"لقد نجونا من الموت بأعجوبة ومعجزة إلهية" هكذا بدأت حديثها الحكيمة مي فياض لبوابة اللاجئين الفلسطينيين بنبرة يملؤها الحزن.
تسرد فياض تفاصيل الليلة الأولى من حرب الإبادة "الإسرائيلية" على قطاع: "رسائل بدأت تصل إلى هواتف سكان بلدة بيت حانون شمالي القطاع منذ الليلة الأولى من العدوان، تطالبهم بالإخلاء الفوري من المنطقة"، مضيفة: ما إن وصلت الرسائل حتى حملنا أنفسنا في وقت قياسي وغادرنا منزلنا أنا وعائلتي بأقصى ما نستطيع من سرعة، ونزحنا إلى مخيم جباليا .
دقائق قليلة مرت على خروج مي وعائلتها من المنزل، كانوا ما يزالون في الطريق حين وصلهم خبر بأنه قد تم قصف منزلهم وأن هناك عدد من الشهداء من أفراد العائلة.
بغصة تواصل حديثها: "لو كنا ما نزال هناك، لو تأخرنا قليلاً لأخذ بعض متاعنا، لكنا لحظتها تحت الركام، فالاحتلال قصف البيوت على رؤوس من يقطنها".
لجأت فياض إلى بيت أحد أقاربها في المخيم ومكثت ثلاثة أيام قبل أن تنزح من مخيم جباليا الذي شهد قصفاً عنيفاً من الطائرات الحربية "الإسرائيلية" إلى مكان أخر، بحثًا عن الأمان، ليستقر بها الحال في عيادة السويدي التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين في منطقة الصفطاوي.
بعد ترك موظفي "أونروا" مقراتهم عملت مع الشبان النازحين في إسعاف الجرحى
تؤكد فياض أن العيادة توقفت عن العمل منذ بداية العدوان وكانت هي الوحيدة من بين النازحين لها علاقة بالمجال الطبي، لذا بدأت بتفقد مستودع الأدوية وفرز الأدوية وصرف الدواء لأي شخص يحتاج إليه في المكان أو المنطقة لدرجة أن الناس كانت تأتي إليها من مناطق بعيدة في غزة لأخذ الدواء بسبب إغلاق الصيدليات في تلك الفترة.
لم تكتف بذلك بل عملت على مداواة الناس هناك إضافة إلى معالجة الإصابات الطفيفة، ولكن ومع اشتداد القصف وقطع الاتصالات في شمال غزة وتوقف الإسعاف عن العمل أصبح سكان الحي بأكمله يرسلون الإصابات إلى عيادة السويدي نظراً لخروج العديد من المستشفيات عن الخدمة، وصارت هي المداوية الوحيدة، خاصة مع إخلاء طواقم وكالة "أونرا" لمقراتهم بعد فترة قصيرة من بدء الحرب.
تكمل: "عندما بدأت أعداد المصابين بالتزايد صار الشباب النازحون إلى العيادة يساعدوني، فأخذوا يرتدون القفازات الطبية ويقومون بتقليد ما أقوم به مع باقي المصابين ".
تستذكر فياض أنه في أحد الليالي "المريرة" وصلت عشرون إصابة دفعة واحدة معظمها في حالة خطيرة، شعرت بالعجز التام في تلك اللحظة، لم تكن تدري ماذا أفعل، مع من تبدأ ومن أين تبدأ؟
تؤكد أنها حاولت التواصل مع المؤسسات الطبية حتى يأتي من يغيث الجرحى، لكن انقطاع الاتصالات وقف عائقا أمامها.
تخيلوا جثة الأب الشهيد تكون طوال الليل وسط أبنائه الأطفال الخمسة وهم يتأملون فيه ويبكونه!
تقول: إن" كثيرين استشهدوا بين أيدينا، تخيلوا جثة الأب الشهيد تكون طوال الليل وسط أبنائه الأطفال الخمسة وهم يتأملون فيه ويبكونه، تخيلوا شعور الأطفال في هذه اللحظة تخيلوا شعورهم ونحن ندفن أباهم بمنتصف العيادة أمام أعيونهم.
تسرد فياض لبوابة اللاجئين الفلسطينيين تفاصيل حادثة مؤلمة أخرى مرت عليها خلال عملها: "أصيبت فتاة نازحة في العيادة برصاصة في بطنها كانت تبلغ من العمر21 عاماً، إصابة متوسطة، وكانت بحاجة إلى من يوقف لها النزيف. كانت تمشي وتتحرك رغم أنها تعتصر ألماً ووجعا، وفي تلك اللحظات بصعوبة استطعت تدبير حبة مسكن لها".
ولكن في الصباح ساءت حالة الفتاة وكانت تبكي من شدة الألم، وهناك رجل غامر بحياته ووضعها على عربة تجرها الحيوانات وخرج فيها، لكن للأسف، بعد يومين استشهدت الفتاة من شدة النزيف.
حوصر النازحون في العيادة .. واستشهد أب وأم حين حاولا جلب طعام لأطفالهما
بعد عدة أيام من الحادثة، حاصرت آليات الاحتلال "الإسرائيلي" العيادة، لمدة 21 يوماً وكانت القناصة تستهدف كل جسم متحرك في محيط العيادة، تقول فياض لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: "كانت من أسوأ الأيام في حياتي، نفد الطعام نهائيًا والأطفال ماتوا من الجوع، أحد النازحين من شدة بكاء أطفاله أمامه حاول أن يخرج من باب العيادة من أجل أن يحضر طعاماً لهم، لكن ما إن خطت أقدامه باب العيادة حتى قامت القناصة بإعدامه بدم بارد، أسرعت زوجته تحاول سحبه وإنقاذه لكن هي الأخرى أعدموها وسقطت فوق زوجها".
تؤكد الحكيمة مي فياض أنهم مع شدة الحصار والجوع حاولوا التواصل مع الصليب الأحمر الدولي، ونجحوا بعد أيام من المحاولة، لكن جواب المنظمة كان "محبطاً للغاية ردوا علينا بكلمتين فقط: إحنا ما بنقدر نعمل لكم شيْ غير إنا ندعي لكم".
تتابع :"ومن أصعب المواقف التي مررت بها هو اضطراري للتعامل مع ثلاث حالات ولادة داخل العيادة، بصعوبة استطعت أن أتعامل مع هذه الحالات واضطررت استخدام طرق بدائية للغاية".
تقول إنه "بعد مضي 21 يومًا على حصارهم، أمرهم جيش الاحتلال بالمغادرة، فخرجوا وسط الرصاص وفوهات الدبابات متجهة نحوهم، والخوف يسيطر عليهم، مشوا وسط الدبابات، وبعد ساعة من المغادرة وصلوا إلى مخيم جباليا، واستطاعوا الحصول على بعض الطعام بعد أيام مريرة من الجوع والعطش قضوها داخل العيادة، واستمرت بعد ذلك رحلة النزوح من مكان إلى آخر في شمال غزة بحثا عن الأمان دون جدوى، فلا مكان آمن في القطاع.
