دمشق-الكاتب علي بدوان

تَعرّضَ ومازال، مُجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا لأزماتٍ طارئةٍ، وحادةٍ، مع اندلاع واشتعال الأوضاع الداخلية في البلد، والتي أصابت بتداعياتها، ومخارجها، صميم البنية الاجتماعية وحتى الاقتصادية وغيرها للاجئين الفلسطينيين في سوريا، والتي باتت تُشكِّل حالة شبه مُستعصية في ظل تراجع العوامل الإيجابية التي كانت قد قفزت بحياة الناس وأوضاعهم على كافة الصُعد وكافة المجالات خلال العقود الماضية من عُمر اللجوء الفلسطيني إلى سوريا.

فقد أدّت سنوات المحنة السورية الدامية، وتزايد الصراع بوحشيّة وضراوة متزايدة، لوقوع دمار كبير في عموم المُخيّمات والتجمّعات الفلسطينية فوق الأرض السوريّة، وقد طال الدمار الكامل والتام، فضلاً عن التهجير، كلاً من: مُخيّم درعا، ومُخيّم الطوارئ في درعا، ومُخيّم حندرات في حلب، ومُخيّم سبينة في ريف دمشق الجنوبي. وطال الدمار الكامل بعض المُربعات في مُخيّم اليرموك، خصوصاً مداخله، فضلاً عن تهجير غالبية سكانه ومواطنيه الذين كانوا يُشكّلون الكتلة المُجتمعيّة الأكبر لفلسطينيي سوريا وبواقع نحو ربع مليون لاجئ فلسطيني.

فيما وقعت عدة مُخيّمات تحت نيران الأزمة وعانت الكثير من مُستتبعاتها: مُخيّم خان الشيح في ريف دمشق الغربي، مُخيّم الرمدان في ريف دمشق الشمالي الشرقي، مُخيّم خان دنون في أقصى ريف دمشق الجنوبي، مُخيّم النيرب جنوب شرقي مدينة حلب، مُخيّم الحسينية، مُخيّم قبر الست في ريف دمشق الجنوبي الغربي، فيما بقيت مُخيّمات: الرمل في اللاذقية، والعائدين في حماة، والوليد في حمص، وجرمانا، الأقل تَضَرراً، وشهدت بالمقابل هجرة عالية من أبنائها، وخاصة أجيال الشبان نحو خارج سوريا.

الأحداث الدائرة في سوريا منذ اندلاعها وحتى الآن،  تسبّبت بتهجير نحو ثلاثة أرباع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا من مُخيّماتهم ومواقع سُكناهم، في هجرةٍ داخلية، لم تلبث أن تحوّلت لهجرةٍ خارجية لعددٍ كبير من لاجئي فلسطين في سوريا.

إنّ المُعطيات الصادرة عن الجهات المعنيّة المختلفة، بما فيها وكالة "الأونروا"، والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين في سوريا، وبعض الجهات الفلسطينية الرسمية، تُشير بأنَّ الأعداد المُسجلة للاجئي فلسطين في سوريا، في سجلات وكالة "الأونروا" بداية الأحداث السورية عام 2011، اقتربت نحو (540) ألف فلسطيني سوري، وقد بات نحو (70-80) بالمائة منهم مُهجّرون الآن داخل سوريا وخارجها، بالرغم من عودة بعض سكان مُخيّم سبينة في ريف دمشق الجنوبي، ومُخيّم جندرات شمالي مدينة حلب إلى بيوتهم ومساكنهم المُدمّرة أو شبه المُدمّرة والتي تحتاج لإصلاح كليِ أو جزئي.

إنَّ الأوضاع الصعبة للاجئي فلسطين في سوريا نتيجة كل تلك الوقائع التي أصابتهم في ظل الأزمة السورية الداخلية، تضافرت معها مجموعة من العوامل السلبيّة "التي زادت من الطين بلّة" على حد تعبير المثل الشعبي الفلسطيني، وكان في مقدمة تلك العوامل بروز وتفاقم ظاهرة التهميش لهذا المُجتمع الذي يمتاز باعتباره مجتمعاً فتيّاً، ترتفع فيه نسبة من هم دون السادسة عشر من العمر، وقد طالت تلك الظاهرة (ظاهرة التهميش) كل المستويات والأبعاد، مع تراجع الفُرص، بما فيها فُرص العمل، وخصوصاً العمل المهني العالي، والعمل المطلوب لأصحاب شهادات التعليم العالي. فتلك الظاهرة جرّت ومازالت تجُر كوارث متتالية، وبالطبع فإنّ مَرَد ذلك لا يعود للناس وحدهم بل لمستجدات وشروط الحياة والمعيشة والعوامل التي تتحكم بمسارات الدورة الاقتصادية، وجودة الحياة والتعليم والصحة الخ.

إنَّ كل تلك التحوّلات، التي وقعت في نسج مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، أدّت بنتائجها القطعيّة، لولادة ظاهرة التمزُق الاجتماعي، وتشتُت الناس، وبحثهم عن الخلاص الفردي والأسري. فالأزمة السورية ذاتها أحدثت شروخاً مُعيّنة في الحالة الفلسطينية، في ظل التهجير الداخلي وفقدان المأوى والسكن، وصولاً إلى الهجرات الخارجية المُتتالية عبر قوارب الموت، وبالتالي، فإنّ سوء أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وعدم إمكانيّة العودة إلى أماكن سكنهم الأصلية في سوريا جعل الهجرات الخارجية القسرية احتياجاً أساسيّاً، وقد تزايد منسوبها في فترات مُعيّنة ووصلت لحدود عالية، حتى بات نحو نصف لاجئي فلسطين في سوريا في مغترباتٍ جديدة تمتد من غرب أوروبا إلى كندا واستراليا ونيوزلندا، حيث تُشير العديد من المُعطيات أنّ نحو (180-200) ألف لاجئ فلسطيني من سوريا غادروا البلد خلال السنوات الخمس الأخيرة. وكل ذلك انعكس على حال المجتمع الفلسطيني اللاجئ في سوريا ونسيجه العام، وزاد من تَفرّق العائلات الأسرة الواحدة، وبالتالي في تفككه وتمزقه.

ظاهرة التمزّق الاجتماعي في نسيج المجتمع الفلسطيني اللاجئ فوق الأرض السورية، مازالت تتسع إلى الآن، وقد بَدَت ماثلة للعيان، نتيجة تواصل حالة التهجير الداخلي الواسع، وتزايد الفقر، والفاقة، والعوز، والخوف من المستقبل المجهول، وغياب المُمثل والحامي للاجئين الفلسطينيين، مع تقصير وتراجع أدوار مختلف القوى الفلسطينية، وبالتالي في ارتفاع منسوب الهجرات الخارجية، على قوارب الموت.

من جانبٍ آخر، إنَّ الهجرات القسريّة لفلسطينيي سوريا، تركت ورائها في سوريا، الأجيال المُتقدمة في العمر من أبناء فلسطين، حين مَسّت تلك الهجرات القسرية عنصر الشباب الفلسطيني، بشكلٍ كبير، كما أنَّ أكثر من ثلث إجمالي المهاجرين هم من أصحاب المؤهلات والتحصيل العلمي بدءاً من شهادة الإجازة الجامعية الأولى (أي شهادة البكالوريوس)، وخريجي الجامعات والمهنيين، الذين باتوا في غربة جديدة في بلدان المغتربات والمهاجر البعيدة والممتدة من الدول الإسكندنافية إلى أستراليا ونيوزلندا وما بينهما حتى إلى الصومال وكمبوديا وجزر المالديف وماليزيا وروسيا، وإلى أكثر من ثلاثين دولة عبر العالم وصلوا إليها بسبب نيران الأزمة السورية التي أصابتهم في الصميم، في هجرة متتالية كل يوم دون جرس إنذار.

ومع هذا، إنَّ تلك الهجرة الخارجية القسرية التي أملتها ظروف الأزمة المُستعرة في سوريا، لن تُنسيهم حقهم في وطنهم الأبدي فلسطين، فالخيمة في داخلهم، تلك التي انتصبت في نكبة 1948، ورحلت معهم إلى كل جهات الأرض. أقسمت أن تبقى معهم، تقيهم في كل موسم ريح السموم وفي الوحدة صقيع الغربة. وهم عاهدوها أن تظل فيهم، تُظلّل أجسادهم، تقي أرواحهم من حر النيران المُلتهبة إلى أن يعودوا، وها هو مفتاح البيت معهم مهما ابتعد عنهم البيت. سيظل الجد يحكي للحفيد عن عكا التي لولا صمودها لما جاورت البحر، عن حيفا التي لا تنام إلا على هديره، ويافا التي ظلّت عروسه مهما جفّ وعطش. لن يكف الابن عن الرحيل من غُربة إلى غُربة وعن سؤال أبيه يا أبي "لماذا تركت الحصان وحيداً"؟

خاص-بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد