منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة، برز خطاب أبو عبيدة بوصفه أحد أكثر الأصوات حضورا وتأثيرا في الوعي الفلسطيني العام، ولا سيما داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا والأردن. ولم يبد هذا التأثير عاطفياً عابراً بقدر ما اتخذ طابعاً تراكمياً أعاد تموضع المخيمات في قلب المشهد السياسي والإعلامي الفلسطيني، بعد سنوات من التهميش والمقاربات الأمنية والقيود القانونية التي تضبط المجال العام في بلدان اللجوء.

ومع الإعلان الرسمي الصادر مساء الاثنين 29 كانون الأول/ديسمبر 2025 عن ارتقائه، إلى جانب تعيين ناطق عسكري جديد لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وما رافق ذلك من كشف علني لهويته للمرة الأولى داخل بيانات القسام، شهدت عدة مخيمات فلسطينية تحركات شعبية ووقفات حداد ومسيرات رمزية. وبدا المشهد، في جوهره، حدادا على "رمز" أكثر من كونه تفاعلا مع "شخص"، بما يعكس المكانة التي بات يحتلها أبو عبيدة بوصفه صوتاً جامعاً للمقاومة الفلسطينية وشعبها.

أبو عبيدة: 21 عاما من الصوت الإعلامي للمقاومة

على مدى واحد وعشرين عاماً، شكّل أبو عبيدة الناطق العسكري الأبرز لكتائب القسام، وأحد أكثر الوجوه الإعلامية رسوخا في تاريخ المقاومة الفلسطينية المعاصرة. وقد أعلنت القسام للمرة الأولى أن الاسم الحقيقي للناطق الملثم هو حذيفة سمير عبد الله الكحلوت، بعد أن عرف طوال سنوات باسم رمزي ولثام أحمر صار جزءا من صورته العامة.

وتشير المعطيات إلى أن الكحلوت ولد في المملكة العربية السعودية، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، قبل أن يعود مع عائلته إلى مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، حيث واصل تعليمه، ودرس العقيدة الإسلامية في الجامعة الإسلامية بغزة، ونال درجتي البكالوريوس والماجستير.

وفي إعلام كيان الاحتلال، تكرر خلال سنوات نشر اسمه الحقيقي ومعطيات عنه، وأدرجته أيضا جهات أميركية ضمن عقوبات مرتبطة بحركة حماس، بما عزز تداول هويته خارج بيانات القسام قبل إعلانها رسميا.

من الظهور الأول إلى مفاصل الحرب

ظهر أبو عبيدة كناطق باسم القسام في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2004 خلال مؤتمر صحفي داخل مسجد النور شمالي قطاع غزة في خضم عدوان لجيش الاحتلال على المنطقة. وفي عام 2006 برز حضوره المصور على نطاق واسع عقب أسر الجندي جلعاد شاليط في عملية "الوهم المتبدد"، ثم ارتبط صوته بالحروب المتعاقبة على غزة، ولا سيما حرب 2008–2009 وحرب 2014، وصولاً إلى عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وفي اليوم الأول من العملية، ظهر أبو عبيدة، وقدم شرحا عن تنفيذها ورواية حركة حماس حولها، بعد ساعات من خطاب قائد القسام محمد الضيف، ثم صار الوجه الإعلامي الأساسي الذي ينقل مواقف الجناح العسكري لحماس خلال مجريات الحرب.

وكان آخر ظهور مصور للناطق باسم القسام في 18 تموز/يوليو 2025، قبل أن تتوالى لاحقا بيانات مكتوبة ومنشورات منسوبة لقناته الرسمية.

المخيمات داخل الخطاب: توسيع دائرة المخاطبين

في مضمون خطابات أبو عبيدة، لم تقدم غزة بوصفها ساحة منفصلة عن باقي الجغرافيا الفلسطينية، بل كقلب معركة تشمل الفلسطينيين حيثما وجدوا. هذا الاتساع في المخاطبة—بما يشمل المخيمات—أعاد الاعتبار للفلسطينيين في المخيمات بوصفهم جزءا من معادلة الصراع، لا جمهورا يتلقى الخبر من الخارج.

وبالنسبة للمخيمات، التي طالما وضعت على هامش القرار السياسي والعسكري، حمل هذا الخطاب معنى "استعادة الدور" رمزياً: إعادة وصل بين اللجوء وفكرة الفعل، وبين الهوية اليومية في المخيم ومعركة السردية والوعي.

من التعاطف إلى المشاركة: إعادة تعريف "الدور الممكن"

تحت ثقل القيود القانونية والسياسية في بلدان اللجوء، ظل حضور المخيمات لفترات طويلة محصورا في التضامن المعنوي. غير أن خطاب أبو عبيدة ساهم في إعادة تعريف المشاركة بوصفها فعلا متعدد الأشكال لا يقتصر على البعد العسكري فقط، بل اتسع ليشمل مسيرات ووقفات تضامنية وحدادا جماعيا، ونشاطا إعلاميا شعبيا، وتداولا واسعا للمقاطع والرسائل، وسط حضور بصري كثيف للرموز المرتبطة بالمقاومة في الفضاء العام ضمن معركة الوعي والسردية.

وهنا، لم تعد "المشاركة" مرهونة بإمكانات ميدانية مباشرة فقط، بل تحولت إلى طاقة اجتماعية وثقافية وإعلامية تراكم أثرها في الوعي العام.

لغة بلا وسطاء: لماذا اخترق الخطاب وعي المخيم؟

تميز خطاب أبو عبيدة بلغة مباشرة ومنضبطة، قليلة الزوائد، خالية من المناورات السياسية والمصطلحات النخبوية، ما جعله قريبا من المزاج الشعبي داخل المخيمات، خصوصا لدى الشباب. وفي ظل تراجع الثقة بخطابات رسمية وحزبية متعددة، تحول هذا الصوت إلى مرجعية معنوية تستعاد عبرها فكرة المقاومة كمشروع شعبي لا بوصفه تفويضا فصائليا مغلقا.

كسر الاصطفاف: "صوت للمقاومة وشعبها"

أحد أبرز أبعاد التأثير داخل المخيمات تمثل في تجاوزه الاصطفاف الفصائلي. فمع الوقت، لم ينظر إلى أبو عبيدة كناطق باسم تنظيم بعينه بقدر ما جرى التعامل معه كـ"صوت للمقاومة وشعبها"، بما يلامس حاجة المخيمات إلى رمز جامع في لحظة تتآكل فيها المرجعيات الجامعة بفعل الانقسام.

من الخطاب إلى الرمز: الاسم والصورة في الفضاء العام

مع تكرار الظهور، تحول اسم أبو عبيدة وصورته إلى رمز بصري وشعبي داخل المخيمات، فارتفعت صوره في المسيرات، وتكرر حضوره على الجدران واللافتات، فيما غدت الكوفية الحمراء عنصرا ثابتا في الرسومات والملصقات، وتحولت مقاطع من خطاباته إلى مادة تشغل عبر مكبرات الصوت في الفعاليات والتجمعات.

هذا الحضور لم يتشكل بقرار تنظيمي، بل انبثق من القاعدة الشعبية، ما منح الرمز طابعا جامعا وأوسع من أي إطار فصائلي.

الإعلان الرسمي عن الارتقاء… والمخيمات تتحرك

عقب الإعلان الرسمي عن ارتقائه وتعيين ناطق جديد وكشف هويته، سجلت تحركات وحداد في عدد من المخيمات الفلسطينية. وبدا أن الدلالة الأوضح لإعلان استشهاده كانت في أن الشارع تعامل مع الحدث كفقدان لرمز في معركة السردية والوعي، لا كخبر عسكري منفصل عن حياته اليومية.

يظهر هذا المسار أن خطاب أبو عبيدة لم يكن مجرد بيانات عسكرية، بل عملية تأثير واسعة أعادت تشكيل الوعي الجمعي في المخيمات الفلسطينية: أعادت تعريف دور الفلسطيني في المخيم، ووسعت معنى المشاركة الممكنة، وكسرت جزئيا الاصطفافات الفصائلية لصالح رمز جامع، وصولا إلى تحريك الشارع عقب الإعلان الرسمي عن ارتقائه.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد