داخل مخيم مارالياس ومع صوت أم كلثوم وأغنية "أهل الهوى" بتسجيل نادر، نجلس أنا وصديقي شريك السكن المترجم السوري الطيب الحصني..
لكل منا ذكرياته في دمشق، وواحدنا يعلم أن فتح أبواب الذاكرة يوقظ ألما حقيقيا سيأخذ المساء إلى ختامه بأن يخلد كل واحد منا في غرفته يتأمل شارعا أو حيا أو فتاة عرفها هناك..
وعادة ما يحارب واحدنا هذا الوضع بمعانقة أمور معاصرة تؤجل صراع الذكريات مع الذات، غالبا ما ننتصر عليها، وغالبا ما نتمكن من العودة للجلوس..
تلك المقدمة التي لا بد منها، جاءت للقول أن الوقت الزائف من الحياة ما زال يحضر في ثنيات الأيام، وهذا الوقت ما هو إلا وليد الحرب، ووليد اللجوء القسري.
كذلك فإن محاولة الانصياع للذاكرة ولما تريد من فتح القلب واسعا على شوارع دمشق الضيقة، ومساءاتها الدافئة لن يفعل أكثر من تأجيل انتهاء الحرب في قلوبنا سنوات أخرى..
هل يجب أن تنتهي الحرب، هل علينا الكف عن تذكر المكان الأول على طريقة أبي تمام، أم أن اجترار الوضع الراهن من أخبار المعارك، هو ما عليه أن يكون همنا، وبالتالي أن نحيا حياتين، واحدة في الماضي الحاضر، وحاضرنا..
لست متأكدا من الإجابة الحاسمة فكلما حاولت، فشلت، وكلما فشلت، أعدت التجربة، علّ نتائج أخرى، يمكن الخروج عبرها من وجع الذاكرة..
أعرف في قرارة نفسي أن الصراع سينتهي لصالح الذاكرة، رغم أنها أخذت أطوارا مختلفة، أهمها، طور أن تصبح ماضيا يتجاهل صاحبه، لتكون كمن يقرأ كتاب تاريخ، ومن حسن اللغة وظرفها، تشعر وكأنك ترى ما يتحدث عنه المؤلف، كأنه لاعب في الحدث.
أعرف أيضا، بوصفي من الفلسطينيين العائدين إلى بيروت، ومن الباحثين عن عودة إلى مخيم اليرموك، لأعود وأبحث عن عودتي المؤجلة نحو سبعة عقود إلى فلسطين، أعرف أني لن أعود إلى أي مكان، وأن عليّ التعايش مع أي مكان أحلّ فيه، ليس لأني لاجئ فلسطيني سوري، وليس لأني أود نكأ جرح مأساة اللجوء، وليس لأن كل ما سبق حقيقي، وبات لا يطرب.. فقط لسبب واحد، أن الإنسان يحق له أن يشعر باستقرار ما، ولحال مثل حالي، لا بد من تعايش مع اللاستقرار واعتباره استقرارا من نوع ما..
وبالعودة إلى صديقي الطيب، الباحث عن ملاذ أيضا، فهو من الألمعيين، لكن عسر الواقع يحول دونه ودون اتمامه لأمور يود فعلها، في مجاله.
وهو ذا المخيم مجددا يلم الشتات..
وإلى أن يحين الحل، أقول لنا نحن المنتظرين على بوابة العمر، علينا السلام..