دخل مخيم نهر البارد عامه السابع عشر، على انتهاء العمليات العسكرية التي شنها الجيش اللبناني على تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي عام 2007، وانتهت بتدمير واسع للمخيم وبناه السكنية والتحتية، فيما لا يزال أكثر من 30% من المخيم خارج إعادة الإعمار، ويعيش نحو 2850 لاجئاً ولاجئة من أبناء المخيم، حالة نزوح متواصلة في مخيمهم والجوار.
وبمجرد أن وضعت الحرب أوزارها، تعهدت الدولة اللبنانية لأهالي المخيم بإعادة الإعمار وتجاوز آثار الدمار الذي أحلّته العمليات العسكرية، ودعت الحكومة اللبنانية بدورها إلى مؤتمر دولي في العاصمة النمساوية فيينا بحضور ممثلين على مستوى الوزراء والسفراء من دول الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية، والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن دول أعضاء في الأمم المتحدة.
منذ انعقاد مؤتمر "فيينا" عام 2008 للدول المانحة، والذي حدد تكلفة إعادة الإعمار بمبلغ 455 دولاراً أمريكياً، بدأت التخوفات من عمليات تسويف ومماطلة في الإعمار تلوح بالأفق، وبدأت أولى بوادرها، حين عجزت الدول المجتمعة عن توفير المبلغ وتوقفت عند ربعه، بمبلغ 122 مليوناً قدمتها دول أوروبية، فيما تعهدت الدول العربية الخليجية (قطر، السعودية، الكويت، الإمارات) بتوفير 50% من التكلفة الإجمالية أي ما قيمته 227.5 مليون دولار.
لم ينجح مؤتمر "فيينا" بتوفير كامل المبلغ، بل بدأ العمل في عمليات الإعمار ضمن ميزانية على الورق، قاربت 349 مليوناً، بدأت الدول تقدمها على دفعات ودون استيفاء للقيم المالية المعلن عنها، ما أخر عمليات إعادة الإعمار لأكثر من عقد ونصف، لتستقر أخيراً على نسبة إنجاز تقدر بـ 70% بعد 17 عاماً، لم تسر خلالها الأمور التمويلية وفق التعهدات، بل اضطرت وكالة "الأونروا" من أجل استكمال الإعمار، وضع ملف المخيم ضمن برنامج الطوارئ الخاص بها، الذي ألغته لاحقاً نتيجة أزمتها المالية المزمنة.
وكالة "أونروا" وفي تقرير مرحلي لتقييم العمل في إعادة إعمار المخيم ومجمعها الخدمي والتربوي فيه، منذ أيلول/ سبتمبر 2007 حتى تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2010، أوضحت أنّ المشروع يقضي بإعادة إعمار 5223 وحدة سكنية، و 1696 محلاً تجاريا، ومجمّعاً لـ "أونروا" يضم المدارس والمراكز الصحية والخدمية وسواها، ورصدت ميزانية له بقيمة 345 مليون دولار، لم تحصل منها سوى على 39% فقط حتى ذلك التاريخ، وهو ما اعتبرته من أبرز معرقلات إعادة الإعمار الذي حددت انتهاء رزمه الثمانية ومدارسه الثلاث والمجمع الخدمي والبنى التحتية حتّى عام 2013.
سنوات طويلة مرّت على الجدول الزمني الذي حددته الوكالة، فمنذ 2013 حتى 2023، عقد كامل تناوبت خلاله العديد من اللجان المعنية بمتابعة إعادة الإعمار التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، واجتماعات ونداءات طارئة خصصتها الوكالة لهذا الأمر، إلّا أنّ المعرقلات لا تبدو فقط تمويلية رغم أنها الأكثر أساسية، فهناك مسألة اكتشاف المواقع الأثرية، التي بدأت تظهر منذ العام 2009 حين كشف عن غنى منطقة المخيم بتلك المواقع، فيما بدا ذلك عاملاً استنزافياً مضاف لأموال إعادة الإعمار.
وكالة "أونروا" قالت في ذلك الوقت: إنه وفي 30 نيسان/أبريل من العام 2009 طلب مجلس الوزراء اللبناني من الفريق المشرف على المشروع أن يتعاون تعاونًا وثيقًا مع المديرية العامة للآثار في لبنان من أجل توثيق المعلومات عن هذه الآثار وحمايتها.
فكان الحل وفق "أونروا" هو طمر المخيم بكامله، تبعاً للمعايير الدولية، فجاءت التوجيهات بأن يتم اعتماد التقنيات الصادرة من مديرية الآثار، بطمر أرض المخيم بين عمق متر واحد كحد ّ أدنى وأربعة أمتار كحد أقصى، واستعانت الوكالة بفريق مختص من أجل ذلك، يتقاضى أجوره وتكاليف عمله من الأموال المخصصة لإعادة الإعمار.
معرقلات أكبر من مجرد "ماليّة"
يذهب مراقبون إلى اعتبار قضية إعمار مخيم نهر البارد قضيّة سياسية، وأنّ المعرقلات لا تتعلق بعجز منظمة دولية بحجم "أونروا" ودول وحكومات، عن تأمين متطلبات التمويل، وهو ما يرى فيه الباحث الفلسطيني في شؤون وكالة "أونروا" فتحي كليب، بأنّ محددات سياسية داخلية وخارجية تقف وراء العرقلة.
وفي تعليق لـ بوابة اللاجئين الفلسطينيين، يقول كليب: إنّه "منذ اليوم الأول لانتهاء أحداث مخيم نهر البارد، عبرت الحالة الفلسطينية بجميع مكوناتها عن تخوفات من أن تمتد مسألة إعمار المخيم لسنوات، وأن تدخل في زواريب التجاذبات الداخلية اللبنانية وأن تصبح مادة ابتزاز سياسي من قبل الدول المانحة. "
كما أشار كليب إلى معرقلات سياسية داخلية تجلت بتعبير أكثر من طرف لبناني عن رفضه لإعمار المخيم لأسباب سياسية، الأمر الذي شكل أحد الأسباب في إطالة عمر المشكلة وإبقائها جرحا مفتوحا حتى هذه اللحظة بعد أكثر من عقد ونصف. حسب قوله.
واعتبر كليب، أنّه رغم الترابط بين أزمة وكالة "أونروا" المالية وبطء إعمار المخيم، إلّا أنّ ذلك لا ينفي أن هناك " ابتزازاً سياسياً مكشوفاً" من بعض الدول، ودلل على ذلك بطريقة تمويل البرنامج الطارئ الذي وضع إعمار المخيم ضمن بنوده، حيث ابتعدت الكثير من الدول عن تمويل البرنامج، وجعل الولايات المتحدة هي المانح الأكبر، في وقت هي أكثر دولة لها مصلحة في عدم إعمار نهر البارد ولا أي من المخيمات الفلسطينية التي تعرضت إلى التدمير سواء في الضفة الغربية وقطاع غزّة أم في سوريا، ما ينسجم مع مشروع إسرائيلي للخلاص من المخيمات.
هل يعجز العالم عن توفير 31 مليون دولار المتبقيّة؟
يطرح كليب التساؤل أعلاه بطريقة استهجانية، تقوده إلى الاستنتاج بأنّ أزمة إبقاء مخيم نهر البارد مفتوحة كل تلك السنين، "هو جزء لا يتجزأ من عملية الضغط الذي يمارس على وكالة الغوث".
ويتابع: " وإلا كيف يمكن أن نفسر أن مانحي الوكالة الأساسيين الذين يزيد عددهم عن خمسين دولة وجهة مانحة ينفقون المليارات على قضايا أقل أهمية من أزمة مخيم نهر البارد، بينما يعجزن عن دفع نحو 31 مليون دولار هو قيمة المبلغ المتبقي لإكمال عملية الإعمار؟"
عودة ملف الآثار الى الواجهة.. هل هو مجرد ذريعة؟
وكالة "أونروا" وفي معرض تبريرها لعدم إنجاز كامل الإعمار، أمام تساؤلات اللاجئين، استدعت مؤخراً مسألة التنقيب عن الآثار، علماً أنّ الوكالة كانت قد أوضحت في العام 2010 عبر التقرير المشار إليه أعلاه، أنّها حلّت المسألة باتباع التوجيهات التقنية لمديرية الآثار بطمر أرض المخيم، على حساب أموال إعادة الإعمار.
وعزت الوكالة، على لسان مديرتها العامة في لبنان "دوروثي كلاوس" توقف عمليات إعمار البلوك (45) الذي يضم منازل 75 عائلة، إلى مسألة الآثار، وأشارت إلى أنّ إكماله باتت غير مضمونة، لوقوعه في منطقة آثار، ما يخرجها عن صلاحيات الوكالة ويضعها ضمن صلاحية مديرية الآثار اللبنانية.
الباحث في دائرة شؤون وكالة الغوث في الجبهة الديمقراطية فتحي كليب، وفي سياق حديثه لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، اعتبر ذلك "ذريعة" لتبرير وقف العمليات، وإحالة الأمر إلى يد مديرية الآثار اللبنانية.
المعنيون اللبنانيون في الملف الفلسطيني وإعادة إعمار المخيم، وعلى رأسهم لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، يؤكدون دائماً على الاستمرار في جهود إزالة العراقيل أمام عملية إعادة الإعمار سواء المالية أم المتعلقة بمسألة الآثار.
وهو ما ذهب إليه رئيس لجنة الحوار الدكتور باسل حسن، الذي أكّد خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد يوم 20 حزيران/ يونيو الجاري على هامش أعمال مؤتمر اللجنة الاستشارية في بيروت، أنّ مسألة إعادة إعمار مخيم نهر البارد أولوية بالنسبة للدولة اللبنانية ووكالة "أونروا"، و"أنها جزء من التحديات التي نأخذها على عاتقنا".
وفي رده على سؤال لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، قال حسن إنّ جهودًا تبذل من أجل "تأسيس عملية بحث مشترك بين كافة الأطراف المعنية لتجاوز المسألة." وطمأن حسن اللاجئين بأنّ موضوع الآثار يجري العمل على حلّه ليكون "فرصة للمخيم وليس عبئاً عليه" وأنّ هناك مجموعة من الأفكار يجري نقاشها، عبر تفعيل الاجتماعات المشتركة مع وزارة الثقافة ومديرية الآثار اللبنانية.
ثقة الأهالي معدومة بإدارة "أونروا"
وإلى ذلك، تتوجه أنظار اللاجئين الفلسطينيين من أبناء مخيم نهر البارد، بعد 17 عاماً على مأساتهم، إلى ما ستفضي إليه نتائج تلك الجهود، والتي تواصلها لجنة الحوار مع الأطراف المعنية، ولا سيما بعد انتهاء أعمال اللجنة الاستشارية، حيث ينفذ ممثلو دول اللجنة الاستشارية البالغ عددهم 28، جولة في المخيم اليوم الجمعة 23 حزيران/ يونيو، لمتابعة الملف، وما ستخلص إليه المتابعات مع الأهالي والمعنيين المباشرين، لولادة ذلك التأسيس المشترك لحل الأزمة.
ويأتي ذلك، في وقت تبدو أنّ الثقة بإدارة وكالة "أونروا" وجهودها، معدومة من طرف أهالي المخيم والحراك الشعبي المطالب بحقوق العائلات التي لم تعمّر منازلها، وهو ما عبّر عنه الناشط في الحراك حسام شعبان في تصريح لبوابة اللاجئين الفلسطينيين.
وصف شعبان، اللقاءات بين الأهالي والإدارة على مدى السنوات والأشهر الفائتة بـ “الفولكلورية" أي أنها لم ترقى لتكون لقاءات عمل فعلية وذات مردود حقيقي. وأشار إلى أنّ الوكالة تحاول ادعاء الشفافية من خلال تلك اللقاءات، إلّا أنّ الحراك يحصل على معلوماته حول إعادة الإعمار من جهات خارج الوكالة.
وأشار شعبان، إلى أنّ "المديرة العامة زارت المخيم منذ أسابيع، وتحدثت عن أسباب إعاقة الإعمار، حيث كان حديثها مفاجئاً لنا لأن هذه المعلومات التي ذكرتها عمرها أكثر من أربع سنوات ولم نسمع بها من قبل."
ولفت الناشط شعبان، إلى أنّ المعلومات المهمة والحساسة، التي يتوصل لها الحراك، لم تفصح عنها المديرة العامة في لبنان دوروثي كلاوس في لقاءاتها مع المجتمع. وأضاف أنّ الحراك طرح كل ما لديه خلال ورشة عمل نظمتها لجنة الحوار مؤخراً بحضور المدية العامة للوكالة.
وقال شعبان في حديثة لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ "الثقة بإدارة الأونروا وصلت إلى نقطة الصفر، خصوصاً أن هذه الإدارة، كما أفادت المديرة العامة، باتت تبحث عن حلول بديلة عن إعمار ما تبقى من المخيم، مثل التعويض المالي على السكان أو نقل بيوتهم إلى أراض يتم شراءها في مكان آخر. "
وأكد، أنّ مثل هذه الطروحات من شأنها ان تخلق إشكاليات جديدة، قانونية ترتبط بقانون التملك وأخرى تمويلية، وبالتالي هي لا تؤدي إلى حل سريع.
كما أكّد على موقف الحراك بضرورة حل الإشكاليات القائمة بأسرع وقت بالتعاون مع جميع الأطراف المعنية. مشيراً إلى أنّ ذلك ممكناً من وجهة نظر الحراك والأهالي، أي إكمال الإعمار بأسرع وقت وحسب المخطط الذي تم العمل به منذ بداية عملية الإعمار، "وهذا ما سنعمل عليه في الأيام القادمة." حسبما ختم شعبان.