مخيم شاتيلا - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
خاص
"صبرا وشاتيلا" لم تكن البداية ولا النهاية في رحلة الشقاء ودرب الآلام الذي حل باللاجئين، إذ تأتي ذكرى المجزرة في الوقت الذي لا يزال مرتكبوها ينعمون بالحرية، دون أدنى مساءلة أو محاسبة لما جرى في السادس عشر من سبتمبر من العام 1982 وعلى مدار ثلاثة أيام من القتل والتجزير بسكان وأهالي صبرا وشاتيلا.
ثلاثة أيام والمجزرة مستمرة على يد بعض المجموعات الانعزالية اللبنانية كـ حزب الكتائب اللبناني بقيادة إيلي حبيقة، وجيش لبنان الجنوبي، والجيش الإسرائيلي برئاسة رافايل إيتان رئيس أركان الحرب الإسرائيلي وآرييل شارون وزير الحرب آنذاك فى حكومة مناحيم بيجن الذي أصدر القرار بارتكاب المجزرة.
أحكمت الآليات الإسرائيلية إغلاقَ كل مداخل النجاة إلى المخيم فلم يُسمح للصحفيين ولا لوكالات الأنباء بالدخول إلا بعد انتهاء المجزرة في الثامن عشر من سبتمبر1982، أي بعد أكثر من ثمانية وأربعين ساعة على بدء المجزرة فى الخامسة من مساء 16/سبتمبر 1982 حيث دخلت ثلاث فرق إلى المخيم كل منها يتكون من خمسين عنصراً مسلحاً بحجة وجود 1500 مسلح فلسطيني داخل المخيم أطبقت تلك الفرق على سكان المخيم وأخذوا يقتلون المدنيين بلا هوادة، حتى الأطفال لم يسلموا، بينهم من لم يتجاوز سن الثالثة والرابعة وُجدوا غرقى فى دمائهم.
حواملُ بُقِرَت بُطونهنّ ونساءٌ تمَّ اغتصابهنَّ قبل قتلِهِنّ, رجالٌ وشيوخٌ ذُبحوا وقُتلوا، وكل من حاول الهرب كان القتل مصيره. 48 ساعة من القتل المستمر وسماء المخيم مغطاة بنيران القنابل المضيئة التي ما انطفئت لتكشف عن أبشع علميات التطهير والقتل التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينييون في المخيم، إذ قدر عدد الشهداء بنحو ثلاثة آلاف من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ من المدنيين العزل، أغلبيتهم من الفلسطينيين و بينهم بعض اللبنانيين.
للوقوف على تلك المجزرة ومن داخل المخيم الذي ضاق على سكانه بظروف معيشية وخدماتية حولته لشاهد حي على استمرار المجزرة في زواريب لا تصلها الشمس، وجدران تبتلعها الرطوبة كان لنا شهادات حية مع عدد من الناجين وأهالي المخيم الذين يحيون ذكرى هذه الأيام السوداء.
جميلة محمد خليفة، لاجئة فلسطينية من مخيم شاتيلا في بيروت وشاهد عيان على المجزرة عام 1982:
حين تدخل مخيم شاتيلا، ستمرعلى جميع البيوت، وفي كل بيت سيظهر شاهد عيان، شاهد عيان على مجزرة ما حلّت بالشعب الفلسطيني هنا، لعل المجزرة المرّوعة الجماعية في الذاكرة كانت مجزرة " صبرا وشاتيلا ".
السيدة جميلة خليفة، أحد الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا استشهد والدها أمام عينيها بعد أن حاولوا الهروب، تستعيد في لقاء مع البوابة ذاكرة المجرزة، وما حصل قبل وخلال وبعد المجزرة، بعد 34 عام على وقوعها.
تفاصيل لا تزال عالقة وصور لا تزال تمر هو ما تبقى لتسرده لنا:
- بداية أنا اسمي جميلة محمد خليفة، لاجئة فلسطينية إلى لبنان وبالتحديد مخيم شاتيلا في بيروت ولدت هنا، و شهدت عدة حروب ومجازر أقساها مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 في السادس عشر من أيلول يوم الخميس الذي أذكره جيدا جدا، والدي استشهد في المجزرة.
قبل المجزرة :
قبل المجزرة بأيام قليلة، كنا جميعا أطفالاً ومراهقين في المخيم نخرج باتجاه المدينة الرياضية ونسترق النظر إلى دبابات الجيش "الإسرائيلي" المصطفة هناك ونستغرب منظرها الذي يثير دهشتنا، ثم نعود ادراجنا في المخيم، لم نكن نعلم أن هذه الدبابات وهذا الجيش خُصّص لقتلنا نحن.
كنت أسمع من الأكبر سنا وقتها أن المقاتلين انسحبوا في أوائل أيلول للعام 1982 خارج المخيم، وبقينا عائلات أغلبنا شيوخ ونساء وأطفال مع القليل من الشباب، كنا شعبا أعزل تماما من السلاح، أمّنا للجيش اللبناني لحمايتنا.
يوم المجزرة :
يوم المجزرة ، مجزرة صبرا وشاتيلا أو شاتيلا وصبرا لا تفرق، كنت في السادسة عشرة من عمري، مخطوبة و زواجي سيتم بعد شهر، خرجت إلى بيت جارتي " فاطمة " لأزورها كما العادة وفجأة سمعنا أصواتاً قوية، نظرنا باتجاه اليمين ورأينا "الإسرائيليين" ينزلون بعضهم وراء بعض بلباس عسكري كامل وبخوذة رأس كبيرة مع حقائب على الظهر
كان المشهد مخيفاً جدا جدا، وصرنا نقول: " هجموا "الإسرائيلية ياعالم " وصرنا نصرخ،أمي تصرخ و جارتنا..
لم ألحق الصراخ، أحسست شيئا أمسك بصوتي قبل أن يهجم علينا جندي إسرائيلي وقال لنا باللغة العبرية ارفعوا أيديكم، فرفعنا أيدينا خائفين مرتجفين وانسحبنا تدريجيا إلى غرفة المنزل الداخلية في حين كان أخو فاطمة يحاول بقوة أن يغلق الباب سريعا بوجههم فاستطاع ذلك وبدأت رحلة هروبنا ..
عندما أغلقنا الباب اجتمعت عائلتي وعائلة جيراننا وهربنا إلى منزلنا ومن منزلنا إلى الحديقة ومن الحديقة إلى الشارع ومن الشارع ركضنا سريعا إلى الملجأ، هناك حيث كان المئات مثلنا.
بدأنا نسمع صوت الدبابات قادمة، الدبابات ذاتها التي كنا نذهب لرؤيتها، توافدت الى المخيم وحول الملجأ وأمرنا صوت المايكروفون بالاستسلام كي لا يتم قتلنا أو ذبحنا.
خفت كثيرا وقتذاك لدرجة اني نزعت شال أحد النسوة الأبيض ومزقته و رفعت جزءا منه من باب الملجأ كي يعلموا أننا استسلمنا، كي لا يموت أحد منا، وخرجنا من باب الملجأ.
قتلوا والدي أمام عيني وأعين أمي وأختي الصغيرة
كان والدي يمشي امامنا مع رجال آخرين بعد أن أعلنا استسلامنا وخرجنا من الملجأ، فحاول أولا ان يعود إلى بيتنا ولم يستطع، ثم أكمل السير مع الجميع، فوقف جندي إسرائيلي وأطلق النار على جبينه،على منتصف جبينه ووقع أبي فورا على الأرض.
من كان يبكي أو يصرخ على أي احد يُقتل، كان يُقتل هو أيضا، لذلك أمي التي رأت والدي يقتل أمامها أغلقت فمها بيد وأمسكت بيدها الأخرى أختي الصغيرة ذات السبعة أعوام بقوة، لأنها خافت أن يُقتل أحد آخر من العائلة، كان المهم أن نبقى نسير إلى المدينة الرياضية في هذه المسيرة "مسيرة الاستسلام ".
بقينا خلال هذا الوقت نرفع أيدينا حتى استطعنا الهروب عبر أزقة ضيقة جدا دون أن يرانا أحد وعدنا إلى أطراف مخيم شاتيلا حين أخبرنا بعض الوجهاء أن هناك مذبحة ومجزرة وأن والدي قد قتل أمامنا إلا انهم لم يصدّقوا هذا، حتى ذهبوا ليشاهدوا ما يجرى، ولم يرجعوا، بقوا هناك جثثا متراكمة، قتلوهم الإسرائيلية.
بعد المجزرة بأيام
من المخيم إلى المدينة الرياضية ومن المدينة الرياضية إلى كورنيش المزرعة ومن كورنيش المزرعة إلى طريق الجديدة ثم إلى المخيم من جديد، كل هذا في غضون أيام، كان أبشعها وأقبحها حين عدنا إلى مخيم شاتيلا واشتممنا رائحة الدم والأموات، عندما شاهدنا شعور النسوة على الأرض، بقينا خمس أو ست شهور نخاف من أي صوت، ونخاف عودة "إسرائيل" وحلفائها لقتلنا، لم ننم لخمسة شهور متتالية، أتكلم معكم الآن وأتذكّر والدي وخوفي و الدماء وأرتعش لهول ما حدث.
