أشهر طويلة بين عامي 2014 و2015 عاشها اللاجئ الفلسطيني في مخيّم اليرموك جنوبي دمشق محمد دياب، في أحد مخيمات "كامبات" اللجوء التي وصل إليها في السويد، مهجّراً من سوريا إثر الحرب، دون أن يُمارسَ موهبته في الرقص والمسرح، وبلا أفق منظور لاستئناف حلمه الدراسي والفنّي، ما أوصله إلى حافة اليأس والاكتئاب.

"كنت أشعر وكأني في سجن يضم قرابة 400 شخص، وفيه زعيم يوزّع الغرف والأغراض على المساجين، ممنوع من العمل والدراسة، وسط غابة. كانت فترة اكتئاب." يقول دياب في حوار مع بوابة اللاجئين الفلسطينيين واصفاً بدايات لجوئه داخل مجتمع جديد، لا يربطه معه سوى انعدام المعرفة المتبادلة.

وجد دياب نفسه مع اللاجئين الجدد الذين توافدوا بزخم إلى السويد في تلك الفترة، كـ "حالات" مجهولة بالنسبة للمجتمع المُضيف، ولا لغة لديه ليجيب عن كمِّ الأسئلة التي حاول السويديون من خلالها كسر جهلهم بمن يفِد إلى أراضيهم من مهاجرين جدد وأسباب هجرتهم.

لذا حاول الفنان اللاجئ، التغلّب على هذا الواقع، بالبحث الدؤوب عن فرص تعيده إلى خشبة المسرح وساحاته، التي هجرها في سوريا بعد تجربة مبكرة وفي ظروف استثنائية، أغنت موهبته وعززت إدراكه لما يريده منها.

 ولكن تكاليف الالتحاق بأحد استوديوهات الرقص التعبيري في السويد صدته عن فرصة وجدها، وحالت 150 دولاراً، بينه وبينها، في حين لا يربو مبلغ الإعانة الذي كان يتلقاه عن 70 دولاراً، لا تكاد تكفيه ثمن طعامه وشرابه ومواصلاته.

لكسر حاجز عدم معرفة اللغة.. خطاب الجمهور بالمسرح الصامت

عام 2015، قرر دياب خوض تجربته الأولى في السويد، مع مجموعة من الشابات والشبّان من اللاجئين الجدد، كانوا يخططون لتأسيس فرقة رقص، وكان قد تعرف عليهم خلال بحثه عن فرص أو اجتراحها.

الّا أنّ المجموعة كلّها لم يكن أفرادها قد تعلموا اللغة السويدية بعد، والتي يُكثر أهلها السؤال عن اللاجئين والمهاجرين وأسباب توافدهم، وما الذي جرى معهم وماهي قصصهم، فولدت لديه فكرة عرض "إنسان" التي كتبها وأخرجها، وعرضتها فرقة "صرخة" وهو الاسم الذي صار للفرقة الوليدة.

يقول محمد دياب: كانت مشكلة كبيرة بالنسبة لنا أننا لا نستطيع ان نتحدث عن أنفسنا وعن مشاكلنا بسبب عدم امتلاكنا اللغة، وخصوصاً أنّ كثيراً من السويديين لا يهتمون بما يحصل خارج بلادهم، ولم يستوعبوا لماذا هذا الكم الهائل من اللاجئين يتوافد إليهم".

اعتمد عرض "إنسان" في تشرين الأوّل/ أكتوبر، على الإيماء والحركة والتعبير الراقص، في مشاهد تحاكي عذابات المعتقلين في سجون النظام السوري، وكيف تنتظر الأم ابنها المعتقل لسنوات، والحبيبة لحبيبها ويعود شهيداً، وسائر معاناة الحرب التي دفعت الناس للهجرة، ومخاطر ركوب البحر، كل ذلك في عرض مسرحي صامت لمدّة ساعة، شهده مسرح في مدينة "هالمستاد".

 

10-2.jpg

10-1.jpg

العرض كان بالنسبة لدياب وزملائه، خطوة أولى على طريق نجاح بدأ يخط مساره، بعد أن حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، حتّى طلبت إدارة المسرح، أن يُعرضَ على فترتين في ذات اليوم، لعدم قدرة المسرح على استيعاب الكم الكبير من الحضور، لتتوالى النجاحات والجوائز لاحقاً، ويوظف هذا اللاجئُ الفلسطيني عمله وإبداعه المسرحي في عرض قضايا اللاجئين والمهاجرين.

10-3.jpg

يشير دياب إلى إنّ ما واجهه من مصاعب وأوضاع نفسية سيئة في سنة اللجوء في "الكامب" كاد يدفعه للتخلي عن فكرة الرقص والمسرح، وشعر أنه أتى إلى المكان الخطأ، ويقول: "صرت أفكر أنى انتقلت من واقع في سوريا رغم قسوته، إلا أنّي كنت أمارس فيه شغفي وأسست فرقة، وفجأة أتيت إلى مكان وكأنّ أحدهم قد رماني في غابة، لا أحد فيه يسألني ما أريد فعله وماذا أريد أن أدرس".

ويصف فترة اللجوء الأولى في "الكامب" بأنها متأرجحة بين حالتين، إمّا الانطلاق إلى الأمام، أو الهبوط للأسفل "وليس الجميع لديهم خيارات وقوة وطاقة تنتج ما تريد من خلالها." حسبما أضاف.

بدايات شغوفة تحت وابل القصف والدمار

 كانت موهبة محمد دياب المولود سنة 1996 في مخيم اليرموك، بالرقص والمسرح، قد بدأت  في عمر 10 سنوات، ومارس موهبته ضمن فرق الرقص الشعبي التي كانت موجودة في المخيّم، في حدود إمكانياتها ومراكزها المحدودة، وحين بلغ الرابعة عشر من العمر، كانت الحرب في سوريا تزداد شراسة، ولم يكن يفكّر حينها دياب بالمسرح والرقص أكثر من مجرّد هواية، وكان إكمال تحصيله العلمي هو هدفه الأساسي.

يذكر دياب في حديثه لموقعنا ما جرى خلال تقديم الفرقة عرضاً فنيّاً في مدرسة "أسد بن فرات" وسط المخيّم، وكانت حينها مركزاً لإيواء المهجرين من المناطق المنكوبة بالحرب، وكان العرض من طراز "الكوميديا السوداء" للتخفيف عن الأطفال، في حين كانت الطائرة الحربية تحوم فوق المخيّم وتقوم بعمليات قصف لمنطقة الحجر الأسود المحاذية.

10-4.jpg

"كانت مفارقة إنّه عم نخفف عن الأطفال وفي طيارة فوقنا" يقول دياب، ويضيف: "هذا الشيء أعطانا حافزاً أكبر نظراً لحاجة الأطفال لمثل هذه الأنشطة"

 ويضيف: عملت مع فرق رقص معروفة في سوريا وتطوّرْتُ كثيراً، وتمكنت من فهم طرق العمل وأساليبه. وفي عام 2014 قرر دياب مع صديقه يوسف حمدان تأسيس فرقة "موريا" للمسرح الراقص، وواصلت الفرقة تقديم عروضها وتطوير عملها، بعد خروجه من المخيّم إثر استهدافه وانتقاله للعيش في حي الأمين وسط دمشق الى حين وصوله السويد.

المسرح .. مدونة للتاريخ

مثّل عرض "إنسان" في السويد انطلاقة لمحمد دياب وفرقته، للتواصل مع المجتمع السويدي، وتعريفهم على قضيّة اللاجئين وطالبي اللجوء القادمين من سوريا وغير سوريا، وعلى إثره، أتيحت له فرصة عمل مع منظمة ثقافية سويدية، كـ "عامل ثقافي"، مهمته مساعدة طالبي اللجوء في "الكامبات" وتقديم عروض مسرح لهم، والبحث عمّن يهوى العمل في هذا المضمار.

ويعتبر دياب أن عرضَ "دمشق" الذي قدمه خلال عمله في السويد، شكل له دفعة نجاح ثانية صنعها في هذا البلد، وهو عرض مقتبس من رواية سويدية تحمل ذات العنوان، وتحكي قصة مواطن سويدي قدّم لجوءاً في سوريا خلال ثمانينيات القرن الفائت، إلّا أنّ العرض قد عكس الرواية، ولاقت نجاحاً كبيراً، نقله إلى عدد من المدن الأوروبيّة.

يقول دياب: إنّ هذه الانطلاقة في السويد، دفعته للتفكير بالخطوة الثانية، وهي إيصال قضايا اللاجئين وماذا حدث ويحدث لهم عبر المسرح، موضحاً: "نحن في فترة زمنية يجري فيها تسجيل التاريخ، وللمسرح مهمة في كتابته، وخصوصاً في مواجهة كذب الإعلام أحياناً والصور الذي ينتجها عن اللاجئين، وكلام الناس عنهم الذي يكون بمعظمه كذباً" على حد تعبيره.

من هنا، بدأ دياب بالبحث عن قصص اللاجئين، وما يحدث معهم وما يتعرضون له من ممارسات عنصريّة واستغلال، ومشاكل فيما يخص إيجاد المنازل والعمل وسواها، وتحويلها إلى موضوعات لعروض مسرحيّة.

وكان عرض "أرقام / NUMBERS" الذي تم إنتاجه عام 2017، نموذجاً واضحاً عن عمل دياب وفرقته، وهو عرض يحكي كيف تُعامل المنظماتُ السويديةُ اللاجئين باعتبارهم أرقاماً، وهو ما استفزّه منذ بدايات لجوئه.

