إيمان الحاج - فلسطين المحتلة
"صار مواجهة امتدت يمكن عشر أيام بين الاحتلال والمقاومة حتى تمكّن جيش الاحتلال من اقتحام المخيّم، كانت هالعملية تمهيد للاجتياح الشامل، وإرباك حسابات المقاومة، بروفا لطريقة المواجهة وإضعاف المقاومة، كان الهدف مركز القيادة والسيطرة.. مخيّم بلاطة"، عن أحد المُقاتلين من مخيّم بلاطة الذين شاركوا في الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى."
بالتأكيد هذا النص من غير المُمكن أن يكون سرد أو تأريخ شامل لما حدث في مُخيّمات الضفة المُحتلة وقطاع غزة خلال فترة الانتفاضة الثانية، فالأمر أكثر تعقيداً من حصره هنا. في سنوات الانتفاضة تشابه الحال في عدّة مُخيّمات بناءً على موقعها الجغرافي والظروف المُحيطة والواقع الذي تعيشه، ما انعكس على طبيعة المواجهة فيها والدور الذي قامت به وتبعات ذلك، بالإضافة للتطوّر الذي شهدته سنوات الانتفاضة في مواجهة المُخيّمات للاحتلال.
المُخيّمات كحجر أساس في إقلاع الانتفاضة "الارتجال والعشوائيّة كبداية"
يُشير مُقاتل بلاطة إلى أنّ المُخيّمات لعبت دوراً هاماً خلال سنوات الانتفاضة الثانية، فقرار الحرب والسلم يبدأ من هناك، ومن خلال تجربتها العميقة في هذا الأمر تتجه أنظار الجميع إليها لترقّب رد فعلها وسلوكها والنهج الذي ستسير عليه في التعاطي مع الحدث، فكانت دائماً عنوان الثورة كونها الأكثر تضرّراً على المستوى الاجتماعي والسياسي من حيث تجاوز حقوق أهلها، وعلى الصعيد الاقتصادي يعلم الجميع أنّ المُخيّمات هي الأكثر فقراً وتضرّراً من الحالة القائمة، وكان تركّز الكادر التنظيمي بأعداد كبيرة من كل الفصائل في المخيّمات آنذاك، وهو صاحب خبرة وتجربة عميقة وطويلة في السجون والنضال والمطاردة.
"المُخيّمات انطلاقة الثورة، حتى أنّ الاحتلال قام خلال فترة السبعينيّات بناءً على خطة شارون بهدم منازل لتوسيع الشوارع والحارات الضيّقة لتسهيل مُلاحقة الفدائيين، وكانت الشوارع الضيّقة سمة المُخيّمات، فمُخيّم الشاطئ على سبيل المثال لا تتمكّن حمّالة الموتى من المرور في شوارعه فكان يتم نقلهم بالبطانيات"، عن مُقاتل في مخيّم البريج.
ومُقاتل آخر من مُخيّم خانيونس يقول "لعبت المخيّمات دوراً محوريّاً في تغذية موجات الانتفاضة، سواء بالزخم الشعبي مع بدايات الانتفاضة وما رافقها من تظاهرات توجّهت لمراكز الاشتباك، أو بالعمل الكفاحي وترجيح المزاج الشعبي نحو هذا الخيار في إطار رفع كُلفة بقاء الاحتلال في أرضنا، ما جعل من تلك المُخيّمات هدفاً دائماً ومركزيّاً لهجمات الاحتلال."
يرى مُقاتل مُخيّم بلاطة أنّ الانتفاضة الثانية إن لم تنفجر في وجه الاحتلال كانت ستنفجر في وجه السلطة، بسبب السلوك والقمع والاضطهاد والإذلال والتعدّي على الحريّات، "فكانت هناك حرب بين ثقافة المقاومة وثقافة تمرير مشروع أوسلو الذي نعتبره مشروع لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وكان هناك حالة تذمّر واسعة من سلوك السلطة على الأرض، وهي كانت تتخوّف من هذا الانفجار."
كانت المُخيّمات على تماس مباشر مع السلطة والاحتلال، حتى في زمن الرخاء والاستقرار بينهما، وهناك أحداث تصدّرتها المُخيّمات ما قبل انتفاضة الأقصى، فالسنوات التي سبقتها راكمت الكثير لدى الفلسطينيين خاصةً أهالي المُخيّمات كون علاقتهم مع الجانبين متوتّرة بشكلٍ دائم. ويروي هنا ما حدث عام 1996 "حيث هاجمت مجموعة من المُقاومين قبر يوسف قرب مُخيّم بلاطة رغم الحراسات من السلطة والاحتلال عليه، إلّا أنّهم تمكّنوا من اقتحام القبر والاشتباك مع جنود الاحتلال وقتل نحو (13) جندياً صهيونياً ومُصادرة أسلحة ومركبات من المكان."
يقول مُقاتل بلاطة "إنّ الكادر والذي جزء منهم اليوم في سجون الاحتلال أو استشهدوا، بدأ التحرك باتجاه ضرورة إشعال شرارة الانتفاضة وعدم التسليم بأن تكون هبّة، والإصرار على تحويل هذه الأحداث إلى انتفاضة مُنظّمة."
ويتحدث عن طبيعة العمل في بداية الانتفاضة، حيث كانت أعمال المقاومة ارتجاليّة ومُبادرات فرديّة من بعض الأشخاص أو بعض المجموعات أو حتى في أحيانٍ أخرى حَكَم العمل العلاقات الشخصيّة، بمعنى أنّ ثلاثة أو أربعة أصدقاء ليس لهم تنظيم أو كل شخص منهم ينتمي لتنظيم مختلف ويمتلك بندقيّة، كانوا يعملون بشكلٍ مشترك، ولم يكن لديهم الدافع للإعلان عن هذه الأعمال.
مُقاتل مُخيّم خانيونس يقول إنّ الشباب في المُخيّمات كانوا أدوات ضغط بشكلٍ دائم على تنظيماتهم لتفعيل العمل الكفاحي، فخرّج المُخيّم آنذاك العديد من الاستشهاديين، حتى قبل الانتفاضة، وقدّم النموذج المُقاتل، والكثير من شباب المُخيّمات بادروا للعمل النضالي حتى بعيداً عن العمل التنظيمي، من خلال مُبادرات فردية وشبابيّة جماعيّة في أحيانٍ كثيرة.
يُكمل مُقاتل بلاطة "كثير من الناس باعوا مُمتلكاتهم حتى يحصلوا على السلاح، لأنّ السلطة كانت ضد حيازة الأسلحة الفرديّة، وتحديداً الأفراد اللذين ينتمون لتنظيمات غير حزب السلطة، والسلاح كان في يد السلطة وحدها وجزء مع حزبها، كان يُستخدم بطريقة غير مُنظّمة وغير مُحترمة ولم يكن هدفه المُساهمة في تحرير الوطن أو الدفاع عن الشعب الفلسطيني، بل على العكس كانت أسلحة مُنفلتة في يد مجموعة من الناس لا تربطهم بالقضيّة الفلسطينية ثقافة تحرير."
المخيّمات مركز القيادة وحاضنة العمل النضالي "التحوّل النوعي وبداية التنظيم"
بدأت الأمور بالتدحرج في الشهور الست الأولى بشكلٍ عشوائي وغير مُنظّم، وبعد انطلاق الانتفاضة وإقلاعها حين لم يعد مجال للسيطرة عليها من الاحتلال أو السلطة أو أي طرف آخر، بدأت الفصائل تعمل بشكل مُمنهج على تشكيل المجموعات والخلايا والأذرع العسكريّة المُنظّمة، وبدأت أجسام تُعيد إحياء نفسها لمقاومة الاحتلال، ومن هنا بدأ التحوّل النوعي في شكل مقاومة الاحتلال لتأخذ الانتفاضة شكلها المُنظّم من حيث التشكيلات العسكريّة وإعادة بناء القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينيّة، وأصبحت المقاومة قادرة على إيلام الاحتلال بشكلٍ أكبر وتطوير أشكال المقاومة على قدرٍ عالٍ من مُجابهة الاحتلال.
وفي فترة الانتفاضة أصبحت كل الفصائل قادرة على تنفيذ عمليّات فدائيّة داخل الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة عام 1948، وجميعها لديها القدرة على التخطيط والترتيب والتنظيم واقتحام مُعسكرات الاحتلال والمستوطنات، بعد أن كان العمل مُقتصراً في الأشهر الأولى على إطلاق النار على سيارات المستوطنين في الطُرق الالتفافيّة بالضفة المحتلة، وذلك لم يكن مُجدياً بشكلٍ كبير، رغم أنّه شكّل حالة من الرعب لدى المستوطنين والاحتلال.
يقول مُقاتل مُخيّم البريج "في البداية كان أغلب العمل المُسلّح من العاملين في السلطة فالأسلحة بمُعظمها لدى السلطة، وفيما بعد بدأت تتشكّل وتتفاعل الأذرع العسكريّة للفصائل، وبعد ذلك بدأ تزويد المناطق بالسلاح وأصبح الأمر مُنظّماً، انتقلنا من العمل العشوائي إلى العمليّات المُنظّمة وكانت مُشتركة في الكثير من الأوقات، وأصبحت المقاومة أكثر دقّة، في البداية كانت مجموعة تتجه إلى مستوطنة نتساريم وسط القطاع ويبدأ إطلاق النار فيقوم جنود الاحتلال بالرد بإطلاق النار على الناس المُتواجدين في المواجهات في تلك المنطقة وكان الأمر فوضوي، لكن انتظم فيما بعد."
شكّلت المُخيّمات مركز قيادة لتسليح وتنظيم وتدريب وتوفير الإمكانيّات لكل هذه القطاعات التي لم يكن لديها حاضنة، فكان يتم إعداد الاستشهاديين داخل المُخيّمات وتدريب المُقاتلين وتسليحهم بداخلها، وإعطاء القرارات لتنفيذ العمليّات ومواجهة أهداف العدو كذلك من داخل المُخيّمات.
المُخيّمات، وتحديداً مُخيّم بلاطة كونه أكبر مخيّمات الضفة المحتلة، كان له القدرة على التأثير في مجرى الأحداث في كل أراضي الضفة المحتلة، يقول مُقاتل بلاطة "نحن نعلم أنّ هناك صلات وعلاقات قويّة بين أبناء المُخيّمات وكانوا يعتبرون مخيّم بلاطة المرجعيّة للعمل النضالي ورأس الحربة في مواجهة الاحتلال وكذلك السلطة في بعض المشاريع، ومن خلال علاقات المُناضلين التاريخيين داخل بلاطة في كل القطاعات، كان المُخيّم قادراً على أن يلعب الدور الأكبر في إدارة المعركة."
ولفت إلى أنه حتى التشكيلات العسكريّة الأولى لحركة "فتح" كانت بقيادة وتنظيم وترتيب قيادة الحركة في مُخيّم بلاطة، والتحوّل الذي حدث في "كتائب الشهيد أبو علي مصطفى" كان جزء منه من بلاطة، وكذلك التحوّل في عمل "كتائب القسام" في نابلس كان جزء منه قيادات من "كتائب القسام" في بلاطة. "أعتقد أنّ المُخيّمات كانت حاضنة حقيقيّة لتفجير الانتفاضة الثانية، لأنها كانت الأكثر تضرّراً وأكثر قدرة وجرأة على مواجهة السلطة ومحاولاتها لمنع أي عمل مقاوم."
مُقاتل مُخيّم البريج يقول إنّ أغلب الاستشهاديين في الانتفاضة من المُخيّمات، "فمثلاً استشهاديو الجهاد الإسلامي من مُخيّمي البريج والنصيرات، والجبهة الشعبية من النصيرات وكذلك مُخيّمات المغازي ودير البلح.. انطلاقة الثورة من المُخيّمات، هذا بالطبع ليس مقياس لكن البيئة الموجودة فيها والعمل داخلها يختلف عن الوضع خارجها، فالمدينة كانت تختلف في المستوى الاقتصادي عن المُخيّمات، وكذلك طبيعة الحياة، واختلف الأمر تقريباً بعد عام 2004 فبدأت الأذرع العسكريّة تنشط داخل المُدن باعتبار المساجد نقطة انطلاق الاستشهاديين بالنسبة للفصائل الإسلامية."
تابع حديثه "حتى لجان المقاومة التي تأسّست في الانتفاضة الثانية انطلقت من مُخيّم الشابورة في رفح، ومؤسسيها من أبناء المُخيّمات في رفح والبريج وجباليا، ومعظم عملهم كان ينطلق من المُخيّمات، كالعمليّات التي كانت تُنفّذ في المستوطنات، وتفجير الدبابة انطلق من مُخيّم البريج، إذ انطلقت المجموعة التي فجّرت وزرعت العبوة من المُخيّم ونقلوها إلى جحر الديك ومنها نُقلت إلى الشارع وتم تفجيرها، وذلك كان سبب اجتياح المُخيّم وتفجير منزل أيمن الششنية، لأنّهم كانوا يجتمعون هناك."
"مُخيّما البريج والنصيرات وسط قطاع غزة تعرّضا لنحو ثماني أو عشر اجتياحات كُبرى، حيث اقتحم جيش الاحتلال المُخيّمات آنذاك وقتلوا الناس، كالاجتياح الذي استشهد فيه الشهيد محمد السعافين بمُخيّم النصيرات، قدم الجيش من مستوطنة نتساريم عن طريق البحر، ودخلوا إلى السوارحة والحساينة، وهدموا المنزل على من فيه بعد اشتباك استمر لساعات، والاجتياح الأوّل تقريباً لمُخيّم البريج حين هدموا منزل أيمن الششنيّة واستشهد في ذلك اليوم نحو عشرة من المخيّم"، يقول مُقاتل البريج.
"الجيش كان يقتحم المُخيّم ويتمركز لا يتحرك لتندلع الاشتباكات والمواجهات، على سبيل المثال في أعقاب عمليّة قتل حاخام صهيوني، اقتحم جيش الاحتلال مُخيّم البريج عند منزل الشهيد نور أبو عرمانة، فشعر بقدومهم قبل أن يصلوا فقتل بعضهم، كذلك حين اقتحموا مكتب الجبهة الشعبية في المُخيّم علمنا بقدومهم من جهة منطقة المُغراقة، قدموا عن طريق صلاح الدين."
يُكمل "كانوا يستخدمون الخدع معنا، لم يكن بالضرورة أن تكون منطقة حدوديّة، دائماً كان لديهم طريقة وخدعة للاقتحام، كانت الدبّابات تقتحم مُخيّم النصيرات باتجاه الهدف الذي تريده من طريق مستوطنة نتساريم والمُغراقة، وليفصلوا بين مُخيّمي البريج والنصيرات لكي لا يصل مُقاتلي البريج للمنطقة، كانت تتمركز الدبّابات على الطريق الفاصل بينهما طريق صلاح الدين، نظراً لأنّ المنطقة التي تتعرّض لاقتحام يتوجّه إليها كافّة المقاتلين من المناطق القريبة. وحين اقتحموا منزل أبو أيمن طه في المُخيّم قدموا عن طريق المصدّر ثم طريق المغازي المكسورة ثم اقتحموا مُخيّم البريج وجاءت دبّابات من نتساريم وكفار داروم على طريق صلاح الدين ليفصلوا المنطقة الغربيةّ عن الشرقيّة، كانوا يعملون وفقاً لمعلومات تصلهم عن الأرض."
استهداف مركز القيادة وانتقال المواجهة المباشرة للمُخيّمات
في شباط عام 2002، شنّ جيش الاحتلال عمليّة عسكريّة واسعة على مُخيّم بلاطة للاجئين الواقع في المنطقة الشرقيّة من نابلس المحتلة، تعرّض خلالها المُخيّم لاستهداف جوّي من طيران الاحتلال وآخر على الأرض بالقذائف المدفعيّة والرشاشات الثقيلة والمتوسطة من قوات الاحتلال، بهدف تصفية المُقاومة في المخيّم الذي كان يُطلق عليه رأس الحيّة وعُش الدبابير آنذاك، يقول أحد مُقاتلي المخيّم أنّ المواجهة امتدت لنحو عشرة أيام بين جيش الاحتلال والمُقاومة قبل الاقتحام داخل المخيّم الذي استمر لنحو (12) يوماً تخلّله اقتحامات شرسة لمنازل الأهالي بالجنود والكلاب البوليسيّة، أدى إلى سقوط العديد من الشهداء والجرحى الفلسطينيين والتدمير، وسقط قتلى من جيش الاحتلال آنذاك.
جاءت العمليّة العسكريّة على مُخيّم بلاطة آنذاك تمهيداً للاجتياح الشامل للضفة المحتلة، الذي أطلق عليه الاحتلال اسم "عمليّة السور الواقي"، يقول المُقاتل "قام الاحتلال باجتياح المُخيّم لإرباك حسابات المقاومة، وبروفا لطريقة المواجهة وإضعاف المقاومة، وكان الهدف مركز القيادة والسيطرة، مُخيّم بلاطة على مستوى الضفة المحتلة في تلك الفترة."
ويُكمل حديثه "كان الاجتياح محاولة الاحتلال لإيصال رسالة بالنار بأنهم قادرون على الدخول لأي مكان، حتى على المستوى النفسي، لأنّ كل الأنظار كانت مُتّجهة في تلك الفترة لمُخيّم بلاطة، فهم اختاروا هذا المخيّم خصيصاً حتى يُوجّهوا رسالة للمناطق الثانية، أنّ هذا المُخيّم عاصمة الإرهاب، وها قد دخلناه وأوقعنا الكثير من الخسائر، كانوا بحاجة أيضاً لتعزيز ثقة الجنود بأنفسهم، يُريدون أي انتصار حتى يرفعوا من الروح المعنويّة والقتاليّة عند الجنود، بأنهم اجتازوا الصعب والباقي أسهل."
الاجتياح الشامل للضفة المُحتلة في عام 2002 أثّر على قوّة وقُدرة المقاومة لأنّ المناطق كانت مُحصّنة من المُقاومة وهناك هامش للحركة لها قبل تلك الاجتياحات، بعدها بدأت المساحة تضيق وبدأ العمل في ظروف قاهرة، وفي هذه الفترة انتقل العمل أكثر من الريف الذي يقع على أطراف المُحافظات إلى المُخيّمات فهي داخل المُدن، من حيث الفعل المباشر في المواجهة، إذ كانت المُخيّمات في السابق تقود العمل وتُشارك في جزء منه، لكن بعد الاجتياحات أصبحت المخيّمات مستهدفة بشكلٍ مباشر.
بالفعل بعد عامين على اندلاع شرارة الانتفاضة أعدّت الرباعيّة الدوليّة ما سُمّي بـ "خطة خارطة الطريق" التي دعت إلى البدء بمُحادثات للتوصّل إلى تسوية سلميّة ونهائيّة لإقامة دولة فلسطينيّة بحلول عام 2005، وتضمّنت الخطة ثلاث مراحل، الأولى منها حتّمت على الفلسطينيين إيقاف ما أسمته "أعمال العنف" ونزع سلاح المقاومة الذي وصفته بـ "المتورّط باندلاع الانتفاضة."
تعاملت السلطة مع الانتفاضة الثانية بأكثر من طريقة، في البداية كانت معنيّة إلى حدٍ ما بالأمر على أمل أن تُسيطر على مُجريات الأحداث لفترة مُحددة ثم تُعيد الأمور لسابق عهدها، لتحسين شروط التفاوض مع الاحتلال أو تشكيل ورقة ضغط على المُجتمع الدولي حتى يتراجع الاحتلال عن تعنّته في المفاوضات، لكنها اكتشفت أنّ زمام الأمر لم يعد بيدها، وأعلن ياسر عرفات في ذلك الوقت أكثر من مرة عن وقف إطلاق النار وحاولت السلطة بالفعل تثبيت ذلك، إلّا أنّ هذه القرارات كانت تسقط بفعل الإرادة الشعبيّة والإصرار الجماهيري على مواصلة خيار الانتفاضة والمقاومة، والشعب لم يعد يثق بخيار التفاوض أو أنّ خيار مشروع السلطة قادر على تحقيق دولة في المستقبل.
السلطة كأداة تصفية
في بعض الأحيان اضطرت السلطة لإشراك عناصرها في المُواجهات مع الاحتلال، وعدد كبير من أبناء الأجهزة الأمنيّة استشهدوا أثناء محاولات تصدّيهم لاجتياحات جيش الاحتلال أو لحماية أبناء شعبهم على الحواجز التي كانت تشهد اشتباكات مع الجيش.
يُتابع مُقاتل بلاطة "لكن حدث تحوّل جذري في سياسة السلطة بعد العملياّت العسكرية الواسعة من جيش الاحتلال، وبعد رحيل ياسر عرفات، وأصبحت السلطة تُشكّل عائقاً حقيقيّاً في مواجهة الاحتلال بعد عام 2004، فكان معروف أنّ خيار محمود عباس المفاوضات ولا يؤمن بخيار المقاومة، وأعطى توجيهاته آنذاك للأجهزة الأمنيّة لمُحاصرة المُقاومة والحالة السائدة التي كانت فعلياً في حالة تراجع شديد بحكم الضربات المُتلاحقة التي وُجّهت لقيادتها، إن كان بالاغتيالات، الاعتقالات، الاجتياحات، الملاحقة أو حتى المؤامرة الداخليّة على رموز المُقاومة والمؤثّرين ومحاولة إغراء بعضهم بالمال والسلطة والمناصب."
وهنا يرى أنّ السلطة ساهمت في نشر حالة الفلتان الأمني حتى تلتبس الصورة على المواطن العادي، ويُصبح مطلب جمع السلاح مطلب شعبي، وتكون الناس غير قادرة على التمييز بين المقاوم والمُنفلت، "والسلطة عملت على هذا المشروع بشكلٍ جدّي ومُمنهج، فاختلطت الأوراق على المواطن البسيط، بأنّ هذه المقاومة تحوّلت إلى قاطع طريق، لكن هذا ليس صحيح والسلطة أخذت فرصتها بالهجوم على المُقاومة بحجّة أنّهم أصبحوا مجموعة من المُنفلتين أمنيّاً ويهدّدون حياة ومصالح المواطن."
في شباط 2005 عُقد اتفاق هدنة في قمّة "شرم الشيخ" والتي جمعت رئيس السلطة المُنتخب حديثاً آنذاك محمود عباس ورئيس الوزراء الصهيوني ارييل شارون للاتفاق على إخماد انتفاضة الأقصى، واعتقلت السلطة على إثر الاتفاق عدداً كبيراً من المُقاومين واغتيل آخرين على يد قوات الاحتلال.
وعن المرحلة التي تلت الاتفاق، يقول مُقاتل مُخيّم البريج "خلال تلك الفترة العصيبة ما بين عامي (2005-2007) شهدت المُخيّمات في الضفة المحتلة وقطاع غزة عمل مشترك في محاولة لاستمرار العمل المقاوم، فعلى سبيل المثال الفصائل كانت تتشارك بالمُقاتلين والمال، وشهد مُخيّمي عين بيت الماء وبلاطة في الفترة المذكورة عملاً بطوليّاً انتهى بقيام قوات الاحتلال عام 2007 بتصفية الحالة التي حاولت الاستمرار آنذاك."
الوخز في جسم الفيل
أنّهى مُقاتل بلاطة حديثه عن اجتياح مخيّم بلاطة قائلاً "بعد العمليّة العسكرية على المخيّم تأثّر وضع المقاومة بالتأكيد، لكنّها ليست غبيّة لتعتقد أنها من ناحية القوّة العسكرية قادرة على مواجهة الآلة العسكريّة الإسرائيليةّ بالطرق التقليدية، نحن كمقاومة أسلوبنا الكر والفر، والوخز في جسم الفيل حتى نُحقّق أكبر قدر من توجيه الضربات لهذا الفيل وإخضاعه، وتحويل المشروع الصهيوني لمشروع خاسر على المستوى الاقتصادي والسياسي كما حدث في قطاع غزة، حين شعر الاحتلال أنّ وجوده مخسر سياسي واقتصادي فخرج من القطاع. هذه هي وظيفة المقاومة، لن تقدر على كسر الآلة العسكريّة الصهيونيّة في مواجهة مباشرة، لكنّها قادرة على إلحاق الضربات فيها حتى تُجبرها على إعادة التفكير وإفشال أهداف الحملات التي يُطلقها الاحتلال."