الجميع اتفق علينا الجيش الإسرائيلي وحزب الكتائب الذي كان يضع الأرزة اللبنانية على لباسه وأحزاب أخرى لبنانية، الجميع شارك في قتلنا.
الحاج الصالحاني الذي يبلغ من العمر 90 عاما كان شاهدا على نكبة فلسطين عام 1948، ولاجئا في لبنان عايش الحروب على الساحة اللبنانية جميعها من حرب المخيمات، ومجزرة تل الزعتر حين استشهد ابنه البكر، ومجزرة صبرا وشاتيلا.
بتجاعيد غائرة ويد مرتجفة يقابلنا الحاج الفلسطيني " عبد الله طالب صالحاني " من مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت، ليروي لنا شهادته على مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 التي ارتكبها الجيش "الإسرائيلي" بقيادة أرييل شارون وبعض القوى اللبنانية الانعزالية.
عرفنا عن نفسك و عما حدث في مجزرة صبرا وشاتيلا ؟
بعد التحديق والصمت لمدة عشر دقائق بدأ الحاج الصالحاني بصوت خافت يستذكر لنا ما حصل:
" أريد أن أعرفك عن نفسي أولا ، أنا عبد الله طالب صالحاني، لاجئ فلسطيني من البصة قضاء عكا أول قرية محاذية للحدود اللبنانية، لجأت مع عائلتي عام 1948 إلى الجنوب اللبناني و بقيت هناك عدة سنوات حتى استقر بنا الحال في النهاية في مخيم شاتيلا ببيروت، في هذا المنزل الذي نجلس فيه ومن هذا المنزل وبين شوارع المخيم، شهدت المجزرة، عام 1982 لا أذكر تاريخ اليوم بالتحديد.
أول يوم للمجزرة حينها كنت متزوجا ومازال لدي أربعة أطفال، تركتهم في المنزل يمارسون حياتهم الطبيعية وقررت الذهاب لأحد بيوت أصدقائي حيث نجتمع أنا و ستة منهم في تلك الظروف الصعبة، كنا نتحدث عن انسحاب المقاتلين ودخول الجيش اللبناني والكثير الكثير، وكان أحدنا سائقا لسيارة كبيرة، خرجنا معه نطوف شوارع المخيم متحمسين لمقابلة شارون،وسؤاله ماذا يريد منا!. كنا شبانا متحمسين جدا.
لم نكن نعرف ما هو المخبّأ، لكن فجأة تغير مسار اليوم، سمعت أصوات رشقات الرصاص و تناثرنا جميعنا في المخيم، لم أملك أوراقا ثبوتية حينها كانت هويتي الفلسطينية ضائعة مما حماني من خطر القتل لم يعرف أحد أني فلسطيني، لكنه لم يحمي أصدقائي الخمسة من ذبحهم وقتلهم .. استشهد جميع من كان معي في ذاك اليوم بينهم زوج أختي " علي عبد الله الدوخي " واستيقظت على خبرهم في اليوم التالي، وصلني خبرهم وانا جالس مع عائلتي مختبئين في البيت.
روائح الدم أتذكرها ، فمن الطبيعي وراء كل ذبح وقتل رائحة دم كريهة، اشتممتها من قبل، اكتبي أنه استشهد الكثير من الفلسطينيين ولا تكتبي تم قتلهم لا، استشهدوا، لكني لا أعرف عددهم بالضبط، استشهد جاري وعائلته واستشهدت عائلة لبنانية كانت تقطن في الشارع المقابل لمنزلنا.
هذا الساطور الذي أمتلكه الآن هو ذكرى من المجزرة منذ عشرات السنين، جلبته معي من محل زوج أختي حينما وجدته ملطخاً بدماء الفلسطينيين، كان يستخدمه "الإسرائيليون" لقتل اللاجئ الفلسطيني بضربة واحدة قاتلة من منتصف الساطور على الرأس أو على البطن إذا كانت إمرأة.
ممم نعم "الإسرائيليون"، لا تكتبي أن هناك لبنانيين شاركوا في القتل .... لكني أذكر "سعد حداد "، المجرم اللبناني رئيس المجزرة وهو من قام بها.
مؤامرة جعلت هذه المجزرة تحصل، ليست مفاجئة، مخطط رهيب لقتلنا وقتها كما يوم حرب المخيمات، ماذا فعلت حركة أمل بنا ؟ قتلوا لي ابني " محمد "، استشهد محمد أمام عيني، ألا تذكرون مجزرة تل الزعتر ؟
هذه فوق رأسي صورة ابني الشهيد وهذا الساطور من المجزرة وأنا جالس في المخيم منذ شبابي وحتى الآن، أحس بالجوع وأريد أن آكل " ....