القراءة لـ: خليل الصمادي
رحلة لاجئ من لوبية إلى بولاق الدكرور
المؤلفة: هدى محمود الصمادي
الناشر: دار الصفحات / دمشق.. عدد الصفحات 136
كم هي مؤلمة رحلات اللجوء التي تعرض لها الفلسطينيون عام النكبة، وفي الوقت نفسه تكون جميلة عندما يباح بها للجيل القادم بالرغم من قساوتها فحديث الذكريات جميل بحلوه ومرة، ولكن الأجمل من يقوم بتوثيق تلك الذكريات لتكون شاهداً على قساوة اللجوء ومرارة النكبة من عدو متربص أو قريب متنكر.
ولعل أضخم عمل توثيقي خدم القضية الفلسطينية ما قام به وليد سيف وحاتم علي في رائعتهما "التغريبة الفلسطينية" إذ جسدا من خلال عمل درامي شاهده الملايين ومازالوا يشاهدونه نكبة العصر وألم الأمة.
أما كتاب " رحلة لاجئ من لوبية إلى بولاق الدكرور" هو عمل ولكن ليس بالدرامي أو الروائي بل هو كما جاء في الغلاف الأخير :
"حديثُ لاجئٍ فلسطينيٍّ خرجَ منْ قريَتِهِ عام 1948 على أملِ العودةِ بعدَ أيامٍ أوْ أشهرٍ لكنَّ صروفَ الدّهرِ حطَّتْ به فيْ حيٍّ شعبيٍّ منْ أحياءِ القاهرةِ .
وبعدَ سبعينَ عامًا على النكبةِ أخذَ يبوحُ بما جال في خاطرِهِ، ففي جعبتهِ الكثير من أحاديثِ الألم والحنينِ ، أحاديثِ النكبةِ والتشردِ والضياعِ، وفي الوقتِ نفسِهِ حديث الأملِ والعملِ والتحدي.
هي محاولةٌ صغيرةٌ ،كي لا ننسى موطنَنَا الأصلي، والغالي على قلوبِنا ، وكي لا ننسى أيضا آلامَ اللجوءِ والتشرّدِ الذي عانى منه الكثيرون، وكي لا ننسى أيضًا الهمة العالية وحبّ الحياةِ والاستمرارِ في العطاءِ لشعبٍ ما ركنَ أوِ اسْتكانَ؛ بل قاوم وعملَ وعمَّر وأعطى الرسالة لغيرهِ كيْ يكملها.
حديثٌ منَ القلبِ من لاجئ تسعيْنيٍّ لأبنائهِ ولغيرهم علَّهم يجدون فيه طريق الخلاصِ منْ ألمِ النكبةِ" .
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسة تمتد من عام 1928 سنة ولادة من الطفل محمود في قريته لوبية قضاء طبرية إلى عام 2018 حيث حطت به مقادير النكبة الثانية من دمشق إلى حي بولاق الدكرور في مدينة القاهرة .
أما الفصل الأول فبعد سرد ذكريات عن لوبية وما تحمله ذاكرة الراوي من عادات وتقاليد وأغان شعبية كانت تصدح بها نسوة لوبية والقرى من حولها في مناسبات الزواج والطهور والبناء، كما حمل هذا القسم قسوة المحتل البريطاني في مقاومته الشرسة لكل أنواع المقاومة الفلسطينية وتمكينه لليهود من السيطرة على البلاد، كما صور لنا الشاب محمود مغامراته في الطواف داخل فلسطين بأغلب مدنها وقراها من صفد وحتى بئر السبع ووصفه الدقيق لهذه البلاد في أربعينات القرن الماضي واشتراكه في الجهاد من المجاهدين ووصف معارك لوبية ومعلول والشجرة بشكل دقيق وإصابته في هذه المعارك ونقله لمشفى الناصرة ثم لمشفى المزة العسكري في دمشق.
أما الفصل الثاني فهو رحلة التيه والوصول لدمشق بعد لقائه إثر عذاب طويل مع أمه وأبيه وزوجته التي ولدت بغيابه في بعلبك والإنتقال بهم إلى دمشق حيث يبدأ رحلة البناء والاستقرار المؤقت بعد أن يئس الناس من أخبار العودة الكاذبة وهناك ينتقل من مكان لآخر من جامع إلى بيت مستأجر إلى بيت متواضع في مخيم اليرموك عام 1954 إلى العمل والكد وتحصيل العلم ومجالسة العلماء والمفكرين إنها صورة مشرقة عن دمشق العروبة التي أمنت سبل العيش الكريم لمئة ألف لاجئ في حينها أو يزيدون، ويستمر الوصف الجميل لدمشق مع أمل العودة لفلسطين إلى أن سقط مخيم اليرموك، ومقاومته فيه وتشبثه بالبقاء حتى لا تتكرر المأساة، إلا أن استحالة الحياة فيه اضطرته مُكرهاً للخروج مع من تبقى من عائلته، وهي زوجته من أصل 16 عشر نفرًا كانوا في بطاقة الحاج أبي سميح وفي كرت مؤن الأونروا في مبنى كبير حيث غدا ركاماً على الأرض وأثرًا بعد عين في ساحة الريجة شمال المخيم، ولعل أجمل وصف في الكتاب وصف خروج الشيخ من المخيم بل أقساه كما جاء:
" وقف العجوز على باب المخيم يتكئ على عصاه القديمة، وعيناه الغائرتان تتجهان صوب المخيم وكأنه ينظر إليه نظرة مودع، أخذ نفساً عميقاً ثم زفر بالحوقلة والاسترجاع، وكأنَّه يودع حبيباً يئس من رجوعه، اقترب منه ابنه مقبِّلاً يديه ومعانقاً جبينه العريض قائلا:
- الحمد لله على سلامتكم
- الله يسلمك يا بني، لماذا غلبت نفسك وجئت هنا، أنا بدبر حالي.
- ولو يا أبي إذا ما خدمتك فمن أخدم؟
قبل أن يصلا إلى سيارة ابنه التي ركنها بالقرب من ساحة البطيخة بين جامعي البشير والماجد تنهد الأب قائلا :
- هذه النكبة أصعب من نكبتنا عام 1948
ظلَّ الإبن صامتاً فلم يشأ أن يأخذ ويعطي بهذا الشأن، فقد لا حظ أن صوت والده متهدجاً فأحسَّ أن عينيه تحبس عبرات غالية، فأطرق أرضاً فلم يقدر أن يحدق فيهما خجلاً وأدباً، فأب عجوز يترك وراءه مبنى مكوناً من أربعة طوابق وكل طابق من شقتين يقيم فيها في شقة مستقلة والباقي لذكوره الستة وليس بحاجة لأحد منهم، فهو يقتات من راتبه التقاعدي ومن كراء المحلات في الطابق الأرضي والتي تعادل ضعفي تقاعده، من هذا المكان زوَّج أبناءه الأربعة عشرة، ستة من الذكور تحلقوا حوله في المبنى، وثمانية من الإناث يضربن بالأرض مع أزواجهن وأولادهن، وترك مكتبة ظل يجمع فيها الكتب مذ وطئت قدماه دمشق، مكتبة هجمت برفوفها وخزنها الغرف الثلاث والصالون وحتَّى على أطراف المطبخ والشرفة.
آه يا حاج إلى أين ستكون وجهة سيرك في هذا الخريف الدامع، وهل ستعود بعد أيام أو أسابيع كما كانوا يخدرونكم بها أيام النكبة الأولى، أم أنك ستسطر نكبة أخرى" .
أما القسم الثالث وهو الأقصر فيتحدث عن القاهرة التي وصلها عام 2013، وتنقله بين مدينة 6 أكتوبر ونصر حيث الأقارب والأهل من المخيم ودمشق وحيث استعدادهم لرحل التيه إلى أوروبا ورفض الحاج لهذه الفكرة، واستقراره الأخير حيث مكان البوح من حي بولاق الدكرور في القاهرة حيث يوصي أبناءه وقراءه بما يلي كما جاء في خاتمة الكتاب :
وقبل أن أودع هذه الحياة ورغم ما في نفسي من حسرة كبيرة إلا أنني راض بقضاء الله ومحتسب عنده وحده أنَّ ما أصابنا من ابتلاءات وكلي ثقة بالله وعلى يقين تام واضح كالشمس في رابعة النهار أننا سنرجع يوما ما إلى بلادنا وقرانا ومدننا وللقدس والأقصى وحيفا ويافا وعكا وإلى مسقط رأسي لوبية وهو قريب وقريب وما ذلك على الله ببعيد فدولة الطغيان ساعة ودولة الحق لقيام الساعة كما قال تعالى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } آل عمران 139 ـ 140 .
رحلة لاجئ من لوبية إلى بولاق الدكرور
المؤلفة: هدى محمود الصمادي
الناشر: دار الصفحات / دمشق.. عدد الصفحات 136
كم هي مؤلمة رحلات اللجوء التي تعرض لها الفلسطينيون عام النكبة، وفي الوقت نفسه تكون جميلة عندما يباح بها للجيل القادم بالرغم من قساوتها فحديث الذكريات جميل بحلوه ومرة، ولكن الأجمل من يقوم بتوثيق تلك الذكريات لتكون شاهداً على قساوة اللجوء ومرارة النكبة من عدو متربص أو قريب متنكر.
ولعل أضخم عمل توثيقي خدم القضية الفلسطينية ما قام به وليد سيف وحاتم علي في رائعتهما "التغريبة الفلسطينية" إذ جسدا من خلال عمل درامي شاهده الملايين ومازالوا يشاهدونه نكبة العصر وألم الأمة.
أما كتاب " رحلة لاجئ من لوبية إلى بولاق الدكرور" هو عمل ولكن ليس بالدرامي أو الروائي بل هو كما جاء في الغلاف الأخير :
"حديثُ لاجئٍ فلسطينيٍّ خرجَ منْ قريَتِهِ عام 1948 على أملِ العودةِ بعدَ أيامٍ أوْ أشهرٍ لكنَّ صروفَ الدّهرِ حطَّتْ به فيْ حيٍّ شعبيٍّ منْ أحياءِ القاهرةِ .
وبعدَ سبعينَ عامًا على النكبةِ أخذَ يبوحُ بما جال في خاطرِهِ، ففي جعبتهِ الكثير من أحاديثِ الألم والحنينِ ، أحاديثِ النكبةِ والتشردِ والضياعِ، وفي الوقتِ نفسِهِ حديث الأملِ والعملِ والتحدي.
هي محاولةٌ صغيرةٌ ،كي لا ننسى موطنَنَا الأصلي، والغالي على قلوبِنا ، وكي لا ننسى أيضا آلامَ اللجوءِ والتشرّدِ الذي عانى منه الكثيرون، وكي لا ننسى أيضًا الهمة العالية وحبّ الحياةِ والاستمرارِ في العطاءِ لشعبٍ ما ركنَ أوِ اسْتكانَ؛ بل قاوم وعملَ وعمَّر وأعطى الرسالة لغيرهِ كيْ يكملها.
حديثٌ منَ القلبِ من لاجئ تسعيْنيٍّ لأبنائهِ ولغيرهم علَّهم يجدون فيه طريق الخلاصِ منْ ألمِ النكبةِ" .
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسة تمتد من عام 1928 سنة ولادة من الطفل محمود في قريته لوبية قضاء طبرية إلى عام 2018 حيث حطت به مقادير النكبة الثانية من دمشق إلى حي بولاق الدكرور في مدينة القاهرة .
أما الفصل الأول فبعد سرد ذكريات عن لوبية وما تحمله ذاكرة الراوي من عادات وتقاليد وأغان شعبية كانت تصدح بها نسوة لوبية والقرى من حولها في مناسبات الزواج والطهور والبناء، كما حمل هذا القسم قسوة المحتل البريطاني في مقاومته الشرسة لكل أنواع المقاومة الفلسطينية وتمكينه لليهود من السيطرة على البلاد، كما صور لنا الشاب محمود مغامراته في الطواف داخل فلسطين بأغلب مدنها وقراها من صفد وحتى بئر السبع ووصفه الدقيق لهذه البلاد في أربعينات القرن الماضي واشتراكه في الجهاد من المجاهدين ووصف معارك لوبية ومعلول والشجرة بشكل دقيق وإصابته في هذه المعارك ونقله لمشفى الناصرة ثم لمشفى المزة العسكري في دمشق.
أما الفصل الثاني فهو رحلة التيه والوصول لدمشق بعد لقائه إثر عذاب طويل مع أمه وأبيه وزوجته التي ولدت بغيابه في بعلبك والإنتقال بهم إلى دمشق حيث يبدأ رحلة البناء والاستقرار المؤقت بعد أن يئس الناس من أخبار العودة الكاذبة وهناك ينتقل من مكان لآخر من جامع إلى بيت مستأجر إلى بيت متواضع في مخيم اليرموك عام 1954 إلى العمل والكد وتحصيل العلم ومجالسة العلماء والمفكرين إنها صورة مشرقة عن دمشق العروبة التي أمنت سبل العيش الكريم لمئة ألف لاجئ في حينها أو يزيدون، ويستمر الوصف الجميل لدمشق مع أمل العودة لفلسطين إلى أن سقط مخيم اليرموك، ومقاومته فيه وتشبثه بالبقاء حتى لا تتكرر المأساة، إلا أن استحالة الحياة فيه اضطرته مُكرهاً للخروج مع من تبقى من عائلته، وهي زوجته من أصل 16 عشر نفرًا كانوا في بطاقة الحاج أبي سميح وفي كرت مؤن الأونروا في مبنى كبير حيث غدا ركاماً على الأرض وأثرًا بعد عين في ساحة الريجة شمال المخيم، ولعل أجمل وصف في الكتاب وصف خروج الشيخ من المخيم بل أقساه كما جاء:
" وقف العجوز على باب المخيم يتكئ على عصاه القديمة، وعيناه الغائرتان تتجهان صوب المخيم وكأنه ينظر إليه نظرة مودع، أخذ نفساً عميقاً ثم زفر بالحوقلة والاسترجاع، وكأنَّه يودع حبيباً يئس من رجوعه، اقترب منه ابنه مقبِّلاً يديه ومعانقاً جبينه العريض قائلا:
- الحمد لله على سلامتكم
- الله يسلمك يا بني، لماذا غلبت نفسك وجئت هنا، أنا بدبر حالي.
- ولو يا أبي إذا ما خدمتك فمن أخدم؟
قبل أن يصلا إلى سيارة ابنه التي ركنها بالقرب من ساحة البطيخة بين جامعي البشير والماجد تنهد الأب قائلا :
- هذه النكبة أصعب من نكبتنا عام 1948
ظلَّ الإبن صامتاً فلم يشأ أن يأخذ ويعطي بهذا الشأن، فقد لا حظ أن صوت والده متهدجاً فأحسَّ أن عينيه تحبس عبرات غالية، فأطرق أرضاً فلم يقدر أن يحدق فيهما خجلاً وأدباً، فأب عجوز يترك وراءه مبنى مكوناً من أربعة طوابق وكل طابق من شقتين يقيم فيها في شقة مستقلة والباقي لذكوره الستة وليس بحاجة لأحد منهم، فهو يقتات من راتبه التقاعدي ومن كراء المحلات في الطابق الأرضي والتي تعادل ضعفي تقاعده، من هذا المكان زوَّج أبناءه الأربعة عشرة، ستة من الذكور تحلقوا حوله في المبنى، وثمانية من الإناث يضربن بالأرض مع أزواجهن وأولادهن، وترك مكتبة ظل يجمع فيها الكتب مذ وطئت قدماه دمشق، مكتبة هجمت برفوفها وخزنها الغرف الثلاث والصالون وحتَّى على أطراف المطبخ والشرفة.
آه يا حاج إلى أين ستكون وجهة سيرك في هذا الخريف الدامع، وهل ستعود بعد أيام أو أسابيع كما كانوا يخدرونكم بها أيام النكبة الأولى، أم أنك ستسطر نكبة أخرى" .
أما القسم الثالث وهو الأقصر فيتحدث عن القاهرة التي وصلها عام 2013، وتنقله بين مدينة 6 أكتوبر ونصر حيث الأقارب والأهل من المخيم ودمشق وحيث استعدادهم لرحل التيه إلى أوروبا ورفض الحاج لهذه الفكرة، واستقراره الأخير حيث مكان البوح من حي بولاق الدكرور في القاهرة حيث يوصي أبناءه وقراءه بما يلي كما جاء في خاتمة الكتاب :
وقبل أن أودع هذه الحياة ورغم ما في نفسي من حسرة كبيرة إلا أنني راض بقضاء الله ومحتسب عنده وحده أنَّ ما أصابنا من ابتلاءات وكلي ثقة بالله وعلى يقين تام واضح كالشمس في رابعة النهار أننا سنرجع يوما ما إلى بلادنا وقرانا ومدننا وللقدس والأقصى وحيفا ويافا وعكا وإلى مسقط رأسي لوبية وهو قريب وقريب وما ذلك على الله ببعيد فدولة الطغيان ساعة ودولة الحق لقيام الساعة كما قال تعالى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } آل عمران 139 ـ 140 .
خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين