عتاب الدقّة
عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراريها 32/40 باء في 2 كانون الأول/ ديسمبر 1977، و34/65 دال في 12 كانون الأول/ديسمبر 1979 باعتبار يوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ربما أرادت ضمناً أن تعترف بفشلها والدول الأعضاء فيها بتنفيذ قرارها السابق على ذلك بثلاثين عاماً، قرار 181 المُجحف أصلاً بحق الشعب الفلسطيني، والقاضي بتقسيم وطنه إلى دولتين عربيّة ويهوديّة، مع إعطاء القدس طابع الكيان المُتميّز الخاضع للنظام الدولي.
ورغم أنّ القرار الأممي يظلم الشعب الفلسطيني بتقسيم أرضه وإعطاء ذلك التقسيم صبغة الشرعيّة الدوليّة، إلّا أنّ ما حلَّ بعد ذلك كان أخطر وأعظم، إذ إنّ الحركة الصهيونية لم تلتزم بمُقتضى القرار الذي داعبت طموحاتِها من خلاله المؤسسةُ الأمميّة عبر الانتداب البريطاني، بل تمادت في التوسّع والاستيطان وارتكاب الجرائم إلى أن احتلّت أكثر من 75% من أرض فلسطين التاريخيّة وطردت ما يُقارب 800 ألف فلسطيني إلى الضفة الغربيّة وغزة ودول الجوار، وبهذا تكون الجمعية العامة قد فشلت حقاً في إيجاد حل لما أسمته آنذاك "الصراع العربي- اليهودي" ولم يتمكّن قرارها الظالم من كبح جماح الحركة الصهيونيّة، حيث قام بعد أقل من عام الكيان "الإسرائيلي" الذي عرَّف عن نفسه بأنه "دولة يهوديّة" فيما لم تقُم أي دولة عربية، بل على العكس استمر الكيان بارتكاب الجرائم والاعتداءات وعمليّات الاستيطان والتهويد إلى أن احتل كامل فلسطين بعد عشرين عاماً في حزيران عام 1967، قبل أن يُعيد منها أجزاء مُمزّقة في الضفة وقطاع غزة لمنظمة التحرير وفق اتفاق أوسلو عام 1993، لتُقيم عليها سلطة ما تزال قاصرة عن القيام بدورها، وما تزال تلهث في أروقة الأمم المتحدة للحصول على دولة.
وعليه، فإنّ تداعيات قرار التقسيم رقم 181 فاقت جداً ربما ما تخيّله الموافقون عليه حينها، فأكثر من ثمانين بالمائة من أرض فلسطين صارت تحت احتلال الكيان المباشر، وما تبقّى من الضفة والقدس تحكمه الآلة العسكريّة والتهويديّة والاستيطانيّة، بينما قطاع غزة يتعرّض لحصار كامل من الاحتلال عدا عن الاعتداءات جوّاً وبرّاً وبحراً على سكانه والتي أوقعت آلاف الشهداء خلال أعوام قليلة، فيما سجون الاحتلال تعج بآلاف الأسرى الفلسطينيين، يتعرّضون يوميّاً لأبشع وأقسى الانتهاكات، هذا بالإضافة إلى أكثر من 5 ملايين لاجئ فلسطيني مُشتتين في أصقاع الأرض، قسم كبير منهم يعيشون في مُخيّمات لا تتوفر فيها أدنى مُقوّمات الحياة الإنسانية، منهم من هو محروم من حقوقه الاجتماعيّة والقانونيّة، وآخرون يفتقدون الأمان، وغيرهم أجبروا على الرحيل فلفظتهم مطارات ودول العالم، ليُشكّل كل ذلك مأساة الشعب الفلسطيني بأيدٍ أمميّة في المقام الأول.
فماذا تُجدي كلمات وخطابات وأنشطة التضامن يوماً واحداً كل عام أمام هذه المصيبة الكبرى؟؟، على الأقل هذا ما يتساءل عنه أغلب اللاجئين الفلسطينيين الذين يُواجهون اليوم قراراً قد اتُخِذ بإرادة أمريكيّة ورغبة "إسرائيلية" وربما تواطؤ عربي بتصفية قضيّتهم، وإنهاء مُخيّماتهم، وتجريدهم من صفتهم كلاجئين، وبالتالي تجريدهم من حقّهم في العودة وفق القرار 194 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
اليوم ما يحتاجه اللاجئون والفلسطينيون عموماً أكثر من خطابات ونشاطات إعلاميّة، هم بحاجة إلى سلوك رسمي فلسطيني وفصائلي قادر على الارتقاء لحجم طموحاتهم وتضحياتهم، هم بحاجة إلى قيادة فلسطينية قادرة على إعادة الاعتبار لقضيتهم وحقوقهم، تتحدى الإرادة الدوليّة وتجبرها على الوقوف بجانبهم في ظل التحكم الأمريكي بالخطاب العالمي، وانشغال الأنظمة العربيّة لا سيما في الخليج العربي بإدارة الخلافات الداخليّة بينها، والدفاع عن نفسها في مواجهة شعوبها، وتهافتها على محاولات إرضاء "إسرائيل" وحلفائها مقابل استمرارها في الحكم، بحاجة إلى حكومات وأحزاب تحب فلسطين ولا تكره الفلسطينيين وتضيّق عليهم، وعليه سيبقى الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات يتضامن مع نفسه حتى يُحقّق بنفسه طموحاته بالحريّة والتحرر والعودة، ولن يتم هذا إلا بإعادة بناء مشروعه الوطني وفق آلية عملية نضالية، لا تنازل فيها عن الثوابت والحقوق.