حلمي موسى
شكلت الأمم المتحدة، منذ الإعلان عن إنشائها في منتصف أربعينات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في نظر الولايات المتحدة، واحدة من أدوات إدارة العالم. وعمدت عبر استضافة مقرها والسخاء في تمويل نفقاتها لاستخدامها وسيلة من وسائل ترسيخ القوة الأمريكية الناعمة إلى جانب جيوشها وأساطيلها التي فرضت واقع أنها قوة عظمى صاعدة. ومع وجود وتنامي القطب الاشتراكي برئاسة الاتحاد السوفييتي حتى نهاية السبعينات والقضم في الدور الأمريكي، تزايد المقت الأمريكي للأمم المتحدة ومؤسساتها.
رغم انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الولايات المتحدة كقوة تعد الأعظم عالمياً في نظام القطب الواحد؛ فإن العداء للأمم المتحدة ومؤسساتها ظل قائماً لدى الأوساط الداعية لعزلة أمريكا.
ونظراً للدور الأمريكي عموماً في الأمم المتحدة وفرت هذه المؤسسة لدويلة «إسرائيل» أول أسس شرعيتها الدولية بإقرارها مشروع تقسيم فلسطين العام 1947 لتضفي شرعية على وعد بلفور والنشاط الانتدابي البريطاني في تكريس الاستيطان اليهودي. غير أن هذه الشرعية اصطدمت بواقع أن «الإسرائيليين» يريدونها حكراً لهم وحدهم وليس أن يتشاركوا فيها مع أصحاب الأرض الحقيقيين. ويشهد على ذلك قول دافيد بن جوريون بأن «النقب لن يهرب منا» في محاجّته ضد المتطرفين اليهود ممن رفضوا مشروع التقسيم.
ومع تنامي علاقات الرعاية والتداخل في المصالح والرؤى بين «إسرائيل» والإدارات الأمريكية صار التناقض مع الأمم المتحدة أكثر وضوحاً. وبدا في فترات مختلفة اختلاف في الرؤى بين الإدارات الأمريكية و «إسرائيل» بشأن الأولويات تجاه مؤسسات الأمم المتحدة. وكانت أمريكا ترى في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(الأونروا) جانباً إنسانياً يخفي أبعاداً سياسية في حين كانت «إسرائيل» ترى فيها ترسيخاً لحق العودة الفلسطيني الذي ينسف أسس الوجود «الإسرائيلي». ومع ذلك صار التدرج في المواقف يركز على الجانب السياسي خصوصاً في مجلس الأمن الدولي صاحب القدرات التنفيذية، بقصد توفير الحماية ل «إسرائيل»، وعدم التركيز على المواقف في الجمعية العمومية وفي وكالات الأمم المتحدة الأخرى.
ولكن مع عودة الولايات المتحدة، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك منظومة عدم الانحياز، للعب الدور القيادي الأبرز في الأمم المتحدة بدأت مراجعة مواقف ضد «إسرائيل»، بما فيها قرار وسمها بالعنصرية، و مع تنامي المساعي السياسية العربية والفلسطينية في الأمم المتحدة لتقييد «إسرائيل» وحركتها في المؤسسات الدولية بدأ الهجوم الأمريكي - «الإسرائيلي» الممنهج ضد هذه المؤسسات. وظهر ذلك بشكل جلي في اليونيسكو والمجلس العالمي لحقوق الإنسان وأخيراً في الأونروا.
وإذا كان السياق العام للموقف الأمريكي- «الإسرائيلي» من مؤسسات الأمم المتحدة تراكمياً فإن الموقف من الأونروا عبر عن الوجهة ذاتها. فقد بدأ الجهد الأمريكي أولاً بمحاولة توجيه الأونروا نحو نشاطات تناهض الهوية الوطنية الفلسطينية وتطالب بـ «تطهير» الأونروا من النشطاء المنتمين للفصائل الفلسطينية. وبعد ذلك جاء وقت مطالبة الأونروا بعدم توجيه المساعدات الغذائية والصحية إلى جهات تنتمي للعمل الوطني الفلسطيني. وأخيراً جاء الموقف الرامي لاستخدام الأونروا كوسيلة ضغط سياسية واضحة على السلطة الفلسطينية خصوصاً بعد تصاعد الخلاف مع الإدارة الأمريكية حول الموقف من «صفقة القرن».
والواقع أن «إسرائيل» حاولت على مدى العقود الماضية إقناع الإدارات الأمريكية بضرورة تفكيك الأونروا، لأنها تخلد اللجوء الفلسطيني وتبقي حقهم في العودة قائماً. وكثيراً ما حاولت حكومات دويلة الاحتلال المقارنة بين الفلسطينيين المطرودين بقوة السلاح من أرضهم ووطنهم وبين اليهود العرب الذين لجأت « إسرائيل» إلى كل السبل لدفعهم للهجرة إلى فلسطين ووضع المسألتين في كفتي ميزان ظالم. واعتبرت أن الدول العربية تخلد الصراع عبر رفض توطين اللاجئين وعبر ترسيخ وتوسيع عمل وكالة الغوث. وتقريباً طوال عقود عجزت عن إقناع الأسرة الدولية بذلك.
ولكن بعد تولي إدارة ترامب الحكم في الولايات المتحدة ووصول كبار المؤيدين لـ «إسرائيل» إلى أعلى المناصب وما شاب الموقف العربي من وهن وتراجع، تغير الحال بعض الشيء. فإدارة ترامب عبر مبعوثتها إلى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، أعلنت بوضوح أنها ستعمل من أجل مصالح «إسرائيل» في المؤسسة الدولية. وصار العمل من أجل «إسرائيل»، بعد تنامي قوة اللوبي اليهودي في الإدارة الأمريكية، تعبيراً عن السياسة الداخلية في الحزبين الحاكمين في أمريكا. وما زاد الوضع تعقيداً تحالف اليمين اليهودي في أمريكا مع اليمين الديني المسيحي وخصوصاً في أوساط اليمين الجمهوري.
في كل حال، وبعد إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل»، والرفض الفلسطيني والعربي الواسع لهذا الاعتراف، جاء دور التهديد بقطع التمويل عن السلطة حيناً وعن الأونروا حيناً آخر. وكان واضحاً أن التهديد الذي أطلقه ترامب كان يرمي إلى إجبار الفلسطينيين على القبول بميل إدارة ترامب إلى حل قضايا الحل النهائي على طريقتها وبما يخدم «إسرائيل» بعيداً عن مقتضيات الشرعية الدولية ومصالح الفلسطينيين. وشرعت إدارة ترامب القول إن الموقف الفلسطيني الرافض، هو إنكار لجميل الولايات المتحدة التي تمول السلطة والوكالة وهو تعبير عن «عدم إظهار الاحترام والتقدير» وأنهم لا يرغبون بالتفاوض مع «إسرائيل» للتوصل إلى اتفاق سلام.
ولكن الشعب الفلسطيني وسلطته رفضوا الإملاءات الأمريكية وأعلنوا أن القضية والقدس ليستا للبيع وأنهما لن يقبلا بالرعاية الأمريكية لعملية السلام وسيبحثان عن بديل دولي آخر. ورغم أن أحداً في الأسرة الدولية لا يستطيع تجاهل الدور والقوة الأمريكية إلا أن الموقف الفلسطيني المستند إلى الحق والشرعية الدولية لقي تفهّماً من الكثير من الدول ووفر أساساً لمناهضة الموقف الأمريكي المتحيز. واضطرت حتى الجهات الرسمية في «إسرائيل»، نظراً لما تحمله المواقف الأمريكية من خطر كارثة اقتصادية في الأراضي المحتلة وخطر انفجارات أمنية وشعبية كبيرة، إلى إشهار اعتراضها على ذلك. ونشرت مصادر إعلامية «إسرائيلية» أن الخارجية «الإسرائيلية» والمؤسسة الأمنية أبدتا اعتراضهما على الموقف الأمريكي. واضطر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، للقول إنه رغم تأييده المبدئي للموقف الأمريكي إلا أنه يطالب بالتنفيذ التدريجي له تجنباً للعواقب.
عموماً نشرت وسائل إعلام أمريكية أن الموقف الفلسطيني خلق ارتباكاً في الإدارة الأمريكية التي لم تعد تعلم إن كان من الأفضل تنفيذ التهديد بقطع المعونة عن الأونروا بما ينطوي عليه ذلك من خطر زعزعة الاستقرار أيضاً في دول اللجوء. وهناك في الإدارة من يرون أن تهديد ترامب يضع على المحك سياسته المعلنة باستخدام المعونات وسيلة «لمعاقبة الحكومات الأجنبية على سلوكها السيئ » وهو ما يشكل اختباراً عملياً لهذه السياسة. وواضح أنه مثلما فشل ترامب في تنفيذ العديد من وعوده سيفشل هنا ربما أكثر من أي مكان آخر.