بوابة اللاجئين الفلسطينيين
مقال: أحمد أبو حسنة
ما أن أعلن الإرهابي "دايفيد بن غوريون" قيام "دولة إسرائيل"، حتى صار "اللاجئون الفلسطينيون" هو المسمى القانوني لحوالي سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني، بعد أن اقتلعوا من أراضيهم وبساتينهم، وهجّروا قسرياً من منازلهم. وفيما سارع كيان الاحتلال ليطلق عليهم اسم "الغائبين"، اختار بعض منهم لقب "العائدين". وبدأوا برحلة العودة "متسللين" إلى حيث ينتمون، ليعيشوا بين من تبقى من أهاليهم.
وقد قامت أعمال أدبية وفنية عديدة بتصوير رحلة العودة هذه، وما جابهها من مخاطر جسيمة، لتنتهي بموت "العائد المتسلل" أو بمعاناته الكبيرة، بعد أن فُرضت عليه "جنسية الاحتلال".
وفيما لم يتح لكل اللاجئين أن "يتسللوا" عائدين، فإنهم ما لبثوا أن دعوا إلى "دبّ النار في الخيام"؛ مطلقين ثورتهم المعاصرة، مؤكدين على حقهم وواجبهم ورغبتهم في العودة إلى ديارهم.
وحين انتهت هذه الثورة إلى أن تؤمّن "العودة"، للبعض ممن وافق "الشريك في عملية السلام على عودتهم"، وإلى الأراضي الفلسطينية" وليس إلى فلسطين متبرعة بباقي فلسطين؛ فإن الكثير من اللاجئين ارتأوا في الهجرة، والحصول على جنسية أجنبية، وسيلةً تمكنه من العودة، لو لساعات حتى، وإشباع النظر بمشهد من آثار حياته التي انقطعت هناك!
هؤلاء أيضاً، في أغلبهم، ماتوا حسرة وكمداً بعد "زيارة العودة"، التي رأوا فيها كل ما لا يستطعيون احتماله,مطبقين حرفياً قول الشاعر "تميم البرغوثي": "فما كل عين تسرّ حين تلقى حبيبها".
فماذا تعني العودة تحت حراب سلطات الاحتلال وعسكره وشرطته، لترى أنت "السائح الأجنبي" بيت جدك، أو بقايا بيّارته أو خرائب مجلس داره؟! اعتقد أن الأدب والسينما، صوّرا لنا تفاصيل ونهايات هذه الرحلة، بحيث لم يعد عاقل يرى في هذه الطريقة "عودة"!
وفيما كان "حكام المقاطعة" في "رام الله"، و"إخوانهم الزعماء العرب"، يطلقون "مبادرات السلام"، ويغلظون الأيمان بأن "اللاجئين الفلسطينيين منغمسون بفعل الحياة، ولا يرغبون بالعودة"، قام آلاف الشباب الفلسطيني، من أبناء الجيل الثالث للنكبة، بالانطلاق نحو الحدود في "مسيرة العودة" عام 2011.
بدأت التحضيرات لتلك المسيرة، قبل شهرين من الذكرى الثالثة والستين لنكبة الشعب الفلسطيني. وبرغم كل التضييق الذي واجه عملية الحشد بين الشباب اللاجئ، للتوجه إلى الحدود الفلسطينية مع دول الطوق، وفي الداخل الفلسطيني، إلا أن الآلاف قد تمكنوا من الوصول إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، من جهة لبنان وسوريا.
وانطلق بضعة آلاف من غزة ورام الله، باتجاه الحدود الفاصلة مع الأراضي المحتلة عام 1948. فيما منعت السلطات الأردنية والمصرية الوصول إلى الحدود مع فلسطين المحتلة.
وقد اعتدى جنود الاحتلال على المسيرة بكل أنواع الأسلحة، التي وصلت إلى المدرعات والدبابات.
كانوا شباناً عزّلاً، عراة الصدور، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الوصول إلى غايتهم، إلى الموت والاستشهاد عند "الشبر الأول" من أرضهم.
كانت نتيجة مسيرات العودة، أن تمكن بعض الشباب من الوصول إلى بعض مدن فلسطين التاريخية (وقد تم ترحيلهم حين القبض عليهم)، واستشهاد العشرات، وجرح المئات، من أبناء جيلٍ، لم يولد على أرض فلسطين، ولم يعش فيها، ولم يأكل من خيراتها. إلا أنها تولد كل يوم في رأسه، وتعيش بين جناحي صدره، ويأكل الشوق إليها كل يوم من عمره.
وقد تكررت هذه المسيرة مرة أخرى في العام ذاته ، في ذكرى عدوان حزيران، ولكن تلك المرة من الجهة السورية للحدود مع فلسطين المحتلة فقط، وكانت نتيجتها مشابهة لنتيجة المسيرة الأولى تماماً.
ورغم أن المسيرتين لم تنجحا في جعل العودة حقيقة واقعة، إلا أن الكثير من الحواجز قد تحطمت، وتحول فعل العودة من حلم رومانسي إلى فعل ممكن.
وقد كانت الاستعدادات لمواجهة تحرك العائدين، وحجم العنف الكبير الذي ووجه به، من قبل سلطات الاحتلال، ومن قبل سلطات عربية أخرى، مؤشراً بالغاً على مدى أهمية مثل هذه التحركات، وخطورتها على كيان الاحتلال.
وإن لم تسمح "الظروف" في الدول العربية بتكرار هذه المسيرة مجدداً، ورغم بعض وجهات النظر التي لم ترتح لتوقيت المسيرة، إلا أن مسيرات التشييع لشهداء العودة، التي عمّت المخيمات الفلسطينية، قد أكدت على أن أبناء هذه المخيمات، هم فعلاً الأبناء الحقيقون لهذه القضية، وبرهنت بالدم، عمق التزامهم بحقهم في العودة. بل يرى البعض أن هذه المسيرة، قد تكون أحد الأسباب التي أدت للاعتداء على المخيمات الفلسطينية، وتهجير سكانها إلى "بلاد الثلج" البعيدة، لإبعاد خطرٍ بدا قريباً جداً على كيان الاحتلال.
في الذكرى التاسعة والستين لنكبة أبناء فلسطين، وفي الذكرى السادسة لمسيرة عودتهم، ورغم كل جهود تشتيت جيلهم الثالث والرابع، فإن طفلاً فلسطينياً يولد لاجئاً، في منفاه القسري في السويد أو كندا أو ماليزيا أو في أي مكان من العالم، لا زال يتحدث بلهجة أهل قريته في فلسطين، ويرسم كل يوم خريطة وعلم بلاده، ويسرد قصة تهجير أهله.. هو لا بدّ عائد! ولا يزال يشكل خطراً، لا بدّ أن يخشاه المسؤول الأول عن كل عذاباته، ويستعدَ لذلك اليوم الآتي دون أدنى شك، والذي سيدفع فيه الثمن، ويُعيد فيه الحقَّ إلى أصحابه، رغم أنفه..