دمشق - الكاتب علي بدوان
يَملِكُ مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين مُتسعاً حياً، نابضاً، متألقاً، وافراً وغنياً، في الذاكرة الفلسطينية، وفي موسوعةِ الكفاح الوطني الفلسطيني المُعاصر، وفي مسيرة المقاومة الفلسطينية. فهو مخيم القافلةِ الأولى من الفدائيين، ومن الشهداء، مخيم الرصاصات الأولى، التي أعلنت قيامة الشعب العربي الفلسطيني من جديد بعد نكبة العام 1948، فكان في تاريخه الوطني حاضنة للثورةِ والمقاومةِ طوالِ سنواتِ الستينياتِ والسبعينياتِ والثمانينياتِ من القرن الماضي، وهي السنواتِ الطويلةِ التي شَهِدت العمر الذهبي للثورة الفلسطينية المعاصرة. وفي المراحل التالية، لَعِبَ مخيم اليرموك، دوراً تاريخياً رائداً إضافياً بعد إنتقال ثقل العملية الوطنية الفلسطينية إلى الداخل المحتل عام 1967، حين شَكَّل جبهة المساندة الداعمة للإنتفاضتين الأولى (1987)، والثانية (2000) في فلسطين، من خلال القيام بكل الأعمال الوطنية التي أسهمت في توفير الدعم المُمكن للشعب العربي الفلسطيني في الداخل، وعلى كلِ المستوياتِ، بالدعم السياسي، والإعلامي، والإغاثي، وبالتواصل، وبذل الجهود في محاولة تعزيز الفعل الكفاحي الخارجي من المنافذ المتاحةِ، ومنها جبهة جنوب لبنان بالرغم من المصاعب الكبرى في هذا الميدان.
مخيم اليرموك، ليس مكاناً جغرافياً بحتاً، أو موئلاً لمجموعاتٍ أو كتلاً بشرية من اللاجئينِ الفلسطينيينِ في سوريا، بل إنه جزءاً أساسياً من التاريخ والفعل، الذي يُلخّص دراما النكبة الفلسطينية وتحوّلاتها، كما يُلخِّصُ سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يُلخِّصُ إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.
مخيم اليرموك عاصمة الشتات الفلسطيني، ليس لأنه التجمع الأكبر للاجئين الفلسطينيين في الشتات المحيط بفلسطين، بل، أيضاً، لدورهِ الفاعل، الوطني الكفاحي، في مختلف مراحل الثورة الفلسطينية منذ ماقبل العام 1965، عام الإنطلاقةِ الرسمية للثورة المعاصرة، وحتى الآن.
فِعل، ورمزية مخيم اليرموك، باتت موجودة بشكلٍ مستديم في سرديةِ العمل الكفاحي للمسيرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وللوطنية الفلسطينية عموماً. فقد تحوّل هذا المخيم إلى مدينة عامرة بمن فيها، وصورة حية عن فلسطين، فَكُلُّ من عاش بين أزقته وشوارعه، وكُلُّ من سكنه وساكن أهلهِ ولو يوماً واحداً، عَشِقَهُ، وما أنفك عِشقَهُ عنه حتى الآن.
مخيم اليرموك وأهله وعموم سكانه دَفَعَ الثمن من حسابِ سوريا، ومن حسابِ فلسطين، إن كانت فلسطين لا تزال في حسابِ أحدٍ من الذين تركوا لاجئي فلسطين في سوريا يكابدون ويصارعون أوجاعهم في ظل محنتهم الثانية بعد نكبة العام 1948!!
المباني التي دمرتها القذائف وحولتها إلى أشباح هياكل، وأهله الذين أرهقتهم الحرب وتداعياتها القاسيةِ، والجوع والفاقةِ، والتشرد والتهجير، هي كل ما تبقى من مُجتمعٍ تمزق أو كاد يتمزق في أحسنِ الأحوال.
هذا المخيم ليس التجمع الفلسطيني الوحيد في سوريا بالطبع، ولكنه كان القلب الإجتماعي، والثقافي، والسياسي، وحتى الرمزي للفلسطينيين في البلد. ولهذا السبب أصبح رمزاً لنكبة الفلسطينيين في سوريا ولمجتمعهم، الذي بات مثخناً بالجراح، تنتظر الفرج والإلتئام.
دلالات النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948 كانت دائما مرتبطة بالتحوّلات التاريخية و السياسية في المنطقة. كما تجسدت بين أبناء وأحفاد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، في ذكرياتٍ وتواريخ، ورواياتٍ شفهية منقولة، لكن نكبة فلسطين سوريا الثانية في ظل المحنةِ السورية، اكتسبت دلالاتٍ ومعانٍ جديدة.
لقد تضاربت القوى الفلسطينيةِ المُختلفةِ في تقديراتها حيال الوضع المستقبلي للاجئي فلسطين في سوريا، منذ اللحظات الأولى لإنفجار الأوضاع الداخليةِ في سوريا، وقد إنعكس هذا التضارب على وضع مخيم اليرموك وعموم المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، حيث لم تتوفر لدى الفصائل والقوى الفلسطينية في سوريا أي رؤيةٍ متكاملةٍ، أو خطةٍ أو برنامج عمل لمواجهة تطوراتٍ محتملة، فكان التخبط سيد الموقف في تقدير وتقرير المطلوب من مختلف القوى الفلسطينية، وكل ذلك دفع باتجاه إتساع أهوال الكارثة السورية على لاجئي فلسطين في البلد.
إنَّ ماحَلَّ بمخيم اليرموك، من تهجيرٍ واسع لعمومِ سكانه، ومن تمزيقٍ لنسيجه الإجتماعي من خلال الهجراتِ البعيدةِ في دياسبورا المنافي الجديدة على إمتداد المعمورةِ بإتجاهاتها الأربع، والتي لا يلام الناس فيها، لم يأتِ هكذا دون مقدماتٍ، فقضيةِ لاجئي فلسطين تُمثّل العقبةِ الكأداء في مسار عملية التسوية المأزومة أصلاً، وقد وصلت تلك العملية لمحطاتٍ خطيرة مع نيةِ الإدارة الأميركيةِ الجديدةِ إطلاق مشروع التسوية المعنون بــ "صفقة القرن"، والتي سيكون لاجئي فلسطين وحقهم بالعودة، وعلى الأخص منهم لاجئي فلسطين في سوريا ولبنان، أبرز إستهدافاتها وضحاياها. وبالتالي فإن الإستهداف الكامن لدى عدةٍ أطراف اقليمية ودولية للاجئي فلسطين في سوريا، ومخيم اليرموك على الأخص، يؤكد حقيقية تلك الدراما المأساوية، التي رسموها، ومازالت سائدة في أحوال مخيم اليرموك، وأحوال عموم مواطنيه الذين بات جزءاً كبيراً منهم في ساحاتِ التيه.
إنَّ عملية التهجير، وتمزيق النسيج المُجتمعي والسكاني لمخيم اليرموك، وعموم لاجئي فلسطين في سوريا، تَمَت عملياً بنسبٍ متفاوتةٍ، وكُلُ هذا إنعكس على دور المخيم التاريخي في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، من مخيمٍ ساهم بخزانهِ البشري الكبير، وبإرادة أبناءه وعموم مواطنيه، في تفجير وإطلاق رصاصاتِ الثورةِ الفلسطينيةِ المعاصرةِ، إلى مخيمٍ يَنشُدُ من تبقى من أبنائه المحافظة على الذات، والمضي في عراكِ الحياة اليومي لتأمين قوت أبناءه. بل ومازالت أعداد كبيرة من أبناء وعائلات اليرموك تؤمن قوتها اليومي وإستمرارِ حياتها، من مصادرِ الدعمِ الخارجي المُحدود من الأقاربِ والمعارف.
إنَّ مساراتِ الأزمةِ السوريةِ، واستمرار تداعياتها المُرةِ والماساويةِ، جَعَلَ من لاجئي فلسطين في سوريا يُفكرون، ويركزون، على سُبُلِ الثباتِ، والبقاءِ، والمحافظِ على الذات، في لجةِ مايجري، وهو ما أنعكس على دورهم التاريخي المعروف والمعلوم للجميع، في مسار العمليةِ الوطنيةِ الكفاحيةِ الفلسطينيةِ المعاصرةِ. ففي الواقع العملي لا دور جدي لهم الآن في هذا المضمار، وهم غير ملومين في ذلك على الإطلاق، بل إنَّ المطلوب منهم البقاء والثبات والمحافظة على وجودهم في البلد، بجوار وطنهم التاريخي فلسطين، وبجوارِ تجمعاتهم، والعودةِ لمخيم اليرموك وغيره من المخيمات والتجمعات. فالمعنى في المخيم الفلسطيني ليس أمراً شكلياً، بل مازال بالرغمِ من كل شيء، يمثلُّ عنوان الإقامةِ المؤقتةِ على طريق العودةِ إلى فلسطين. فهل يترك أبناء فلسطين ولاجئيها في سوريا المخيم، وهل بات اليرموك خارج المعادلة الكفاحية، وخارج دوره الرائد في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني .. ؟
بالتأكيد، لا، إنها كبوة طويلة وقاسية، لكنها لن تدوم، فالمخيم سيبقى عنوان الإقامة المؤقتة، ورفيق الطريق في المسيرة إلى فلسطين ....