تقرير: الوليد يحيى
الشمال السوري
ورقة منسيّة في ملف حلم، يضم حزمة أحلام مُرجأة، و كيلا يرتكب اللاجئ الحالم يأساً يقتله، يفترض أجلاً مسمّى "فرج" لا يمل من انتظاره، فهذا على ما يبدو ديدن حياة اللاجئ الفلسطيني، الذي اعتاد على الانتظار لأجيال، استحالة أيقونات الحلم الثلاث إلى حقيقة (نصر وعودة ووطن)
هي حال إسراء عبد الناصر ، طالبة بكالوريا – القسم العلمي التي تتم ربيعها العشرين " كـ "ورقة منسيّة ومعلّقة تحتاج إلى جهة تهتم بها وتقرأها" وفق تعبيرها في توصيف حالها.
هذه الشابة الفلسطينية المهجّرة من مخيّم اليرموك إلى مخيّم دير بلّوط في الشمال السوري، تنتظر مع عشرات الطلبة تحصيل حقّها الطبيعي في التعليم، والذي بات طموحاً خلال سنتي الهجرة يواجه التهجير والفقر وفيضان نهر، والعديد من المزمنات التي تعيق حياتهم إلى حين "الفرج".
لم تكف إسراء عن محاولات إنقاذ حلمها في إتمام تعليمها الثانوي، وانتزاع حقّها في حياة جامعيّة، طالما تخيّلتها وعاشت تفاصيلها بينها وبينِ نفسها، ولاحقتها على كافة الطرق، سواء تحت الحصار والقصف والجوع والحواجز بين مخيّم اليرموك وجنوب دمشق، أو في تهجيرها بخيمة في دير بلّوط شمالي سوريا، حيث هُجّرت مع المئات من أبناء جيلها قسريّاً في أيّار 2018 الفائت.
"أنا عشت الحصار والجوع، قوة إرادتي وحبي للتعليم كانا حافزيّ للاستمرار في دراستي" تقول إسراء وتضيف :" تحمّلت في سبيل تحقيق حلمي مشقّة العبور اليومي من مخيّم اليرموك إلى مناطق جنوب دمشق، تحت مخاطر التقنيص و الإساءات على الحواجز بين المخيّم ويلدا، فضلاً عن السهر والدراسة في ظروف الجوع والحصار وانعدام مقوّمات العيش، لكن كل ذلك ضاع في الهواء".
خسرت إسراء سنتها التعليميّة الأولى بفعل اتفاق التسوية والتهجير، الذي اضطّرت على إثره مغادرة جنوب دمشق مع أسرتها باتجاه الشمال السوري، فالواقع لم ينتظر إلى حين تقديم الطالبة الطموحة امتحانات الثانوية العامّة، الّا أنّها اعتبرت ذلك حالاً لا حول فيه ولا قوّة للخاضعين لها، وسبرها بسبر المئات من أبناء جيلها، الذين صمموا على تجاوز الحال منذ أن وصلوا إلى الشمال السوري، على أمل بواقع أفضل.
"وحين وصلت الى الشمال السوري، كان حلمي أن ابدأ مستقبلاً رائعاً وهو إنهاء الثانوية والذهاب الى الجامعة، لكن كان الواقع أسوأ من جنوب دمشق" تقول إسراء، وبدأت بالفعل مسيرتها الجديدة في خيمة بمخيّم دير بلّوط للمهجّرين إلى الشمال السوري، تنطلق منها يوميّاً إلى مدرسة ثانوية التحقت بها في ناحية جندريس التي تبعد عن مخّيم دير بلّوط قرابة 7 كيلومترات، تضطر اللاجئة الطالبة عبورها يوميّاً متجاوزة عوائق طبيعية وبشريّة تغلّبت عليها أحياناً، وغلبتها في أخرى، حتّى غرقت جهودها في فيضان النهر.
تقول إسراء "تعذبت كثيراً بالفترة الي كنت أدرس فيها بجندريس، عانيت من المواصلات الصعبة والمكلفة، ومن السير لمسافات طويلة في الكثير من الأحيان، حتّى فاض النهر وانقطع الطريق، وحالت غياباتي المتكررة عن المدرسة دون نجاحي".
نهر عفرين الذي يمر بمخيّم دير بلّوط، ويتحوّل سنويّاً إلى نكبة تغمر اللاجئين المهجّرين في خيامهم، استحال حاجزاً طبيعياً بين إسراء وطموحها، وأكمل خسارتها لسنة دراسيّة انقطعت مرّة في التهجير، وغرقت بالكامل في فيضان النهر، إلّا أنّ هذه السنّة الضائعة لازمتها كلعنة تستجّر الخسارات، واستحالت أخيراً حاجزاً بينها وبين المدرسة ذاتها.
مع مطلع العام الدراسي الجاري، همّت إسراء لخوض الرحلة مجدداً، الّا أنّ المدرسة الثانوية في جندريس، أغلقت أبوابها في وجهها، بحجّة أنّ صفوفها الدراسيّة لا مكان فيها لمن مواليدهم دون سنة 2000 وفق القانون، بينما إسراء مواليد سنة 1999، لم يبقَ لها خيار سوى المعاهد الخاصّة، الّا أنّ الفقر تنطّع هذه المرّة ليمارس دور الحاجز.
معهد تعليميّ جيّد يقع في ناحية أطمة التي تبعد عن مخيّم دير بّوط قرابة 6 كيلومترات، صار قبلة طموح، يتوجّه إليها حلم إسراء يوميّاً، باعتباره الطريق الأوحد المتبقي لها، فلا مدارس تستقبلها، ولا تعليم ثانوي تهتم به أيّ جهة في مخيّم دير بلّوط لطّلّاب الثانوية العامّة الفرع العلمي، ما يدفع الطلبة للبحث عنه خارج المخيّم، إلّا أنّ تكاليف المعهد الباهظة، تمّكنت في أن تصبح الحاجز الأكثر استحالة للاختراق، في ظل الفقر المدقع والاعتماد على المعونات الغذائيّة لتأمين لقمة العيش.
قرابة العامين على تهجيرهم، مئات الأسر ومن ضمنهم مئات الطلبة الفلسطينيون، لم يسأل أحد من المسؤولين الفلسطينيين ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين " أونروا" عن أوضاعهم التعليميّة، وكأنّهم خارج باتوا خارج الفاعليّة الإنسانيّة، ولا ينظر إليهم سوى كطلّاب إغاثة، وحتّى الأخيرة لا تتجاوز سلّة وخيمة.
لا تأبه إسراء بلقمتها، قدر ما تهتم بتحقيق طموحها التعليمي، وخطّ مستقبلها بالاتجاه الذي تريد، والتعبير عن إيمانها الشديد بذاتها، كونها تمثّل المستقبل مع أبناء جيلها حسبما رددت أكثر من مرّة خلال حديثها، لذلك هي لا تكترث لكافة المناشدات والنداءات والتحرّكات التي تُقام في دير بلّوط وسواه، من أجل إغاثة معيشيّة أو مطالبات بالهجرة إلى مكان أفضل، طالما أنّها لا تصب لصالح حاجتها الملّحة والمستعجلة في توفير متطلّبات حقّها في التعليم.
ووصيّتها إيصال رسالتها بإيجازها وما احتوته من مضامين، ومفادها: "انا طالبة بكالوريا علمي مقيمة في مخيم دير بلوط، أتمنى من يقرأ معاناتي، أن يوصلها ويهتم بقضيتنا وهي قضية العديد من الطلاب والطالبات، نحن بسبب الظروف التي صارت بسوريا صرنا ورقة منسية ومعلقة، بحاجة لجهة تهتم وبها وتفتحها".