وسام سباعنة *

بينما يُتوقع أن تفتح المصالحة الفلسطينية، التي جرى توقيعها في القاهرة قبل أيام، آفاقاً لتوفير وضع معيشي أفضل للمواطنين الفلسطينيين في القطاع، وآفاقاً أُخرى لإعادة بناء «منظمة التحرير الفلسطينية» وتأليف حكومة وحدة وطنية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، فإنه لا يمكن التغاضي عن ذلك القدر الكبير من المخاوف المصاحبة لتوقيع الاتفاق الجديد، ومنها تلك الخشية الناجمة عن التجربة الطويلة، من أن تتعثر المسارات فجأة، فنعود إلى التراشق التقليدي بالاتهامات بين طرفَي الانقسام.

أيضاً، منها خشية أكبر من الربط الذي تقيمه أطراف إقليمية ودولية بين تحقيق المصالحة، وبين ما يسمى بـ«صفقة القرن»، والتي يقال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يحضّر لها، لعقد اتفاق للتسوية، بالاشتراك مع أطراف عربية لا يخفي بعضها لهفته لعقد اتفاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو تطبيع العلاقات معها.

وغالباً ما يتراصف في الوعي الجمعي الفلسطيني الربط بين التسوية، وبين تصفية القضية الفلسطينية. والحديث عن «التصفية»، يأخذنا مباشرة إلى «قضية اللاجئين الفلسطينيين»، وذلك لعدة أسباب، أولها: التعقيد الكبير المحيط بهذه القضية، ورفض إسرائيل التعامل مع القرار الدولي 194 القاضي بعودة اللاجئين؛ ثانيها: تساهل المفاوضين الفلسطينيين الكبير في التعامل مع هذه القضية، وصولاً إلى اقتراح بدائل للعودة، من طرف المفاوضين أنفسهم؛ أمّا ثالثها: فحالة الإهمال التي يعانيها اللاجئون من جانب «منظمة التحرير» والسلطة والفصائل مجتمعة، الأمر الذي يتسبب بإحساس متنامٍ لدى اللاجئين الفلسطينيين بأنهم، جماعة وأفراداً، متروكون ليواجهوا مصيرهم وحدهم.

مع هذا التطور المرتبط بالمصالحة الفلسطينية والحديث عن التسوية، يوجد تطور كبير آخر يمس مستقبل قطاع كبير من اللاجئين الفلسطينيين. ففي سوريا، حيث عاش ويعيش مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، تقترب الأزمة التي عاشها البلد منذ أعوام قاسية وصعبة، من نهايتها، وتتوجّه نحو الحوار والحل السياسي، الأمر الذي يضعنا أمام تساؤلات ملحّة بشأن مستقبل اللاجئين الفلسطينيين في البلد الذي احتضنهم بدفء كبير منذ النكبة، فضلاً عن الأسئلة الكبرى المتصلة بمستقبل اللاجئين عامة.

عاصمة الشتات

 

لا ريب في أن التعامل الفلسطيني الرسمي (المنظمة والسلطة)، والفصائلي عموماً، مع الأزمة التي عاشها ويعيشها الوجود الفلسطيني في سوريا، وفي مخيم اليرموك خاصة، يشكل نموذجاً لما أشرنا إليه بالنظر إلى قضية اللاجئين. إن العنوان الأساسي لهذا التعامل هو: الإهمال واللامبالاة، بل إن بعض الفصائل لجأ في أحيان أُخرى إلى توظيف طاقات اللاجئين في خدمة برامجه وأيديولوجياته غير المتلائمة مع مصالحهم وتطلعاتهم.

لم يكن هذا ما يستحقه اليرموك وسائر المخيمات من الفصائل والقوى الفلسطينية، ولا سيما أنه المخيم الذي حمل اسم عاصمة الشتات عن جدارة، والذي برز فيه الوجود الفلسطيني في سوريا، ككتلة دينامية مؤثرة في تظهير الشخصية الوطنية، ورسم خطوط الموقف السياسي الفلسطيني. وهذا حديث آخر.

انقسم الفلسطينيون

في مواقفهم وتوجهاتهم على نحو ما انقسم المجتمع السوري

علاوة على ذلك، ومن الناحية الموضوعية، فإن القوانين الناظمة للوجود الفلسطيني في سوريا، تميّزت عن القوانين الخاصة بهم في جميع أماكن اللجوء الفلسطيني الأُخرى، بأن منحت اللاجئين حقوقاً مساوية للسوريين (عدا الانتخاب والترشيح)، وصانت في الوقت نفسه هويتهم الوطنية. ونجم عن ذلك أن الفلسطينيين اللاجئين في سوريا كانوا في وقت واحد مندمجين، بشكل كامل، في المجتمع السوري من جهة، ومتمسكين بهويتهم الوطنية من جهة أُخرى.

