"فلسطين لا تحزني يا زهرة البلدان... فلسطين فيكي شباب جدعان، انتو جدعان يلي ضيلتكم بفلسطين، بس نحنا لا... طلعنا هون للعذاب والغم والهم" هكذا بدأت الحاجة عسلة ابو ناصر اللاجئة الفلسطينية من قرية "صفورية" المهجرة إلى مخيم نهر البارد شمالي لبنان، حديثها مع ابن أخ زوجها الذي يعيش في مدينة الناصرة المحتلة بفلسطين وهي تكلمه عبر اتصال فيديو.
بفعل تطور التكنولوجيا تمكنت الحاجة عسلة خلال السنوات الأخيرة بتحقيق حلمها برؤية قريتها صفورية والتواصل مع أقارب لها بقوا في فلسطين عقب نكبة فلسطين التي صادفت ذاكراها الـ 75 في 15 أيار/ مايو الماضي.
سبعة عقود ونصف العقد وهي لاجئة بعيدة عن قريتها التي احتلت من قبل العصابات الصهيونية في 16 تموز/ يوليو عام 1948، هناك ولدت عسلة أبو ناصر عام 1939، وحين هجرت مع عائلتها بقوة القصف والأسلحة لم تكن تتجاوز التاسعة من عمرها.
احتلال صفورية
ما تزال تذكر تفاصيل ذلك اليوم الرمضاني حيث بدأ جيش عصابات الاحتلال بقصف القرية من الطائرات الحربية، تقول: إنه كان يوم الخامس من رمضان وكانت عائلتها مجتمعة على طعام الإفطار وبدأ طيران الاحتلال يحوم فوق قرية صفورية، حينها استغربت عائلة عسلة من سماع صوت الطائرات وفزعت، وما هي إلا لحظات حتى بدأت برمي "القيظان" الصواريخ على القرية، ودمرت منزلاً هو ومن بداخله.
اشتد القصف على أهالي صفورية فقررت والدة عسلة أن تأخذ أولادها إلى بساتين الزيتون لتحميهم من الصواريخ، وما هي إلا ساعات حتى أتى مختار القرية "صالح السليم"، وقال لهم: اذهبوا.. اتجهوا شرقاً لأن صفورية سقطت، كان وقع الخبر مؤلماً على والدة عسلة التي أجهشت بالبكاء، ثم تحركت مع أولادها لتبدأ رحلة لجوء مريرة وقاسية لم يتوقعوا أن يعيشوها.
تضيف عسلة: ذهبت العائلة إلى سهل صفورية، ومن ثم كفركنا ومن بعدها صعدوا إلى جبل فبدأ الصهاينة بإطلاق الرصاص عليهم، وفي الساعة العاشرة صباحاً تركت العائلات المهجّرة من القرية الجبل وذهبوا إلى قرية سعسع، حيث بقي أهالي صفورية هناك سبعة أيام، وتكفلت عائلات سعسع بالعائلات المهجرة وأمدتهم بالطعام والشراب والملبس.
رحلة اللجوء
لم يبقوا هناك، أكملوا المسير فعصابات جيش الاحتلال كانت تستهدف القرى الفلسطينية التي لم تسقط بعد إعلان إقامة "الكيان الإسرائيلي" في أيار/ مايو من ذلك العام واحدة تلو الأخرى بهدف تهجير سكانها وإخلائها.
حملتهم أقدامهم إلى قرية بنت جبيل جنوب لبنان، وهناك بدؤوا يأخذون مساعدات بسيطة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين " الأونروا" التي تأسست عام 1949، وتم أخذهم إلى "القرعون"، مكثوا فيها نحو عام قبل أن تنقلهم وكالة "أونروا" إلى مخيم نهر البارد في طرابلس شمالي لبنان، ضمن آلية وضعتها لتوزيع اللاجئين الفلسطينيين على مخيمات في سوريا ولبنان.
"كانت أياماً سوداء" هكذا تصف الحاجة عسلة رحلة اللجوء القسرية التي فرضت على اللاجئين الفلسطينيين عقب احتلال قراهم وتهجيرهم، تقول: "قمل ومرض وجوع، القمل في رؤوس اللاجئين كان كبيراً وكثيراً، كل أهالي صفورية أصيبوا بالقمل بسبب قلة الماء وعدم وجود الصابون والمنظفات".
تضيف قائلة: "وقت النوم كانت المخدة الحجر والفرشة الأرض والغطاء هو السماء ورحمة رب العالمين".
أمل لم ينضب
تفاصيل ما تزال تذكرها الحاجة عسلة التي كبرت وتزوجت وأنجبت وعاشت بقية عمرها في مخيم نهر البارد بما حملته رحلة اللجوء والعيش في مخيم نُكب عام 2007 بقصفه وتدميره إثر الاشتباكات بين الجيش اللبناني وجماعة "فتح الإسلام" وما سبق ذلك من حروب مرت على المخيمات الفلسطينية في هذا البلد، ولكنها لم تتخلى عن أمنيتها الأولى بالعودة إلى قريتها الأم.
تتابع عبر التلفاز والهاتف من دكان صغير لديها تعتاش منه، ما يجري في فلسطين وكيف ما تزال الطائرات الحربية "الإسرائيلية" تقصف قطاع غزة، وما يزال جيش الاحتلال يقتل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس ويحاول تهجيرهم، وسط إيمان رسيخ في نفسها بأن هذه التضحيات لن تذهب عبثاً وسيأتي يوم يتحرر فيه كامل التراب الفلسطيني، وتأمل أن يكون هذا اليوم قريباً، لتتمكن من العودة إلى صفورية ورؤيتها، " قد ما عشت بلبنان بس مثل فلسطين وصفورية ما في، فلسطين.. صفورية.. زيتونا...تيننا...رماننا..الصبر.. آخ يا فلسطين".