألني بصوتٍ منخفض إذا فهمتُ الشّرح أو لا، لن أنسى يد المعلّمة التي بأصابعها شرحت على يدي الدرس وبسطته بطريقة سهلة أفهمها"، وعن معاملة الطلاب تقول آية: " كل زملائي فيالصّف كانوا يتسابقون لمساعدتي لأوّل مرّة أشعر أنّ لديّ أصدقاء أنني عاديّة ولست مختلفة عن أحد، كنت أتحدّث معهم بكلّ شيء وأتحدث عن أمور حياتي ما يسعدني وما يزعجني، وجدتُ وأخيرًا من يشعر بي أنني إنسانة قبل أن أكون كفيفة، عاملوني كأختٍ لهم".
كنت أجلس لأكثر من عشر ساعاتٍ باليوم أسمع التسجيلات وأحفظها
تضيف آية "حصلت على معدلي المرتفع رغم أنّني لم أستطع إمساك القلم وحدي كما بقية الطالبات، بل كانت معلمة خاصّة أحضرتها أمّي لي تساعدني في البيت وتسجّل لي الدروس عبر الهاتف إضافةً إلى مساندة المعلمين في المدرسة الذين تواصلوا معي عبر الهاتف لشرح أيّ مسألة عالقة، حاولت أن اجتهد، ووضعت جدولًا منذ بداية العام لتنظيم الوقت والمناهج حتى لا يفوتني شيء، أو أتعرّض للضغط، كنت أجلس لأكثر من عشر ساعاتٍ باليوم أسمع التسجيلات وأحفظها، هو أمرٌ شاقٌّ جدًا خصوصًا أنّ بيتنا صغير ولديّ أربع إخوة فلا يمكنني أنأسمع بصوتٍ مرتفع، ورغم هذا الحمد لله استطعت حفظ المنهاج والدروس المطلوبة بالكامل".
آية اليوم، مقتنعة بأن من يريد الحصول على ما يريد عليه أن يمتلك العزيمة والإرادة ويضع هدفاً أمامه، وسيصل حينها، كانت تطمح لدراسة الهندسة أو الطب غير أن وضعها الصحي لا يسمح بذلك، فاختارت ان تكمل دراستها الجامعية في كلية المحاسبة حيث يتوفر هناك كتب خاصة بالمكفوفين.
آية كسرت جليد البؤس ورفعت رأسنا عالياً
تشق الابتسامة وجه والدة آية "سوزان عكيلة" وهي للتوّ عائدة من الجامعة التي تنوي تسجيل ابنتين كفيفتين لها فيها وتقول: إن تفوق آية كسرَ جليد البؤس الذي مرّت به أسرتها، معبرة عن فخرخا بابنتها التي لم توفّر جهدًا كي تساندها لتتميز.
تضيف الأم: "عندما رأيتها متفوقة منذ طفولتها، دعمتها وعززت تفوقها، كأن الله استبدل بصرها بنور العلم والتفوق، الذي ترجمته في سنوات حياتها الدراسية، حتى مرحلة الثّانوي، رفعت رأسنا عاليًا".
وتشير الأم إلى أنّ آية مثال لغيرها، يُحتذى به، كما الكثيرين، الذين لم يستسلموا للإعاقة، أو ظروف ذويهم الصعبة؛ مضيفة "من المهم على كل أم وأب دعم أبنائهم، فذلك مهم جدًا بالنسبة لهم من الناحية المعنوية والنفسية"
تشير عيكلة إلى أنّ لديها خمسة أبناء يعانون من مشاكل في القلب وثلاثة منهم مكفوفون، تحدّت ظروف حياتها الصّعبة، ولم توفّر جهدًا إلاواستخدمته لتربية أبنائها وحثّهم على الدراسة والتّفوّق قائلة: "العلم هو سلاحهم به سيجتازون الصعاب وبه أنا أوصلهم لبرّ الأمان، فأنا لن أبقى لهم مدى الحياة، وحتى لو أنّ سوق العمل للأسف غير مجهّز لهم إلا أنّ قدرة الله فوق كلّ شيء".
تحلم بالسفر إلى دولة تحترم حالات أبنائها وتقدّر علمهم، فهي لا تعرف ماذا يخبئ لهم المستقبل في المخيم وفي بلد ذي قوانين مجحفة بحق الفلسطينيين.
تقول: "إن الله أعطاني ثلاثة مكفوفين تقبّلتهم بصدر رحب ورضى تام وآمنتُ أنّ أولادي هم هديّة الرحمن، ورغم ضيق الحال وصعوبة الحياة والظروف الاقتصادية إلّا أنني تعاملت مع أبنائي كأي طفلٍ عاديٍ، يقومون بأعمال المنزل كلّها، يعتمدون على أنفسهم، مسؤولون للغاية في تصرّفاتهم، حتى إذا ما أخطؤوا عاقبتهم، بهذه الطريقة وصلنا إلى هنا، وأنا أسعى دائمًا لتحقيق الأفضل لأولادي، وأتمنّى على الدولة اللبنانية أن تهتم أكثر للمكفوفين وتخصص لهم كتبًا خاصّة بهم تمكنهم من القراءة للاندماج مع صفهم ولمساعدتهم في الدراسة، وأتمنى أن تتبنى أي مؤسسة خيرية مشوار آية وأختها الجامعي حيث إن الحياة الآن صعبة جداً فإضافة إلى قسط الجامعة هما بحاجة إلى مصروف خاص وإلى مواصلات خاصّة.
وقبل أن نغادر عرضت آية عبر موقعنا إمكانية مساعدتها لأي طالب كفيفٍ يحتاجها لشرح أيّ مواد دراسية.