الوليد يحيى
الفنان والشهيد هما الحقيقة الوحيدة بين البشر، لأنّهما يبقيان في ذاكرة الأجيال إلى الأبد، وبعض الفنّانين يقضون بطعم الشهداء، متدثّرين بمضامين نتاجات نحتوها من حفنة صلبة لقضايا لا تموت، وإنّما يتغيّر شكل وجودها، لتستحيل من المجسّد إلى الأكثر تكريساً في منظومة القيّم.
ومثل القضايا لا تموت، بل تكرّست ريم بنّا في الرابع والعشرين من آذار/ مارس، في ديدن وجوديّتنا المتحّركة بفعل تزاحم قضايانا، نحن من نقبع تحت احتلال أم نير استبداد، لاجئين ومقهورين، نساءً ورجالاً، وأطفالاً على مراجيح العيد في مخيّمات اللجوء، طالما أشعرتهم حدّة صوتها وهم على أراجيحهم بصخب فلسطين، وغمرتهم بشالٍ منسوج في برّ الشام ومعطّر في مكّة كما تقول كلمات إحدى أغنياتها، التي كانت عنواناً لبهجة العيد في ساحاته بمخّيم اليرموك بدمشق.
ريم التي نحتت أعمالها من تكوينها، غدت إحدّى بنّاءات فلسطين في وعي الشعوب، هي فلسطين التي غنّت نفسها واللاجئين والأسرى والثائرين والأطفال على امتداد النطق العربيّ وروحيّته، تقول حين يتوّجب القول دون اعتبارات من شأنها أن تناقض ذلك التكوين، فكانت بذلك تونسيّة ومصريّة وليبيّة، وصارت سوريّة حين نأى كثيرون عن قيامة السوريين ومقتلتهم.
أصدرت ريم البوم "لم تكن تلك حياتي" عام 2006، أهدته للشعبين الفلسطيني واللبناني، و استقت من الشجن العراقي ما يطيّب خاطر اللاجئين العراقيين المنكوبين كأشقائهم الفلسطينيين، فغنّت لهم "غريب على الخليج" لبدر شاكر السيّاب في إحدى حفلاتها لهم في النروج.
بنت الناصرة، انتظرت بإيمان عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى البلاد، كانت واحدةً منهم في مخيّم اليرموك الذي يتذكر أبناؤه إطلالتها في العام 2010، وكذلك مخيّمات لبنان الذي تركت بها عند كل من قابلتهم فيها أثراً لا يزول.
يا لهذا الشرق حين يتكّثف بفنانّة مخلوقة من حفنة قضايا ولاجئين، ورقّة لا يأبه بها الكون المتعالي على سكّانه، هي من قوّام هذه البلاد، قرار صوتها الواخز، يدنو ليلمس قاع الروح ومن فيها بحنوّ، يحفزّه على تلمّس ذاته، وينطلق به في جوابه الصارخ نحو أبدّية الظهور.
جمعت ريم في ألبوم " تجليّات الوجد والثورة" عام 2013، كلّ ما يمكن أن يحتمله التصوّف من حب و شجن و حنين وثورة، أشغلت ريم بنات روحها المقاومات للمرض والاحتلال، لنسج موسيقى ألبومها الأخير في حياتها، الذي سافرت بإحدى أغنياته "الرجل الحر" من كلمات الشاعر التونسي عمارة العمراني إلى الثائرين في تونس، وغنّت لهم بالعاميّة التونسيّة "الحُرّ ما بين الأنذال مخنوق يصعب صياحو، كي الطير ما بين الأوحال جات ضربتو في جناحو، يا وقت داويه بالنار بالكَيّ تبرا جراحو".
طالما قالت ريم في أكثر من لقاء صحفي، أنّ موسيقاها نابعة من صلب القصيدة وروافدها، وقبل القصيدة انطلقت عبر التهاليل التراثيّة الفلسطينية في عالم الغناء، مُدخلةً إياها إلى عوالم موسيقيّة عالميّة، وكما فلسطين بقضيّتها المُطلقة عقيدةً تحررية لكل أحرار العالم، صارت موسيقى ريم المبنيّة من تراب الوجد الفلسطيني، عقيدةً موسيقيّة، أكبر من مجرّد نمط، حصدت عليه جوائز عالميّة عدّة، فكانت شخصيّة العام 1994 "سفيرة السلام" في إيطاليا، وكُرّمت بدرع مسرح "ابسين" في النروج عام 1996، وجائزة ابن رشد للفكر الحرّ عام 2013، ولقب " شخصيّة فلسطين الثقافيّة" للعام 2016".
تغيّر شكل وجود هذه الحقيقة التي اسمها ريم بنّا، في هذا اليوم وهذا التاريخ، بعد أن اختارت مقاومة الموت بسخريّة سحريّة، لعشرة أعوام. وليس من إنكار الألم نقول أنّ ريم لم تمت، فمن خلقوا من قضايا ولاجئين، فوق مستوى الرحيل.