"من يستطيع أن يقرأ يرى ضعف ما يراه الآخرون."

إن المكتبة بكل ما يحيط بها ويجول في داخلها ما هي إلا ميلاد للذات الإنسانية التي تكسب الإنسان هويته الثقافية. تصلنا القراءة بالوعي الذي يحملنا على طرح الأسئلة وإستجواب الأشياء. تعلمنا أيضا أهمية السعي المستمر للوصول إلى الأجوبة الجديدة والمختلفة، وتعطي القارئ القدرة على استجواب الأشياء والأحداث، لأنها تعمل على كسر قوالب المعرفة الثابتة والمسبقة للأشياء، وهنا تتجلى أهمية القراءة التي تضيء في داخلنا احتمالات الأجوبة.

لا يقرأ الناس في المخيم من أجل المعرفة فقط، بل هم يذهبون إلى محاولة تشكيل شخصية ثقافية قادرة على طرح الأسئلة وتحليل الواقع. أننا نقرأ لنستعير عيون من مضوا ونعيد صوغ الأسئلة من جديد، لنصل لمسارات حياتنا الجديدة في أبسط احتمالاتها اليومية في المخيم. تدعونا القراءة إلى مقاومة فكرة الحقيقة الثابتة، وتشرح لنا كيف نعيد تصوير معرفتنا، خاصة تجاه الزمن الذي يعيد تشكيل نفسه باستمرار.

لا يمكننا أن نحكم على الواقع الثقافي في المخيم دون دراسته والبحث في مكتباته المنتشرة فيه. أولا لأن المكتبة هي من تؤسس هذه المساحة الثقافية، العميقة والممتدة بين الأسئلة وما نتوقعه من أجوبة، وثانياً لأن الكتب التي تتمركز فيها، هي بالضبط ما سوف تشكل أفكارنا وشخصيتنا.

هل تمتلك المكتبات في مخيماتنا الفلسطينية في لبنان اليوم الجهوزية اللازمة لتكوين جيل جديد من القراء؟  

يبلغ عدد المخيمات في لبنان اثنا عشر مخيماً، كانت المخيمات في بداية تأسيسها لا تحتوي إلا على المكتبة المدرسية، التي لم يكن يتوفر فيها سوى الكتب التي تلبي حاجة الطلاب في كل المراحل العمرية، غير أن بعض المدارس كانت تستعملها أحياناً لشرح بعض الدروس بسبب الاكتظاظ في الصفوف، بالإضافة إلا أنها غير مجهزة بغرف المطالعة، ولا يوجد موظف مسؤول عنها في العديد من المخيمات مثل مخيم البص ومخيم المية مية.

تقوم بعض المؤسسات مثل مؤسسة التعاون بدعم العديد من هذه المكتبات مثل مكتبة غسان كنفاني بفرعيها في مخيم البداوي، ومخيم نهر البارد، ومكتبة سعيد خوري في برج البراجنة، ومكتبة أحمد أبو غزالة في مخيم "ويفل" كما تطلق عليه الأونروا ونسميه (الجليل) في بعلبك، ومكتبة سامر خوري في مخيم عين الحلوة، مكتبة هاني القدومي في مخيم الرشيدية، و مكتبة سهيل صباغ في البرج الشمالي، إلا أن مؤسسة التعاون توقفت عن دعم هذه المكتبات مع بداية السنة الحالية2023 ، لكنها قررت الإبقاء على دعم و تمويل مكتبة أحمد أبو غزالة في مخيم "ويفل" الذي يعد من أصغر المخيمات الفلسطينية، مما تسبب بحرمانه من الدعم الثقافي، فكانت مكتبة أحمد أبو غزالة هي أولى المبادرات الثقافية بالدعم.

تنشط أيضاً جمعية السبيل اللبنانية في المجال الثقافي في المخيمات، من خلال تزويد العديد من المكتبات الفلسطينية في المخيمات بالكتب، وجعلهم شركاء لها في مشاريع ونشاطات ثقافية واجتماعية، داخل وخارج المخيمات، تهدف جمعية السبيل في تعاونها هذا إلى دمج المكتبات الفلسطينية واللبنانية، ونشر الثقافة والكتاب للجميع.

اليوم في أغلب المخيمات يتراوح عدد المكتبات بين ثلاث إلى أربع مكتبات لكل مخيم، لكن هذا الرقم يتضاءل في مخيمات أخرى مثل مخيم البص ومخيم المية مية ومخيم الضبية ومخيم مار إلياس ومخيم ويفل (الجليل) هذه المخيمات الخمس تعاني من شح في الكتب والمكتبات والتجهيزات مما يجعل الإقبال عليها ضعيفاً.

غالباً ما أقضي ساعات القراءة المتواصلة في مكتبة غسان كنفاني في مخيم البداوي، وأنا أحاول إعادة تشكيل الأسئلة وصياغة الأجوبة. يصيغ العديد من الناس تجربتهم مع القراءة في المخيم الأثر الواضح الكامن في دواخلهم والتغيير الذي تحدثه فيهم دون أي حركة أو جهد لأن القراءة في طبيعتها تحتاج إلى السكون والانتباه.

يقول رائد طيان (٣٢عاماً) متطوع في مكتبة غسان كنفاني العامة: "أكثر ما يعنيني في القراءة هو الأثر الذي تتركه في نفسي وقدرتها على تنمية الحس الإنساني العميق في داخلي لأنه وعند الإنتهاء من قراءة العديد من الكتب فإنني أستطيع أن أحس بالتغيير الذي حدث في داخلي."

بالنسبة لي لا يستطيع أحد أن يفسر تجربة القراءة من خلال مفهوم أو شعور واحد لأن القراءة في جوهرها تضيء على ملايين الاحتمالات والأجوبة وتخبئ في طياتها ما يسمح لنا أن نعيد صياغة تجاربنا حتى تلك البعيدة عن القراءة وتطرح علينا أسئلة تدفعنا إلى إعادة تفكيك المعاني وتأسيسها من جديد.

لا تحل القراءة مكان الواقع لكنها تعلمنا كيف نقاوم الأحكام المسبقة لأنها تفرض هيمنتها على الجغرافيا والتاريخ والسياسة وتقدم للقارئ هذه القوة فتراه يقاوم ويفرض شروطه على الواقع بل ويحاسبه أحيانا ويطرح عليه أسئلة تدعونا إلى إعادة صياغته مرة تلو المرة.

منذ حوالي ثلاثة أعوام يتعرض لبنان إلى أزمات اقتصادية متفاقمة أدت إلى انهيار العملة و بالتالي فقدان الليرة  نحو سبعة و تسعون بالمئة من قيمتها. تحت وطأة هذا الضغط الاقتصادي والاجتماعي علينا أن نسأل كيف أثرت الأزمة الإقتصادية على عدد القراء في المخيمات؟

خاصة أننا نولد في بيئة مهمشة في المخيم، غالباً ما يكون فيها القارئ نفسه محاطاً بالاسئلة. 

تقول إسراء العقلة، أمينة مكتبة غسان كنفاني العامة في مخيم البداوي (٢٧ عاماً):"أنا فخورة لأننا نملك مكتبة في المخيم المكتبة تكبر كل يوم ويزيد عدد روادها باستمرار، بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة ما زالت تقدم الإضافة التي يبحث عنها القارئ."

وتضيف رنا السعيد أمينة مكتبة غسان كنفاني العامة (٢٨ عاماً): " نحن هنا نقدم للناس الأجوبة ومتعة إكتشافها من خلال الكتب المنوعة والمختلفة لأننا نملك كتب تناسب كل شرائح المجتمع."

تقوم العلاقة بين المكتبة والقارئ في المخيمات بدرجة أولى على الشغف، واستكمال الوعي القادر على استعادة الماضي وتحليله، وتفكيك الحاضر وقراءته، لكن هذه العلاقة لا يمكن ألا يمسها الوضع الاقتصادي الذي بات يتأزم بشكل واضح في الأعوام الثلاثة الماضية، لذلك كان التحدي الذي يخوضه القراء الشباب في المخيمات هو كيفية الحصول، أو شراء كتاب في ظل عدم وجود مكتبات مخصصة لبيع الكتب في أغلب المخيمات؟

تكتسب تجربة فتح مكتبة لبيع الكتب داخل وخارج المخيم لرهان يظن الجميع أنه خاسر، خاصة بعد الأوضاع الاقتصادية الراهنة التي أثرت على القطاع التجاري والسياسي والاجتماعي في لبنان، وعلى الكيان الثقافي بشكل خاص لذلك فإن أهم ما تعطيه لنا هذه التجربة هو قدرتها على إعطاء إجابة لمن يخوضون رهان فتح المكتبات الخاصة داخل المخيمات.

يشرح لنا هذه التجربة إبراهيم إبراهيم (٢٣ عاماً) صاحب مكتبة لبيع الكتب في مخيم البداوي " أعمل جاهداً لكي أؤمن الكتب بأقل تكلفة، اليوم أنا أبيع الكتب في عدة مناطق خارج المخيم مثل بيروت وعكار في مرحلة ما اضطررت أن أقفل المكتبة بسبب الأوضاع لكنني قمت بإعادة فتحها لاحقا لأنها كونت علاقات قائمة على البحث والقراءة ليس ضمن المخيم فقط بل خارجه أيضاً."

علينا أن نقلب هذه التجربة بوعينا وفي امتدادها يجب أن ندرك قدرة الكتب على صوغ نسيج العلاقات الإنسانية بكل أشكالها الثقافية والتاريخية.

لا أستطيع أن أعطي إسماً واحداً لعلاقتي مع القراءة. لقد اكتسبت من خلال القراءة وعيي الخاص، الذي يقيس الأشياء ويقلبها، ويستمر باستجوابها، فكانت القراءة بالنسبة لي دلالة على وجودي الشخصي وفردانية هذا الوجود، ومع تراكم الكتب في حياتي أدركت أهمية القراءة في حياتي خاصة في قدرتها على تشكيل هوية ذاتية، وذاكرة معرفية وثقافية، وأعطتني القدرة على التحليل والاستنتاج، من خلال الصفحات التي كنت أقرأها.

لكن إن كنا قادرين على صياغة هذه العلاقة بيننا وبين القراءة في هذه المرحلة من حياة المخيم، أي شكل كانت تتخذه القراءة لو توفرت كل الكتب في مرحلة الطفولة؟ في بيئة لا تتسع للأسئلة وتضيق بها الطفولة كل يوم.

تقول لي آني كنفاني، زوجة الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، مديرة مؤسسة غسان كنفاني: "إن هدفنا من إنشاء المكتبات في المخيمات الفلسطينية هو توفير فرصة للأطفال للقراءة، وأخذ الكتاب معهم إلى المنزل، يعتبر فرصة جيدة لهم لأن الكتاب مهم جداً، ونحن هنا هذا ما يعنينا الآن الرابط بين الطفل والمؤسسة الثقافية."