يقول دياب: معاملة المنظمات للاجئين كأرقام، واختزال اعتباريتهم الإنسانية برقم، ذكرني بالرقم الذي يعطيه السجان للمعتقل في سوريا حين يستشهد تحت التعذيب.

كما رصد عرض دياب "أرقام" انتهاكات بعض مسؤولي وناشطي المنظمات ضد اللاجئين، ومنها ما حمل طابعاً عنصرياً ويقول: "في تلك الفترة كنت أعمل على موضوع الاندماج في المخيمات، والمسؤولة الأعلى مني كانت تمارس العنصرية، وهو ما أثار استغرابي، كيف تكون مسؤولة عن اللاجئين وتتعامل بعنصريّة وتأنف عن مصافحة الأطفال اللاجئين." وهو ما تناوله في عرضه.

ويشير إلى أنّ "توظيف المسرح ليكون منبراً جريئاً لقضايا اللاجئين، يجعل الفنان أحياناً يخسر الكثير" وهو ما حصل مع دياب حين قامت المنظمة بفسخ عقدها معه، "فمستوى الحريات في السويد ليس افلاطونياً ولكننا نقدّم ما نراه" حسبما أضاف.

تنوّع الجمهور، ولم يعد يقتصر على العرب في السويد، بل صار متعدداً من سويديين وغيرهم، وهذا ما وضع دياب وفرقته في موضع مسؤوليّة كبيرة، في إنتاج العروض وصياغتها بطريقة تصل للجمهورين، ويكون عال الاحترافيّة. حسب قوله.

يضيف دياب: "أغلب جمهورنا كان من العرب بنسبة 80%، وهم يفهمون عملنا، ولكن المشكلة كانت لدى الجمهور السويدي الذي لم يكن قادراً على فهم عملنا." ويشير هنا إلى عمل حمل عنوان " نوبة هلع" عرض في مهرجان "هالمستاد" ووصل إلى عدّة مسارح في السويد، وعالج مشاكل الشباب في المجتمع التي غالباً ما يتجاهلها السياسيون، ولا أحد يجرؤ على تناولها.

وتناول "نوبة هلع"  معاناة اللاجئين الجدد مع "التروما" واضطراب ما بعد الصدمة، وخصوصاً أنّ اللاجئين قادمين من مجتمعات ليس لديها وعي لمسألة الأزمات والأمراض النفسية، وتنظر لمن يذهب الى طبيب نفسي على أنه " مجنون" ربما، وهو ما يدفعه للّجوء إلى وسائل غير سليمة للهرب من واقعه كالمخدرات، وهذا بالضبط ما عالجه العرض.

  جائزة "هالمستاد" الثقافية يرفعها لاجئ فلسطيني

يقول دياب عن عرض "أرقام" وما تلاه، بأنّه كان النقلة النوعية التي قلبت الموازين، وجلب ردود فعل نوعيّة، ومنها من قبل سياسيين سويديين عبروا عن إعجابهم، وشكّلوا فهماً جديداً لهذه الأزمة عبر العرض، وصار السياسيون جزءاً من جمهور العروض التي يقدمها.

وازدادت المسؤولية حين نال الفنان الفلسطيني السوري جائزة "هالمستاد" الثقافية في حزيران/ يونيو من عام 2022 الجاري، التي تعتبر حلماً لكل المشتغلين في ميدان الثقافة في السويد. وكان قد حصل قبلها في كانون الثاني/ يناير من ذات العام على جائزة أفضل فنان في مدينة "يوتيبوري" التي تخرّج من أكاديميتها للباليه والرقص المعاصر مؤخراً.

10-5.jpg

ويواصل محمد دياب، رحلة تحصيله العلمي والأكاديمي في مجال الرقص والمسرح، حتّى قرر أن يستقر في هذا المجال، ويكمل دراسته تخصص "إدارة المشاريع الثقافية الدولية" في جامعة يوتبوري بالسويد.

وحوّل فرقته "موريا"، إلى مؤسسة تنفذ مشاريع فنيّة للأطفال، وتتبنى أشخاصاً موهوبين، وتقدّم لهم استوديوهات فنيّة، وتساعدهم على جلب تمويل لتنفيذ مشاريهم، رغم الصعوبات التي واجهتهم وخصوصاً خلال فترة وباء "كورونا".

ويختم دياب قائلاً: "نحن لم نصل الى مستوى احترافي بعد لكننا على الطريق، تطورنا منذ 2015 الى 2022، فنياً وفكرياً بكل شيء تقريباً، وسنواصل تحقيق هدفنا البعيد عن الاستعراض فقط، وإنما ترك أثر في وعي المتلقي، يفكّر به ويحدث تغييراً ما، وهذه إحدى مهام المسرح".

خاص/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد