الموت جراء الغارات والقصف الوحشي الذي لا يميز بين طفل وامرأة أو شيخ، كما المرض والجوع والعطش، والتنقل المرهق بين الأحياء والمناطق بحثاً عن زاوية أمان، مشهد يومي يروي قصة صراع البقاء لسكان قطاع غزة، كما لخصته الباحثة الغزاوية أمل كفارنة لبوابة اللاجئين الفلسطينيين.
تقول كفارنة وهي ناشطة مجتمعية نسوية معروفة في قطاع غزة: إن القصف والحصار "الإسرائيلي" منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر أسفر عن مأساة حقيقية يعيشها أهالي غزة، وتضاعفت بفعل سوء الأحوال الجوية، وهطول الأمطار، والبرد القارس، ناهيك عن المجاعة التي بدأت تظهر، بسبب انعدام الأمن الغذائي، موضحة أن الفلسطينيين يعانون من الجوع، والأطفال لا يتناولون إلا القليل المتاح، وإذا وجدت المياه، فهي غير صالحة للشرب، والمساعدات التي تصل لا تفي بالمطلوب.
وقد وثّقت كفارنة ابنة مدنة بيت حانون والباحثة لدى مركز العالم العربي للبحوث والتنمية "أوراد" رحلة نزوحها منذ اليوم الأول للحرب، وتحدثت عن معاناتها ومعاناة الفلسطينيين الذين يفترشون الشوارع دون مأوى.
تصف كفارنة (٣١عاماً) صباح يوم السبت السابع من أكتوبر بالكابوس، وتقول: "صحونا مفزوعين لا نعلم ما يحصل حولنا، نحاول أن نفهم، والصواريخ تنهال فوق رؤوسنا من كل مكان، الخوف يزداد في قلوبنا، أمر يصعب وصفه ، مرت الساعات وفهمنا الأمر بعد ساعتين، ولكن كانت تسيطر علينا الصدمة، وقلوبنا ترتجف خوفاً أن تكون الأيام القادمة هي الأصعب، لكن ما زال هناك شيء غير معلوم".
نزوح مرٌّ وكثير من الحرمان والخوف
وأضافت: "مرت الساعات ووصلنا إلى الساعة 11 مساء، وإذ يصلنا اتصال من جيش الاحتلال الإسرائيلي يطلب منا إخلاء مدينة بيت حانون، الواقعة في شمال قطاع غزة، المنطقة الحدودية التي تحد مستوطنات غلاف القطاع، ونزح حوالي 54 ألف شخص في تلك الليلة"، مبينة أن والدها طلب أن يبقوا حتى الصباح، لكن جيش الاحتلال على الفور قصف المنزل القريب منهم، فخرجوا مفزوعين لا يدرون إلى أين يذهبون؟ وصلوا إلى مستشفى بيت حانون، وحالوا مراراً التواصل مع الصليب الأحمر الدولي ليساعدهم في الخروج، لكن كل الاتصالات باءت بالفشل، لأنه لم يكن مصرح لفريقه بالدخول والتحرك من قبل جيش الاحتلال.
تؤكد كفارنة أن الساعات وهي وعائلتها وفلسطينيون كثر يرتجفون من البرد الشديد ، فهناك الحامل والوالدة، والطفل والعجوز، وذوو الإعاقة، والمرضى، كلهم في باحة المستشفى ينتظرون الصباح من أجل التحرك، وبالفعل جاء الصباح، وبدأت معاناتهم مع النزوح.
تقول: "مشينا مسافات طويلة، أكثر من 15 كيلو متراً على الأقدام، كانت أختي حامل، وزوجة ابن عمي في الشهر الأخير من حملها، ونحن نمشي ولا يوجد أي وسيلة مواصلات، وصلنا إلى مركز الإيواء في جباليا، المنطقة التي كان يعتبرها الاحتلال آمنة، لكنها لم تكن آمنة وكانت مليئة بالسكان، حاولت أن أتواصل مع الجميع من أجل الحصول على طلب سيارة للتحرك نحو المحافظة الوسطى للنزوح عند أختي المتزوجة في دير البلح، وبالفعل بعد محاولات كثيرة حصلنا على سيارتين وخرجنا إلى المحافظة الوسطى ووصلنا، وبقينا عند أختي أسبوعين، ومن ثم بدأت الكارثة عندما قام الاحتلال في قصف محيط منزل أختي، كان القصف عشوائياً وقد وصل عدد الشهداء إلى ما يفوق 170، يومها لم نعلم كيف خرجنا من المكان وسط الصراخ والدخان والخوف والشظايا فوق رؤوسنا، مشينا مسافات طويلة إلى مخيم دير البلح، ومن هناك تحركنا إلى محافظة رفح جنوباً، لا يوجد مكان لنا ، الجميع تائه، العيون مليئة بالدموع، سرنا كثيراً حتى وصلنا إلى مركز الإيواء، وهو مدرسة حكومية ، لم تكن المنطقة آمنة كثيراً لأن القصف يطال كل المناطق، وبدأت معاناة الحقيقية من هنا، لا يوجد كهرباء ولا ماء ولا طعام، وكثير من الخوف، والمكان مزدحم، والأدوية غير موجودة، حاولنا أن نحصل على أدوية أخي المريض بكسل الغدة الدرقية، لكن لم نستطع، ناهيك عن أنه كان علينا الانتظار ساعات طويلة من أجل دخول الحمام، حيث لا يوجد أدنى مقومات النظافة، ولا يوجد أي مواد تنظيف، حاولت كثيراً أن أتحمل الوضع، ولكن الوضع صعب جداً، خاصة وأن المواد الغدائية قليلة، وسعرها مرتفع، وواجهتنا أزمة البرد، فمدينة رفح تعتبر باردة جداً، ولا يوجد أي ملابس، وسوق رفح أصبح فارغاً".
الوصول إلى حافة المجاعة
تشير كفارنة إلى أن المعاناة كانت تزيد يوماً بعد يوم، جراء نقص الملابس، والأغدية، للمياه، وغيرها من أساسيات الحياة، فيما الجميع يحاول إخفاء شعور الوجع بدواخلهم، كانوا يتمسكون بأمل أن تتوقف الحرب عليهم، ولكن المأساة كانت تزداد مع نزوح سكان جدد من المناطق الأخرى إلى تجاه رفح.
تؤكد أن معظم الاحتياجات الأساسية، كالطعام، واللحوم، والحليب، والخضروات، والبيض، والعدس، والزيت، والسكر، والملح، وحفاضات الأطفال والفوط النسائية الصحية، ومواد التنظيف أصبح من الصعب الحصول عليها، حتى وصلوا إلى حافة المجاعة، خاصة بعد أن بدأت الأموال تنفد من النازحين.
وفي الشهر الثاني من الحرب، سعت أمل بجهد كي تتحسن حالتها النفسية وتعود إلى عملها، ونجحت في ذلك، ومن هنا صارت المعاناة تتكشف أمامها بشكل أوضح، ناس في الشارع بلا مأوى، مصابون بدون أدوية وبحاجة إلى عمليات جراحية في الخارج، ولكن لم يستطيعوا الخروج بسبب الحصار "الإسرائيلي" المدعوم امريكياً وغربياً، أطفال رضع محرومون من الحليب والحفاضات، وأمهات غير قادرات على إطعام أنفسهن وأطفالهن، ما أدى إلى جفاف الحليب في صدروهن".
تصف أمل المشاهد التي شاهدتها بعينيها داخل مراكز ومخيمات النزوح مع هطول الأمطار، والبرد الشديد، تؤكد أن مئات الأطفال والعائلات كانوا يبيتون في العراء بملابس خفيفة يرتجفون من البرد، تشير إلى أن هناك نساء وأطفالاً قضوا جراء البرد ومصابون ازدادات أوجاعهم بسببه، بالإضافة إلى أن الخيم غير آمنة، بسبب وجود الكلاب الضالة.
تقول: إن الجميع كانوا يحاولون الصمود والصبر لكن "الوجع فاق الحد"، فمع مرور الأيام كانت الحاجة ملحة للاستحمام ولكن الحمام أصبح ترفاً لا يستطيعون تحقيقه، عادوا إلى إشعال الحطب إن توفر فلا غاز ولا كهرباء، ولا مواد تنظيف.
تضيف: إنه حتى اليوم لا يزال مرضى السكرى والضغظ محرومين من أدويتهم، والمرضى الذين يعانون من مرض حساسية القمح لا يوجد لديهم وجبات غدائية، وأيضاً ذوو الإعاقة حالتهم صعبة، خاصة أنهم بحاجة لرعاية خاصة، وهذه الرعاية غير موجودة، وهناك نقص حاد في المساعدات التي هي في الأساس لا تلبي احتياجات الناس، رغم أن "جودتها سيئة، وتعتبر طعاماً غير صحي".
تقول أمل التي ما زالت نازحة في رفح: إن جلّ أمنئات مئات آلاف النازحين في المنطقة هو العودة إلى منازلهم، حتى لوكانت مدمرة ولكنها أمنية صعبة مع استمرار جرائم الإبادة "الإسرائيلية" وتهديد الاحتلال باجتياح رفح المكتظة بالنازحين.
تقول: "فقدنا بيوتنا وأقاربنا وأصدقاءنا، وأموالنا، فقدنا كل شيء، إنه وضع يصعب تلخيصه بكلمات".