من زواريب مخيم برج البراجنة في العاصمة اللبنانية بيروت إلى خشبات أعرق مسارح العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، عبرت مسرحية "هيك صار فينا" الحدود، حاملة معها توتة الدار، لتكون عنصراً أساسياً من سرد ست قصص حقيقية عاشتها لاجئات فلسطينيات في المخيم، لخصن واقع نساء المخيمات في لبنان بعامة، لتحاكي أحداثاً من الحب والتضحية والخيبة والأمل. 

المميز في الأمر، أن الممثلات هن صاحبات التجربة الحقيقية للسرد، حيث جسدن واقعهن وتحدثن بلسان حالهن بجدارة على مدار 9 أيام من العروض في أهم المسارح الدنماركية، مثل مسرح "جيلروب"، "منهت ألبرج" ومسرح "ثانوية ريسلينغ".

0782ea0b-ab4c-4ba3-b15a-eedd7f3ff5f5.jpg
من أحد العروض في كوبنهاجن 

 وجاءت المحطة الثانية من العروض على مسرح روضة القسام في مخيم برج البراجنة، على مدار يومي الجمعة والأحد الماضيين، حيث يمثل هذا المكان رمزية خاصة لفريق العمل، لكونه نقطة الانطلاق بالنسبة لهن.

وفيقة لوباني، آلاء عويتي، آمنة بيرقجي، سميرة ياسين، آية قاسم، ومهى مرة، ست ممثلات تنتمين إلى جيلين مختلفين، وحدتهن التجارب المتشابهة والهموم المشتركة في كل منزل داخل مساحة المخيمات الضيقة المثقلة بالأزمات المعيشية.

5 سنوات من الجهد

 "الموضوع لم يحدث في ليلة وضحاها"، تقول كاتبة العمل اللاجئة الفلسطينية فاديا لوباني، إنما "هو عمل عمره ما يقارب الخمسة أعوام، الولادة كانت عندما عاشت معي مخرجة العمل الدنماركية صوفي بريكلي لنحو تسعة أشهر، لمست تفاصيل الحياة اليومية في مخيم برج البراجنة بحذافيرها. بدأنا مع فتيات روضة القسام بالتحضير للعمل الذي كان صعباً جداً، وحتى فكرة المسرح والوقوف عليه لم تكن واردة مطلقاً، لكن خلال جهد متواصل على مدار خمسة أعوام، وصلنا إلى هذا الإنتاج الفلسطيني".

  تشرح لوباني لبوابة اللاجئين الفلسطينيين عن مصدر إلهامها بقصص النساء الست بالقول: يوجد لدينا مكان مخصص لنساء مخيم برج البراجنة كي يتحدثن عن قصصهم، ونحن نجمع القصص هذه، حتى أن هناك فتيات من جانبنا يذهبن للنساء في بيوتهن لسماع  قصصهن. من هنا يمكن أن نستوحي موقفاً أو حكاية صغيرة من كل قصة ونقوم بإعادة صياغتها.

"لطالما كانت توتة الداار عنصراً مشتركاً في القصص الست، حيث تم اختيارها رمزاً للمسرحية لما تحمله من دلالة لفلسطين كونها أحد أهم عناصر التراث الشعبي المتوارث منذ زمن أجدادنا وتمسكت به الأجيال الفلسطينية جيلاً بعد جيل"، بحسب لوباني.

ما يجمع النساء الست في قصصهن الحزينة هو التضحية والتخلي عن أحلام تراود جميع الفتيات في عمر المراهقة، يبدأن حياكتها بنسيج من الخيال، وسرعان ما يرتطم بواقع المخيمات الفلسطينية في لبنان الحبلى بصعوبات معيشية وخيبات وتضحيات اللجوء.

WhatsApp Image 2021-10-18 at 6.24.41 AM.jpeg

بين الحب والتضحية

مهى مرة: شابة فلسطينية تزوجت عن حب، كانت هي وزوجها يعملان سوياً ليستطيعا العيش، لكن فجأة أوقف زوجها عن العمل ورضخ لواقع البطالة الفلسطينية في لبنان، في حين استمرت هي في عملها كمدرسة. في يوم عادت إلى المنزل لتجد زوجها يكسر الأثاث ويضربها ويطردها منه.

ستة أشهر بقيت مهى تعاني حال زوجها دون دراية منها بسبب تصرفاته. استشارت أقرباء لها فكان الرد أنه يتعالج بنفسه، لكن في الواقع هو رافض فكرة العلاج تماماً. بعض الأشخاص قالوا لمهى إن زوجها تلبسه شيطان، ويجب أن تزور الشيوخ ليتعالج. بحثت مهى مراراً وتكراراً عن علاج لحالته، وإذ علمت أن النباتات قد تساعده، فبدأت تزرعها على حائط بيتها كي يهتم بها وتخرجه من عزلته.

وفيقة لوباني: تعود قصتها لقديم الزمان حيث كانت تحب شاباً حين كان المخيم بجانب النهر، فكانت تذهب إلى النهر لتملئ جرار الماء وتحضر الحطب، فهناك الفتياتكن يلتقين بأحبائهن. وفيقة كانت تحب حبيبها من بعيد، وحين طلبها للزواج رفضت والدتها لأن في ذلك الزمان لا أحد من الأهل كان يسمح بالزواج عن حب لبناته.  

آلاء عويتي: هي عروس جديدة وفي يوم زفافها تخرج من المخيم لتأكل وتصفف شعرها وتحضر نفسها، وهذا كله لم يمنعها من الخوف الذي كان يراودها دائماً. سبب القلق الدائم لديها أن منزل عائلتها غير قابل للسكن، وقد عاشت طفولتها خائفة في هذا المنزل، لكن ليس لهم مكان آخر وهم عاجزون عن ترميمه. بالتالي تملكها هذا الخوف، وباتت تتساءل دوماً هل من الممكن أن يعيش أولادها المعاناة نفسها؟.

آية قاسم:  فتاة خجولة جداً أنهت تعليمها الثانوي، لكنها عاجزة عن إكمال مسيرتها الجامعية بسبب عدم توفر المال الكافي، فبقيت في البيت الذي يتألف من غرفة واحدة.

ذات يوم جاءت فاديا لتصور قصة عن حياة آية، التي كانت تراقب فاديا طوال الوقت، لتسألها الأخيرة إن كانت تحب أن تعمل، فوافقت آية سريعاً، وبدأت تكتب قصصها الخاصة. إلى أن أحبت شاباً، وخيرها بعد سبعة أعوام من الزواج بين عملها الذي يعد بالنسبة لها طموحها وأحلامها وبين منزلها الذي يشكل حبيبها وأمانها واستقرارها.

 آمنة بيرقجي: تعتبر أن أصحاب الحظ في مخيم برج البراجنة يشكلون 5% فقط كونهم يحصلون على منح دراسية، وهي لم تكن منهم كونها غير متفوقة رغم أنها تمتلك قدرات.

تقارن آمنة نفسها بأخيها الذي حاول أن يسافر ثلاث مرات إلى الدنمارك لكن محاولاته باءت بالفشل. المرة الأولى خدعه السمسار وسرق ماله، الثانية وصل إلى اليونان فقط وكان سيوضع في ثلاجات الموت، والثالثة تزوج من امرأة مختلفة تماماً عنه، لينتهي به المطاف إلى الكنبة التي كان يجلس عليها في المخيم، ويعود إلى الدوامة ذاتها.

سميرة ياسين:  تعرفت على زوجها عند خالتها، وقد توفيت زوجته الأولى وكان حزيناً جداً ويبكي أمامها، هذه المرة الأولى التي رأت فيها سميرة رجلاً يبكي بهذه الطريقة، لتعمل خالتها على إتمام الخطبة بعد مرور وقت.

في مخيم نهر البارد، لم يكن أي رجل يشتري الورد لزوجته ويمشي به في السوق، إلا زوج سميرة الذي اشتهر بذلك أمام الناس وبدؤوا بتقليده بسخرية كونه عملاً مستهجناً لديهم. في يوم طلبت منه سميرة ألا يحضر لها الورد، استجاب زوجها لها فبدأ يخبئه بكيس ويحضره لها دائماً كالمعتاد.

إلى يوم أصيب زوجها بمرض ولم تستطيع إحضار الطبيب والدواء له في وقت متأخر إلى أن توفي. فقالت حينها إنه دائماً كان  يأتيها بالورود، حان الوقت أن تحضر هي له الورود على قبره.

تفاعل الحضور

تقول لوباني: "قصة سميرة تفاعل الحضور معها بشكل خاص، وبدؤوا بالبكاء معها، حيث لم يستوعبوا حجم المعاناة وكيف لرجل أن يمرض ولا يتوفر له إسعاف أو دواء ويصل به المطاف حد الموت".

وتتابع: "كان العرض باللغة العربية وقد كانت صوفي سبق وترجمت كل المحتوى المسرحي باللغة الإنجليزية، بالتالي تفاعل الجمهور الدنماركي وتعاطف مع النساء بشكل كبير. وبعد ختام كل عرض كان هناك نحو نصف ساعة حوار مليئة بالأسئلة العميقة، حيث تفاجئ الجمهور أن هناك مخيمات تعاني أوضاعاً معيشية واقتصادية صعبة إذ كانوا يضحكون مع نهفات العمل ويبكون مع أوجاعه".

"هيك صار فينا" ليست الولادة الأولى لأعمال الكاتبة المسرحية فاديا لوباني، إنما سبقها سلسلة أعمال مسرحية، كـ "صباح الخير حبايبي" على سبيل المثال، قدمت على خشبة مسرح روضة القسام في برج البراجنة منذ خمسة سنوات واستمرت بشكل دوري وصولاً إلى اليوم، وقد لاقت أصداءً إيجابية بين أهالي المخيم.

تشير لوباني إلى أن "السفارة الدنماركية كانت مواكبة لأعمالها المسرحية من خلال المخرجة صوفي، لكن في آخر عمل وهو "هيك صار فينا"، وجهت السفارة لهن دعوة لعرض المسرحية في العاصمة كوبنهاغن بالتعاون مع وزارة الثقافة الدنماركية، وتفاجأ فريق العمل بالجمهور الدنماركي كم هو راق ومتعاطف مع القضية الفلسطينية".

وتشير إلى أنه "خلال العرض كان من بين الحضور أصحاب الاختصاص، وقد قيموا العمل بدقة، وكان النقد الجامع أن قصص الفتيات تلامس القلوب. وقالوا لنا إنهن  يملتكن سر المسرح،  ولم يصدقوا أنهن لسن ممثلات وأن خلفيتهن تعود لمعلمات".

تحلم لوباني بأن تصل هذه القصص إلى كل مسارح العالم، وأن تشكل أكاديمية مسرحية في مخيم برج البراجنة لتدرس فيها المسرح وتنجح النساء الفلسطينيات في إيصال معاناتهن إلى العالم.

تعتبر لوباني هذه الخطوة مهمة جداً وستثابر لإنجاحها لعدم وجود أشخاص أو كتاب أصحاب اختصاص يتحدثون عن قصص سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان. بالتالي بات من المهم بالنسبة لديها أن تتكلم النساء بلسان حالهن عن معاناتها لتصل إلى أكبر قدر من التفاعل.

ملامسة المعاناة عن قرب

"لا ينبغي أن تكون فلسطينياً لتعشق القضية".. هذا ما تجسده المخرجة الدنماركية صوفي بريكلي، التي تعمل في قضية الحقوق الفلسطينية منذ ١٨ عاماً، وتعتبرها قريبة جداً إلى قلبها.

في حديث لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، تقول صوفي: "أتيت إلى مخيم برج البراجنة منذ ٥ أعوام بصفتي عالمة أنثروبولوجيا، وقد عشت مع فاديا مدة ٩ أشهر، وتشاركنا في منزلها وحياتها اليومية في المخيم، وكنت أعمل في روضة الأطفال معها.  وفي هذا الوقت أصبح لدينا حلماً مشتركاً لأنه لم يكن يوجد مكان للنساء لكي يعبرن فيه عن أنفسهن. وهذه كانت بداية فكرة أن نؤسس مكاناً تشعر فيه النساء بالأمان ويعملن على إيصال قصص أهل المخيم. الجميع يتحدث عن النساء في المخيم، لكن الأجدر أن يتكلمن هن بأنفسهن عن أنفسهن".

عبرت صوفي عن سعادتها من تفاعل الجمهور مع أحداث المسرحية، حيث لمست تعاطفاً كبيراً منهم تجاه النساء، ووجهت لهن الكثير من الأسئلة والاستفسارات، وربما أحد أهم الأسئلة "لم يعيشون في مخيم بعد كل هذا الوقت من اللجوء"، وهذه كانت فرصة لشرح الوضع الفلسطيني في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

WhatsApp Image 2021-10-18 at 6.23.35 AM (1).jpeg
من العرض في مخيم برج البراجنة 

من خلال متابعتها ليوميات اللجوء الفلسطيني في لبنان على مدار 9 آشهر، تؤكد صوفي أن "هناك أمور وأزمات صعبة جداً تحصل في المخيم، إذ لا يوجد كهرباء ولا مستشفيات، لكن المجتمع داخل المخيم وكل النساء التي التقيت بها يحاولون أن يحسنوا من أوضاعهم قدر استطاعتهم، وهذا يكفي لأن يكون لديهم أمل".

وتتابع: "الكثير من الناس تتوقع حين نتكلم عن الفلسطينيين في المخيمات، بالتالي ستكون القصص مأساوية، ولكننا ننتج أيضاً قصصاً مضحكة لأن جميعها سوف تلمسنا بشكل أو بآخر، وهذا ينطبق على سكان المخيم الذين إن شاهدوا القصص في العروض سيشعرون بأن هذه قصصهم أيضاً.

أحلام كبيرة تولد يومياً خلف جدران اللجوء في لبنان، تتبدد مع أول رياح تعصف بها، ليكون الامتحان الأقوى في لحظة تخطي الصعاب إلى مستقبل مشرق في خضم الظروف الصعبة المحيطة. 

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد