كانت تلك الفترة استثنائية، فصلا من فصول الجحيم. قرابة 200 إنسان قضوا تجويعا، وكان الأفق الذي يحجب الطعام عنا يبعد أمتارا فقط.
عرفت أن عصام (أبو علي)، الضابط السابق، مقعد من اعتلال أعصاب سكري، ويعاني ارتفاعا في الضغط الشرياني ونقص في التروية القلبية. مرت عليه أسابيع وهو يأكل الفجل و"رجل العصفور" وشوربة البهار. هذه "الحمية" الغرائبية أغنته على ما يبدو، هو وكل مرضى داء السكري آنذاك، عن تناول الدواء.
لم توفق زوجة عصام في استلام الكرتونة في أول يوم من إدخال أولى السلال الغذائية التي قدمتها الأونروا مع بداية عام 2014. لذا فإن جارتها التي كانت أكثر حظا، أخذتها معها إلى البيت، ولَفّتْ لها "حلاوة" في رغيف خبز: "هاد إلك خيتا، كليه هلأ عبين ما أجهز رغيف لأبو علي". كان نشاط أبو علي، الملازم لسريره دوما بحكم المرض، يقتصر على التدخين وإنشاد أبيات حبيبه المتنبي. لكنه حين عادت زوجته يومها كان نائما. وضعت أم علي سندويشة الحلاوة عند فمه. أحست شفتاه، تحرك لسانه، لعق قليلا، ذاب الطعام الحلو الدهني الذي افتقده طويلا طويلا في لعابه. تنبهت حليماته الذوقية. أبو علي ما يزال نائما، لكنه الآن يبتسم. يمص أكثر. يبتسم أكثر، ثم يتمتم:
- يا الله ما أحلى هالحلم!
- لك قوم يا زلمة! هاد مش حلم! جبتلك خبز وحلاوة
-حين أخبراني القصة، كانت عينا زوجته تدمعان، وأبو علي يبتسم:
- صحيح دكتور إني فقت، وأكلت السندويشة، بس بعدني لهلأ متأكد إني كنت بحلم"
تعرفت على الرجل أكثر فأكثر. سهرنا معه. احتفلنا بعيد ميلاده. قص علينا
ذكرياته. دخلنا في مبارزات شعرية. وفي مكان موبوء يعاني من شح الدواء وغياب الوسائل الاستقصائية، كان طبيعيا أن يتدهور وضعه الصحي، وأن نسعى لإخراجه للاستشفاء في العاصمة. وحين جاءت الموافقة أخيرا، كان الوقت قد فات.
دمر الحصار والمجاعة آنذاك كل شيء. لم يفرقا بين مسن ورضيع. لم يتجاهلا الكلاب والقطط. حينها كتبت الكثير عن الجوع، من بين ما كتبت النص أدناه الذي يشبه كثيرا اللوحة أعلاه.
● سعد بن أبي وقاص
بعد ثمان وأربعين ساعة من بدء ظهور العلامات الجسدية لحصار شعب أبي طالب عليه، وقد برزت وجنتاه، وربط الحجز والحجزين، عثر على علبة مرتديلا. كاد لفرط ابتهاجه يفتحها بأسنانه. امتشق أول رام في الإسلام ملعقته ـ فقد ولت أيام ترف كان يجد فيها كسرة خبز عفنة ـ حين هرعت قطة مهزولة تموء إليه. لم يتردد في مقاسمتها غنيمته. بعدها توجه إلى خالقهما: لاهُمَّ كما لم أقطع رجاءها مني فلا تقطع رجاءنا منك. وبكى طويلا طويلا (أكان ذلك من الجوع؟ أم نوبة خشوع؟ وحده الله يعلم). حين استيقظ، كانت القطة قد ذهبت، وعلبة المرتديلا فارغة.