ومع تلك الحالة من الاندماج شبه الكامل، لم يكن سهلاً تحاشي الانعكاسات التي ظهرت مع نشوب الأزمة في سوريا في عام 2011. باختصار شديد: انقسم الفلسطينيون في مواقفهم وتوجهاتهم على نحو ما انقسم المجتمع السوري. وعلى الرغم من جهود حثيثة من الدولة السورية، وبعض القوى الفلسطينية، لتحييد المخيمات أو الوجود الفلسطيني عامة، عن الأزمة وتداعياتها، فإن مسار تطور الأحداث، علاوة على أخطاء ارتكبتها قوى فلسطينية متعددة، جعلا المخيمات في دائرة الخطر الشديد، بل إن بعضها، وبعدما أدى لأكثر من عام ونصف عام من عمر الأزمة دوراً إغاثياً وإنسانياً، تحول إلى ساحة اشتباك، فاجتاح المسلحون تحت مسميات مختلفة مخيم اليرموك في نهاية عام 2012، وقبله مخيمَي «الحسينية» و«السبينة». وجرّاء هذه الاجتياحات، وخوفاً من جولات القتال والمعارك، وبعد عشرات الأعوام من الاستقرار، لملم عشرات آلاف اللاجئين «ذاكرتهم» وأشياء صغيرة أُخرى في حقائب متهالكة، وبدأوا «هجرة أُخرى».

سيمر وقت طويل قبل أن نكون قادرين على القيام بتحديد دقيق لنتائج تلك الكارثة التي أحاطت بالمخيمات الفلسطينية، وخصوصاً مخيم اليرموك، فقد تهجّر من المخيم نحو 220,000 فلسطيني، فضلاً عن نزوح أهالي مخيمَي السبينة والحسينية، وعشرات الآلاف الآخرين من مخيمات حلب ودرعا.

تقول الـ«أونروا»، في تقريرها لسنة 2016، إن «عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها قارب الـ526,000، غادر 63% منهم منازلهم: 75,000 شخص غادر البلد كلاجئ، و254,000 نازح داخل سوريا، بينما بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ومصر ولبنان 80,000 شخص يعانون ظروفاً معيشية صعبة وعنصرية مقيتة، كثيراً ما لا تميّز بين الشعب ومعاناته، والفصائل وممارساتها». وتذهب تقديرات أُخرى إلى أن عدد الذين هاجروا خارج سوريا وصل إلى 176,000 شخص.

لقد كنت شاهداً، من خلال الاستمرار في العمل الإغاثي بعد تخلّي الـ«أونروا» عن دورها بذريعة المخاطر، على كثير من الأحداث والوقائع في مخيم اليرموك، ورأيت مَن ماتوا مرضاً وجوعاً. إن وصف همجية «داعش» و«النصرة» يتطلّب تاريخاً مضافاً قد نفرغ له فصولاً من الذاكرة قريباً. لكن السؤال البديهي الذي يقفز إلى الواجهة الآن، وعلى مسافة قصيرة من انتهاء الأزمة في سوريا، هو: «ما مصير اللاجئين الفلسطينيين؟!».

العودة ثم العودة

آمن اللاجئ الفلسطيني دائماً بأن «المخيم وطن موقت»، بانتظار العودة إلى فلسطين، وهو أمر لم يكن ولا يعني الاستكانة والانتظار، وإنما كان هناك دائماً محاولات لتقليل فترة الانتظار الطويل. واليوم، ننتظر العودة إلى المخيم، وهذا ليس تراجعاً في مستوى الحلم، أو انتكاسة في التصميم على العودة إلى فلسطين، بل إن المخيم هو حاجة وضرورة من أجل العودة الكبرى.

يعيش اليوم في سوريا 400,000 لاجئ فلسطيني. ومع اقتراب الأزمة من نهايتها، بدأ البعض يقدّم «اجتهادات» في الإجابة عن السؤال المتصل بمستقبل اللاجئين الفلسطينيين في سوريا: البعض منهم يأخذ منحى متطرفاً حين يتداول كلاماً عن «نية الحكومة السورية إبعاد اللاجئين من مخيمات دمشق إلى الأرياف البعيدة»، بينما الآخرون كلامهم أكثر خطورة لأنهم يتحدثون عن «إجراء تعديلات على القانون 260 الصادر في سنة 1956»، والذي يعطي اللاجئين الفلسطينيين حقوقاً مساوية للمواطنين السوريين.

في الوقائع، عاد آلاف الفلسطينيين إلى مخيمَي «الحسينية» و«السبينة»، لكن مخيم اليرموك لا يزال تحت سيطرة «داعش» و«النصرة». وفي الوقائع أيضاً، فإن «قضية فلسطين» ما زالت تحتفظ بالمكانة التي كانت لها دائماً في الخطاب السياسي السوري. ومن نافل القول إن سوريا احتضنت تاريخياً الفصائل الفلسطينية وقادتها، ودفعت أثماناً باهظة جرّاء مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية.

اليوم، وفي ضوء المخاطر التي تحيط بالقضية الفلسطينية عامة، وقضية اللاجئين خاصة، فإن على مَن وقعوا اتفاق المصالحة في القاهرة، الالتفات إلى أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وتحمّل مسؤولية عودتهم إلى مخيمات سورية، بالتعاون مع جميع الأطراف، وبإشراك منظمات المجتمع الأهلي الفلسطيني، الأمر الذي يضمن بقاء قضيتهم حية، وحقهم في العودة محفوظاً في مواجهة صفقة القرن أو الصفقات الأُخرى.

في سوريا، ثمة كثير ممّا هو قادم من بوابة الحل السياسي كعودة الاستقرار والسلم الأهلي، الأمر الذي يتطلب عملاً جاداً ومسؤولاً لضمان عودة الفلسطينيين إلى مخيماتهم، ولتثبيت المكتسبات والحفاظ على القوانين والتشريعات التي تنظّم علاقة الفلسطينيين بالدولة السورية، كما كانت قبل الأزمة.

 

*مدير مؤسسة جفرا للإغاثة والتنيمة الشبابية

صحيفة الأخبار اللبنانية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد