قادت جولة القتال الأخيرة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين جنوب شرقي مدينة صيدا اللبنانية -30 تموز/ يوليو إلى 3 آب/ أغسطس 2023- إلى مصرع 13 فلسطينياً وسقوط عشرات الجرحى عدا عن الأضرار والدمار الذي طال عشرات المنازل والممتلكات والبنى التحتية المتآكلة في المخيم، ونزوح آلاف اللاجئين إلى خارج المخيم، بسبب حدة المعارك العنيفة غير المسبوقة في سياق الاشتباكات المتكررة في المخيم.

ورغم تكرار الإعلان من قبل القوى الفلسطينية واللبنانية عن وقف إطلاق النار تجددت الاشتباكات مرات عدة، قبل محاولات تثبيته وإن استمر تسجيل خروقات في وقفه.

المعركة بدأت مع محاولة أحد عناصر فتح في عين الحلوة اغتيال أحد العناصر الإسلامية في المخيم، وهو الفلسطيني محمود خليل الملقب "أبو قتادة" وأحد أبرز المطلوبين للسلطات اللبنانية، وأدت عملية الاغتيال لمقتل عبد الرحمن فرهود الذي كان برفقة أبي قتادة، ووقوع 3 إصابات بينهم طفلتان.

استعرت المعارك لاحقاً يوم الأحد 30 تموز/ يوليو عقب اغتيال المسؤول في حركة فتح، وقائد الأمن الوطني في صيدا العميد أبو أشرف العرموشي وأربعة من مرافقيه، حيث طالت نيران المعارك أحياء عديدة في المخيم، واستخدمت فيها أسلحة ثقيلة في رقعة صغيرة جداً ومكتظة بالسكان، تأتي استكمالاً لمسلسل المعارك السابقة في المخيم بنسخة مكبرة، وجزء من سياق توتيري يحاول زج المخيمات الفلسطينية فيه، خصوصاً منذ حادثة مخيم البرج الشمالي.

وإذا توافقت الأطراف على التهدئة، وبدأ الجيش اللبناني في فتح بعض من حواجزه جزئياً أمام أهالي المخيم، فإن الاشتباكات المتقطعة التي ما زالت تخترق وقف إطلاق النار من حين لآخر، تأتي كشاهد إضافي يقول بجلاء: إن ما حدث ليس أكثر من هدنة مؤقتة في مشروع لاشتباك لن ينتهي ولا يوجد إرادة أو مصلحة كافية لدى الأطراف الفلسطينية المتورطة بإشعاله لإنهائه، فعوامل الاشتباك والاقتتال الكامنة قائمة ومتجذرة وفاعلة وستستمر.

تحاول ورقة العمل السياسية هذه وضع حقائق أساسية بشأن هذه الجولة من الاقتتال والمسار الذي قاد إليها بتطوراته المختلفة، وما الذي مثلته من تغيير لافت وتصعيد في هذا المسار، ذلك بجانب قراءة العوامل التي تحيل المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى ساحة للتفجير المستمر، على حساب وجود أهلها وحياتهم، ودور الأطراف المختلفة وواجباتها تجاه هذه الحال.

سياق المعارك والاشتباكات في مخيم عين الحلوة

يمكن العودة لأواسط أيلول/ سبتمبر من عام 2016، حين كانت قيادة جهاز الأمن العام اللبناني تصرح معبرة عن رضاها وتثمينها لنتائج التنسيق بين الفصائل الفلسطينية والأمن اللبناني، ذلك بعد أن قامت الفصائل بإلزام عشرات المطلوبين الفلسطينيين من مخيم عين الحلوة بتسليم أنفسهم للأمن اللبناني، كان ذلك جزءاً من خطوات عدة أقدم عليها الفلسطينيون لمحاولة إحداث تغيير في "النظرة الأمنية للمخيم" والتي حكمت التعامل مع المخيمات الفلسطينية منذ نشوئها على الأرض اللبنانية، وفي حالة مخيم عين الحلوة في تلك المرحلة كانت الاستجابة الأمنية اللبنانية للخطوات الفلسطينية هي فقط الوقف المؤقت لبناء جدار العزل الذي شرعت السلطات اللبنانية في تشييده حول المخيم في وقت سابق لذلك.

هذه الوقائع لا تشكل نقطة البداية أو النهاية التي يمكن اعتبارها عاملاً رئيسياً في ما يحدث في المخيم حالياً، بل مجرد نقطة أخرى ضمن مسار طويل، فقط ما يميزها أنها واحدة من عشرات المحطات التي حاول فيها الفلسطينيون إنهاء حالة التعاطي من منظور أمني مع ملف المخيمات الفلسطينية، والبدء بمسار وقف الاقتتال داخل المخيم، ومعالجة القضايا الأمنية بالتوافق مع السلطات اللبنانية، ولكن الوقائع التالية والسابقة أثبتت أن هذه الوصفة التي انكبت على تنفيذ اشتراطات أمنية باعتبارها أداة لتفكيك عوامل التفجير داخل المخيم، لم تسهم إلا في تغطية الأسباب والعوامل الجذرية لهذه الأزمة التي تضيف تهديداً جديداً لوجود وحياة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم عين الحلوة، وفي المخيمات الفلسطينية في لبنان عموماً.

هذه الوصفة الأمنية نظرت لعوامل التفجير بمعزل عن التاريخ المرير لوجود الفلسطينيين في لبنان، والعوامل العميقة التي تجعل من مخيماتهم في هذه المرحلة ساحة للتفجير وبرميل للبارود جاهزاً للانفجار، فبكل وضوح سياسات الحكومات والأطراف اللبنانية جعلت من هذه العوامل في المخيمات بيئة صالحة للتلغيم من أطراف متعددة تمسك بفتائل التفجير، وتقوم بإشعال بعضها متى أتاها الأمر، في معادلة ولعبة أمنية وسياسية تستمر منذ عشرات السنوات، ويتم استثمارها من أطراف الصراع السياسي ليس في لبنان فحسب، ولكن في الإقليم بأكمله، ومعها العديد من الأطراف الدولية التي لطالما شاركت في عمليات الإشعال هذه.

"الجماعات الإسلامية"، و"خلايا الإرهاب"، هي مسميات مرحلية لهذه المعادلة، وقبلها كانت المسميات مختلفة في مرحلة حرب المخيمات، وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أيضاً كانت التشكيلات الفدائية الفلسطينية هي المتهم والمستهدف.

ما الذي حدث؟

طغت مشاهد الاشتباكات الواسعة التي استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة على المشهد العام، ولكن بالتدقيق في الوقائع يمكن الإشارة إلى مجموعة من العمليات الأمنية التي نفذت في معظمها من عناصر محلية بتوجيه واضح هدف لإطالة أمد الاشتباك، بدءاً من محاولة اغتيال أبي قتادة وتصفية العنصر المحسوب على المجموعات الإسلامية، مروراً باغتيال العميد أبو أشرف العرموشي، وصولاً إلى عمليات إعادة إشعال الاشتباكات كلما تم التوصل لاتفاق لتهدئة الوضع بين القيادات الفلسطينية واللبنانية.

هذا المشهد بدا فيه أن هناك طرفاً معنياً بإدامة هذا الاشتباك بهدف إيصال رسالة مفادها قدرته على إشعال المخيمات الفلسطينية في لبنان، وتحويلها إلى ساحة اشتباك قابل للتمدد ليشمل مجموع المخيمات، وربما المحيط اللبناني.

وإذا كان ثمة مؤشر واضح أظهرته هذه الجولة من الاقتتال، فهو عجز ممثلي القوى الفلسطينية في الساحة اللبنانية عن وقف الاقتتال، بل وأيضاً عجزها عن منعه من التمدد وتحوله لأداة لاستدعاء تدخلات عسكرية لبنانية، وهو ما أظهرته الرمايات "العشوائية" نحو بعض من مواقع الجيش اللبناني في محيط المخيم.

أظهرت هذه الجولة تحديداً هشاشة وإمكانية انهيار الصيغة الخاصة لإدارة أمن مخيم عين الحلوة، والتي أوجدت خصيصاً لتفادي احتمالات الاشتباك بين القوى المختلفة داخل المخيم، حيث تشكلت لجنة أمنية مشتركة منذ آذار/مارس من العام 2017، باتفاق بين كافة الفصائل سواء المنضوية ضمن إطار منظمة التحرير أم خارجها، ونصّ اتفاق التشكيل حينها، على أن ينضوي 100 ضابط و60 عنصراً من حركة "فتح" وفصائل المنظمة في صفوف القوّة، و40 عنصراً من التحالف والقوى الإسلامية وعصبة الأنصار على أن يكون التمويل 80% من حركة "فتح" و20% من حركتي "حماس" و "الجهاد الإسلامي."

بالعودة قليلاً إلى مسلسل المعارك الموسمية التي يتم إشعالها داخل المخيم، يمكن الوقوف عند محطات عدة أبرزها في العام 2021، والتي ما زالت آثار التدمير الذي أحدثته في المخيم قائمة حتى الآن، وقبلها أيضاً موجة الاقتتال في العام 20017 والعام 2018، وغيرها العديد من موجات الاقتتال المتقطعة.

العديد من هذه الجولات كانت أسبابها الظاهرية خلافات على موازنات اللجنة الأمنية، أو على نفوذ بعض المجموعات داخل المخيم، ولكن مما برز في هذه الجولة أن القتال لم يعد يتعلق بأحد المطلوبين، أو بخلاف حول شرعية وجود أطراف معينة في المخيم أو مشاجرات واشتباكات متفلتي المجموعات المسلحة، وأن ما حدث أكبر من ذلك بكثير، وقد يعني فتح الأبواب أمام تطورات واسعة في تأثيرها وانتشارها وخطورتها.

ما قاد لهذه الحالة، أي قابلية حدوث قتال موجه وليس مجرد اشتباك محلي تحركه بعض الخصومات والصراعات والتوازنات داخل أحد المخيمات، يرتبط بمجموعة من العوامل الثابتة التي تهيئ المخيمات الفلسطينية في لبنان للاحتراق منذ أمد بعيد، وأيضاً جملة من المتغيرات التي قادت في معظمها لهذه الجولة المرشحة للتجدد والتمدد أيضاً.

سقوط صيغة الأمن بالتراضي: العوامل والدوافع:

الجهة المسؤولة عن الأمن داخل المخيمات هي "الأمن الوطني الفلسطيني"، وهو قوة أمنية تابعة لمنظمة التحرير مشكلة من عناصر محسوبة على فصائلها، بأغلبية واضحة من عناصر حركة فتح، وفي ممارسة الأمن الوطني لدوره يستند لمجموعة من التوافقات والإجراءات التنسيقية مع القوى الفلسطينية المختلفة، ومع السلطات اللبنانية والجهات الأمنية اللبنانية، وهي الصيغة التي ظلت ترهن أي إجراء أمني بتوافق سياسي بين مختلف أطراف المعادلة دون الاستناد إلى إطار قانوني أو معالجة وفق صيغ تضع حداً للجريمة، وتحاسب المتورطين في الجرائم، ومع ازدياد التجاذب السياسي والأمني انحدرت هذه الصيغة إلى تعطيل متكرر لمعالجة أي من التهديدات الأمنية الأكثر خطورة، وغض الطرف عن جوهر الإشكاليات التي باتت تصنع جولات الاقتتال المتكررة بصيغها المختلفة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المخيمات الفلسطينية ليست بيئة "مغلقة أمنياً" يقتصر التأثير فيها على الأطراف المهيمنة رسمياً، أو التي تمارس نفوذاً علنياً، إذ توجَد فيها مجموعات وقوى مسلحة تتصرف باستقلالية إلى حد كبير، كما تخوض صراعاتها الخاصة فيما بينها، فإن هذه الصراعات كثيراً ما كانت انعكاساً لتوترات الساحة السياسية اللبنانية التي اتخذت المخيمات الفلسطينية ميداناً للتعبير عنها وتصفية بعض حساباتها.

فالأمن الوطني الفلسطيني لم يكن بمنأى عن الاغتيالات والاستهداف الذي طال عناصره وقياداته والتي جاءت على خلفيات متعددة، كذلك لم تخل ساحته وساحة القوى العسكرية لحركة فتح من الانشقاقات والاصطفافات والصراعات وأبرزها تلك التي تصاعدت في السنوات الأخيرة بين التيار الموالي للقيادي المفصول محمد دحلان والجناح الموالي لقيادة الحركة، والذي ما زال يمتثل لتعليماتها، ويحاول إنفاذ سياساتها في المخيمات.

ومنذ حادثة مخيم برج الشمالي، كانون الأول/ ديسمبر 2021، شكّل التجاذب الحمساوي الفتحاوي عنواناً جديداً للتوتر الأمني في المخيمات، رغم المصالحة التي حصلت، فالدفع بالتجاذب السياسي بين حركتي فتح وحماس لساحة المخيمات الفلسطينية في لبنان، قد يشكل أرضية لتصعيد أمني قد يتخذ أبعاداً أكثر اتساعاً وخطورة، خصوصاً أن هذا التجاذب لم يعد يقتصر على قضية النزاع على السيطرة والحضور في المخيمات، بل صار إحدى أدوات التعبير والتنفيذ في إطار الصراع العام بين أكبر فصيلين فلسطينيين.
وفي جانب آخر، شكلت صيغة الأمن بالتراضي، أداة لخلق خزان من المطلوبين المطاردين للأمن اللبناني في المخيمات الفلسطينية، يعيش معظمهم أوضاعاً متردية تجعلهم تربة خصبة لعمليات التجنيد (العمالة المسلحة) من مختلف الأطراف المعنية بالتدخل أمنياً وعسكرياً في المخيمات.

كخلاصة في هذا الجانب يمكن القول: إن هذه الصيغة وصلت لنهايتها، ولم تستطع في أفضل الحالات ضبط الوضع الأمني في مخيم عين الحلوة، وفقدت أي فعالية أو قدرة على ضبط الوضع في المخيمات حتى ضمن الحدود الدنيا، نظراً لكونها صيغة توافقية تستجيب أحياناً لتوازنات محلية أو ضغوط خارجية من الدولة اللبنانية في عملها وهو ما يعيدنا للعوامل الأساسية والدائمة لخلق التوتر الأمني في المخيمات، والتي لم تُطرق أبواب معالجتها قط بشكل عادل يستند لتسيد القانون على جميع مكونات المجتمع بغض النظر عن أي حسابات سياسية.

عوامل التفجير الدائمة في مجتمع المخيمات

أولاً: الأمن على حساب مجتمع المخيم

منذ نشأة المخيمات الفلسطينية في لبنان تم النظر لها كتهديد، أمني وسكاني، وهو ما قاد بشكل مستمر إلى سلوك أمني عدائي تجاه المخيمات، جاء ملازماً لسياسات عليا عملت دوماً على حرمان اللاجئين الفلسطينيين من حقوقهم وضمان عزلهم وتهميشهم وعدم منحهم مقومات الحياة الإنسانية الكريمة، بحجج واهية متعددة، تتمحور في مجموعها حول المخاوف السكانية لأطراف لبنانية متعددة، ولكن العامل الأكثر سلبية في هذا المنحى هو انكشاف ظهر الفلسطينيين في المخيمات بعد خروج قوات منظمة التحرير من لبنان عام 1982 وما ترتب على ذلك من مجازر لحقت بهم، وما تلاها من حرب على المخيمات عام 1985.

ورغم تركيز الجهد الفلسطيني الرسمي على تهدئة المخاوف اللبنانية في الأعوام الأخيرة، إلا أنه يجب الإشارة إلى أن سعي قيادة م ت ف لتحسين علاقاتها بالحكومات اللبنانية المتعاقبة كثيراً ما جاءت على شاكلة "تنازلات أمنية" وعلى حساب حقوق اللاجئين الفلسطينيين وأمنهم، فالسلطة الفلسطينية وقيادة م ت ف كثيراً ما أعلنت أنها ترى في المخيمات جزءاً من الأرض اللبنانية، وأنها مع سيادة سلطة الدولة اللبنانية عليها، وإن كانت لم تذهب لطرح ترجمة عملية لكيفية تنفيذ هذه الرؤية التي تثير حفيظة الكثير من الفلسطينيين في المخيمات وقواهم نتيجة لموروث كبير من السياسات القمعية التي مارستها الدولة اللبنانية بحقهم واستهدافهم بحروب وحملات عسكرية معلنة من قبل عدد من الأحزاب اللبنانية التي تؤدي أدوار أساسية في النظام السياسي اللبناني، فمن سياسات المكتب الثاني إلى مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا إلى تهجير سكان مخيم نهر البارد عام 2007.

لا يجد الفلسطينيون ما يطمئنهم بشأن السياسات الأمنية اللبنانية تجاههم، أو ما يشجعهم على قبول وُجود أمني لبناني كامل داخل مخيماتهم، كما أن الاستمرار في تضخيم وتغليب المخاوف "الأمنية" القادمة من المخيمات والقائمة على منطق عنصري، كان وما زال كفيلاً بصناعة عوامل التفجير في المخيمات وتشكيل الخطر الأمني الحقيقي، فهذه المخاوف بطبيعتها وما تفرزه من سياسات جائرة وعدوانية بحق اللاجئين هي المصدر الأكثر مركزية في صناعة مخاطر أمنية تقتل اللاجئين الفلسطينيين أولاً.

ثانيا: أزمة السلاح أم سلاح الأزمة؟

يحضر السلاح في المخيمات كامتداد لتجربة تاريخية مثقلة بتفاصيل أليمة ومخاوف لا تزال قائمة، فمن جانب يشكل هذا السلاح جزءاً من إرث العمل الفدائي الفلسطيني في المخيمات وأدوات المواجهة مع الاجتياحات المتكررة من قبل الاحتلال "الإسرائيلي"، ومن جانب آخر ما زالت تفاصيل المجازر التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان تطبع ذاكرتهم، وتغذي مخاوفهم بشأن مصيرهم في هذه البلاد، كما أنه امتداد للبيئة اللبنانية التي عاشت قواها السياسية جولات من الحرب الأهلية، وما زالت في معظمها تحتفظ بقوى وتشكيلات مسلحة تابعة لها، فالحديث هنا ليس عن جزر أمنية مسلحة بشكل استثنائي، بل عن هامش اجتماعي مقموع ومضطهد، يعيش وسط مجتمع وبيئة سياسية مسلحة زاخرة بالممارسات العنيفة، وإرث من العلاقة الشائكة بين الدولة وبعض الأحزاب اللبنانية من جهة واللاجئين الفلسطينيين في لبنان من جهة أخرى.

وفي جانب آخر تبدو أفكار مثل سحب السلاح من الفلسطينيين لضمان أمنهم منتمية إلى عالم الخيال، وليس مقاربة جادة للوقائع، فسحب السلاح الفلسطيني من المخيمات لا يضمن أبداً عدم تدفق سلاح آخر لها، فهذه ليست جزراً معزولة عن محيط يشهد تزايداً في التسليح وتسخيناً لعمليات الشحن الطائفي والسياسي، إن تجريد الفلسطينيين من سلاحهم لا يعني أكثر من حرمانهم من فرصة الدفاع عن أنفسهم، وفتح مخيماتهم أمام تمدد تشكيليات ميلشياوية يعج بها لبنان المقسم طائفياً ومناطقياً، وفي معظمها لا تكن لهم إلا كل عداوة.

ثالثاً: صعوبات اقتصادية جديدة… الأزمة والخنق

بفعل رؤية سياسية حملها حلفاء الاحتلال "الإسرائيلي" لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين ووجودهم، تصاعدت في السنوات الأخيرة سياسات التضييق الاقتصادي على اللاجئين الفلسطينيين، لتتورط وكالة "أونروا" في خطط تقليص خدماتها تحت ضغط انحسار تمويلها من بعض الدول وحظره وتجميده من دول أخرى أبرزها الولايات المتحدة وحلفاؤها، حيث ربطوه بشروط سياسية تهدف إلى التضييق على اللاجئين الفلسطينيين وجعل حقوقهم الإغاثية التي يأخذونها من الوكالة في مقابل تنازلات يقدمونها في قضيتهم وحقوقهم السياسية، ما يحوّل الوكالة إلى فاعل في مشروع تصفية حقوق اللاجئين، وهو ما أسهم على نحو مباشر في دفع اللاجئين الفلسطينيين نحو مزيد من الفقر والتجويع، وقاد قطاعات الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والنظافة والمياه إلى الانهيار، فلم تبق منها إلا هياكل شكلية دون برنامج تشغيل حقيقي قادر على تلبية الحد الأدنى من احتياجات اللاجئين الأكثر حيوية.

جاءت الأزمة اللبنانية لتعصف بمجتمع اللاجئين المسحوق بالفعل، وتخلق تغييرات سلبية إضافية على نحو حاد، وفي أمد زمني قصير، ما أسهم وبشكل واضح في استحداث ظواهر عنف جديدة في مجتمع اللاجئين، ونشطت بعض ظواهر الجريمة على نحو غير مسبوق وعمقت عوامل التوتر الأمني الاجتماعي، ما جعل المخيمات الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى قابلة لانفجار التوترات المجتمعية والسياسية.

رابعاً: التجنيد السياسي في أزمة المخيمات

هيئت عوامل الفقر وسياسات التجويع في المخيمات أرضية لجهات عدة تستثمر فيها من خلال تجنيد مجموعات وبناء ولاءات على درجات متفاوتة من الارتباط بجهات متعددة، فالعديد من القوى اللبنانية رأت في المخيمات ساحة ملائمة لتصفية حساباتها، أو مساحة للاختراق والنفوذ والتجنيد من خلال تشكيلات مليشياوية أو مجموعات مسلحة تم تأسيسها وتمويلها تبعاً لأجندة هذه الجهات، ولم يقتصر الأمر على القوى اللبنانية المتنافسة وصراعاتها، بل شمل استحضاراً لمجموعات ذات صبغة طائفية لم تعرفها المخيمات أو مجتمع اللاجئين الفلسطيني في لبنان من قبل، حيث تشكلت وتسلحت مجموعات تحت عناوين دينية متطرفة متجمعة حول مطلوبين وأشخاص معظمهم ممن جاؤوا من خارج المخيمات وبعضهم من خارج لبنان، هذا الاستدخال بأشكاله المختلفة فاقم عوامل التوتر، وكان عنواناً لمواجهات مسلحة عديدة بين هذه المجموعات وفصائل فلسطينية، وكذلك لمواجهات عدة مع قوى الأمن والجيش اللبناني، ساهمت في أحد أبشع محطاتها في تهجير سكان مخيم نهر البارد وتدمير المخيم في عملية عسكرية شنها الجيش اللبناني ضد هذه المجموعات عام 2007.

مسارات الحشد والتسليح وتشغيل المجموعات المسلحة لم تقتصر على المجموعات الدينية المتطرفة، بل شملت أيضا استقطابات لبنانية أخرى يرعاها حزب الله بالتنسيق مع بعض القوى الفلسطينية، أو من خلال ميليشيا "سرايا المقاومة" التابعة له، هذا بجانب عوامل الاستقطاب في بيئة حركة فتح بين التيار التابع للقيادي المفصول بالحركة محمد دحلان والتيار الموالي للقيادة الرسمية للحركة.

إن أعمال القتل وحالات التصفية والاشتباكات المتكررة بين هذه المجموعات لم تعد ظرفاً طارئاً تعانيه المخيمات، بل ظاهرة فاعلة في زيادة معاناة سكانها وسفك دمائهم، وقد تبدو مرشحة للمزيد من التصاعد، خصوصاً مع تصاعد الاستقطاب اللبناني واستعادته للعنف المسلح كأداة للتعبير عنه، وإضافة لعوامل التجاذب بين أطراف فلسطينية في قلب هذه المعادلة الشائكة.

خامساً: تصدير التجاذب الفلسطيني الداخلي إلى ساحة المخيمات

رغم الاتفاقات المتكررة على تحييد المخيمات في لبنان عن الصراع بين حركتي فتح وحماس، فإن المساعي المتنافرة لكلتا الحركتين لحيازة مصادر الشرعية امتدت إلى معظم مساحات الوجود والعمل الفلسطيني، متخذة أشكالاً متعددة من الاستقطاب بما يشمل تشكيل هيئات ولجان متباينة للاجئين الفلسطينيين في العديد من الساحات، هذه المنافسة والتجاذب تجعل من مخيمات اللاجئين في لبنان بما لها من رمزية نضالية وسياسية، مساحة منشودة لبرامج الفعل والجذب السياسي والتنظيمي، ولكن الإشكال الأساسي يكمن فيما أشارت له مجموعة من الأحداث، خصوصاً منذ كانون الأول/ديسمبر 2021 لإمكانية تحول هذا التجاذب إلى شكل صراع عنيف يقود لتفجير المخيمات في اشتباك واسع النطاق لا تعرف حدوده.

خلاصة:

ما عاشه مخيم عين الحلوة خلال أيام القتال المنصرمة، لم يكن وليد أزمة عابرة، بل نتاج لعوامل متجذرة وعميقة، لعل أبرزها الإصرار من مختلف الأطراف على التعاطي مع المخيم كبيئة أمنية، سواء بغرض منع التفجير أو إشعاله، دون الالتفات إلى دور العوامل الأساسية التي تجعل من هذا المخيم مرشحاً للفعل الأمني المعادي في معظمه لحقوق ووجود أهله وللوجود الفلسطيني في لبنان برمته.

وما نقف أمامه اليوم هو نتاج لتخلي الأطراف المعنية عن مسؤولياتها، وانغماس بعضها في ألعاب ومعادلات تتجاوز الوجود الفلسطيني، وتتعامل معه كجزء من أوراق في صراع أكبر وأشمل.

وما يفاقم هذه الأزمة، ويرشحها لمزيد من التصعيد الذي يهدد وجود وحياة اللاجئين الفلسطينيين هو عملية الإضعاف الممنهج التي مر بها مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فلقد أثمرت سياسات الإفقار والتجويع والحرمان من الحقوق، عن بيئة صالحة للتجنيد والاستعداء والاستخدام، تفعل بها قوى الاستقطاب المختلفة ما تشاء وتتخذها أرضية ومساحة لتصفية الحسابات وإيصال الرسائل، دون قدرة حقيقية للمجتمع على ردع هذه الممارسات والتصدي لها، في ظل ارتهان المجتمع المدني ومؤسساته لبرامج ومشاريع آخر همومها هو حماية المخيمات، بينما تعيش اغتراباً عن أهلها وتقارب أوضاع المخيمات بذات منطق مانحيها الدوليين وبشكل يصل أحياناً لتورط بعضها في مشاريع تستهدف الوجود الفلسطيني.

وفي مركز الفعل السياسي الفلسطيني لم يعد الموقف السائد هو التقصير في مهمات حماية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ولكن هناك ميلاً متزايداً للانخراط في استخدامهم ضمن معادلات التنافس والاستقطاب، واتخاذ مخيماتهم ساحة لاستعراض القوة أو تجنيد الولاءات من قبل أطراف فلسطينية صارت معروفة لأهل المخيمات.

جولة قتال لم تكد تنتهي، ولكنها بما أظهرته من مؤشرات، تعد بتجدد للقتال والمجزرة، فيما لم تظهر الفصائل والقوى الفلسطينية بمن فيهم الجهات الرسمية، قدرة أو استعداداً أو إرادة كافية لوقف هذا المسار المدمر.

هل من إمكانيات للعمل لوقف هذه المجزرة المتجددة؟ ربما يمكن خلق مسارات جديدة وذلك من خلال الانخراط في جهد حقيقي يعمل على:

- تجاوز المقاربة الأمنية للتهديدات والتوتر القائم في المخيمات والعمل على طرح برنامج وطني تنموي تحمله كل القوى المؤمنة بحقوق اللاجئين والمنحازة لقضيتهم، وتعمل على إنفاذه كجزء من سياساتها وممارساتها تجاه المخيمات، ومن خلال الضغط على المؤسسات الرسمية الفلسطينية والدولية لتبنيه ودعمه وتضمينه في سياساتها وموازناتها.

- في ظل انكفاء الجهات الرسمية عن القيام بدورها وتحول بعضها نحو لعب أدوار سلبية، ضرورة قيام البنى المجتمعية والمؤسسية في مجتمع اللاجئين ومخيماتهم بدورها في حمل مطالبهم والتنبيه لعمق المخاطر القائمة وحجم الأزمة الخطيرة التي تهدد وجودهم، وبآلية تتجاوز الأدوار الخطابية والشكلية إلى لعب أدوار في نظم الجهد الشعبي وحشد طاقاته لتحقيق مطالبه.

- ضرورة أن تتحمل وكالة "أونروا" مسؤولياتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين في حمايتهم، عبر لعب دور في ضبط الأطراف المعنية بالصراع، الفلسطينية منها واللبنانية، ذلك بجانب دورها الخدمي الذي يجب استعادته والكف عن سياسات التقليص.

- تحصين المخيمات بمظلة توافقية وطنية تعيد التوافق على مبدأ تجنيب المخيمات تبعات الانقسام، وربما يكون المدخل الأساسي لإنهاء المقاربات الضيقة في مجتمع اللاجئين في لبنان، وتجنيبها ويلات الانقسام والمشاريع التي تستهدفها عبر نضال حقيقي للتمثيل والمشاركة الوطنية، بما يضمن سيادة اللاجئين على مصيرهم و إدارة شؤونهم.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد