«رحيل» العمل الروائي الأول للفلسطيني السوري نادر حاج عمر، الصادر حديثاً عن دار "الزمان للطباعة والنشر"، في العاصمة السورية دمشق.
«رحيل» قصة بحث عن نجاة في زمن الكارثة السورية، يستمر الرحيل ويتوارثه أبناء الشرق، تتمازج في النصّ أزمنة القهر، ويشتد فيه الألم ويعلو الصراخ: "تأكدت أنه لو كان للألم كتلة مادية، لاختل النظام الكوني، لكان الشرق مركز هذا الكون".
الرواية التي جاءت في 240 صفحة من القطع المتوسط، هي محاولة لإعادة قراءة مايحصل من حولنا: "هذا الولد المشوه -عالمنا- هو ابن تاريخ طويل من الحروب، والعنف والاستغلال".
تدور الأحداث الرئيسية في الرواية في أحد البلدان الأوروبية التي استقبلت اللاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين، دون أن يحدد السارد هذا البلد.
وهي تحكي قصة مجموعة أشخاص عاديين اجتمعوا في زاوية ما في بلد الاغتراب، بعدما رحلوا هرباً من ويلات الحرب، ومن أجواء الرعب والتوحش بحثاً عن ملاذ آمن: "كم هي موحشة تلك الدروب، تتقاذفنا الرياح، وتصغر أحلامنا، وفي الأفق البعيد تلاشى بريق، ونمضي بلا عنوان غرباء في الزمن الرديء".
في «رحيل» تختلط الهزائم الفردية والانكسارات العامة في إشارة إلى أنّ هزيمة الكلّ هي هزيمة لكلّ فرد، ومجموع انكسارات الأفراد هو انكسار للكلّ.
عبدالله الراوي الرئيسي يمثل الرابط الأبوي، يتابع الجميع، يروي حكايته في الوطن، حكاية رحيله في تمازج مع ذاكرة والدته التي تروي قصص رحيلها في أكثر من محطة.
في مشاهد تؤكد استمرار الألم في منطقة الشرق، يعود عبدالله فجأة إلى سوريا بعد أن جاء خبر فقد ولده إبراهيم في عملية اختطاف، ويترك خلفه أوراق الرواية بيد حسن الذي يقرر نشرها بناء على توصية عبدالله.
في الرواية يعيد التاريخ صوراً متشابهة، يجمعها البؤس والخراب، وتكرر الحرب ويلاتها.
حسن الصغير ابن الشهيد حسن، الذي لم يحصل على اعتراف باستشهاده في حرب 1982 في بيروت، (سجل مفقوداً)، يروي حكاية جدته التي ربته، المرأة التي أحبها الجميع، والتي اغتيلت في مشهد مؤثر وهي بانتظار عودة ابنها.
يبحث حسن في لجوئه عن ذاته، ويبدأ البحث للعمل كسائق قطار ويبدو قادراً على الاندماج.
خالد فقد ابنته في ظروف حصار جائر، وقام بدفنها بيديه، معتبراً ذلك أفضل ما حصل له في تلك الفترة، ذلك أنه فقد أخاه وابنه وهما في طريقهما إلى خارج سورية. يحكي خالد قصة حياته ممتلئاً بالهزيمة والانكسار.
يموت والد خالد متجمداً في وطنه، وعندما يلوح بصيص أمل في العثور على أخيه يقرر العودة، وكلما تأخر عن العودة إلى البيت يبحث عنه أصدقاؤه فيجدونه في الغابة القريبة وسط عاصفة ثلجية متكوماً على نفسه على مقعد خشبي، ميتاً وقد ورث شكل موت أبيه.
يضفي سعد على الجو حس الفكاهة، ويثير المرح في الأجواء، فهو يتمتع بروح شابة وثابة، يمتلئ بالحياة، كان قادراً على التغير والاندماج: "لنكن أكثر مرحاً، لا تفكر بالوقت كيف سيمضي، دعه يمر.. إنه يمر، وكن أنت قادراً على المرور، إلى أين؟ إلى حيث تريد، إلى حيث يمكنك المرور، كن مثل قطرة الماء التي تنفذ من الصخر... ابتسم لنفسك وأخبرها أنك على قيد الحياة... على قيد الفرح".
حاول سعد دائماً مساعدة أصدقائه في الخروج من أجواء الكآبة.
ينضم إلى المجموعة بشكل متأخر رجل دين، وتأخذ العلاقات شكلاً مختلفاً بعض الشيء، لكن الحكمة اقتضت القبول بالآخر.
في الشكل؛ تقسم الرواية إلى فصول عديدة تترابط تدريجياً، لتشكل الكلّ المراد لها، ويتنقل الأسلوب بين السرد والحوار الداخلي، في مشاهد مختلفة وأزمنة متداخلة. تحاول الرواية التمرد على مجال زمني أو حيز جغرافي تقع فيه، لأنها مستمرة الحصول في الشرق في أيّ موقع وفي أيّ زمان، وتنطوي في نهايتها على مفاجأة ربما تدفع القارئ مرة أخرى لإعادة قراءة الصفحات الأخيرة فيها على الأقل. لعل فيها الكثير لنقرؤه.
تدعو الرواية إلى التسامح والغفران والعمل بين الجميع لإعادة الوطن إلى ما كان عليه: "هو واقعنا الذي تعجز الروايات عن الإحاطة به.. ربما في عالم آخر.. كان يمكن أن أسميها بقايا وطن، بقايا من الوطن.. نحن هنا البقايا، وهو بقايا، سيظلّ كذلك إلى أن نعود، أن نبدأ البناء، نستمر به ويستمر بنا، إلى أن يملأ الحب الهوة التي حفرناها بأيدينا، ورمينا أبناءنا فيها، بعد أن ينطفئ الجحيم الذي أوقدناه".
نقرأ من أجواء الرواية ما جاء على غلافها الخارجي:
في الزمن الرث وفي هذا الشرق اللعين، وأنت تدرك أنها بلاد الطريق المسدود للتطور الإنساني، تفكر كيف يمكنك الخروج من الزمان والمكان.. كيف تنقي خلايا الجسد من الجغرافيا والتاريخ.. تفكر كيف تسعى لنيل الغفران ممن خلفتهم وراءك!.
تدور حول نفسك وتفاجئها برحيل جديد. تحمل لعنتك الأبدية معك، تحمل هذا الشرق بداخلك.. يلتقطك الرحيل وتمضي.
هو شغف الهروب إلى الأمام، هي تلك الهزيمة المستمرة في داخلي والعجز الأسطوري عن المواجهة..المواجهة المستحيلة.
أحمل الخوف من الماضي وهزائمه وأمتلئ خوفا من القادم، وأقاوم الرغبة بالبكاء، وأدرك أن الخروج من لعنة الشرق وهم لا يفيد فيه الهروب أو المواجهة...
على مسافة رحيل ووطن تركت ملابسي وحملت عريي وجئت وخلفي صراخ وضجيج يملآن الكون.
صراخ إنساني وضجيج القنابل.. عويل النساء.. بكاء الأطفال والرجال.. وأصوات الحطام.. حطام الأبنية والمركبات والشجر.. والعظم البشري.
ولد نادر منهل حاج عمر لأبوين فلسطينيين من إحدى قرى حيفا، في عام 1962 في مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوبي دمشق.
درس في مدارس وكالة (الأونروا) ، ومن ثمّ في ثانوية اليرموك بالمخيّم. وتخرج من كلية الهندسة المدنية بدمشق عام 1984. عمل في وزارة السياحة السورية حتى نهاية العام 1992. وخلال هذه الفترة حصل على منحة دراسية إلى ألمانيا لمدة عام في المجال الاقتصادي.
عمل إضافة لعمله في وزارة السياحة كمدرس في المعاهد السياحية. وأصدر كتابين بالمشاركة في هذا المجال، ولم يتح للكتاب الثالث أن يرى النور وقد أحرق مع كافة كتبه وأوراقه البحثية عندما تعرضت مكتبته الشخصية للاحتراق في أحداث مخيّم اليرموك الدامية.
عمل لسنوات عديدة في مكتبه الخاص بمخيّم اليرموك حتى العام 2006 حيث سافر إلى الإمارات العربية المتحدة، بقصد العمل، ولم تطل إقامته بعيداً عن دمشق فعاد بعد أقل من عام ليتابع عمله في شركات البناء إلى أن بدأت الأزمة في سورية وتصاعدت الأحداث وتوقف عمله فسافر إلى مدينة أربيل العراقية في عام 2013 ثمّ حط به الرحال كلاجىء في ألمانيا في نيسان/ أبريل عام 2016.
قدّم نادر أول قصة مكتوبة في عام 1973 إلى مدرس اللغة العربية في إعدادية المالكية في مخيّم اليرموك، وهي قصة بوليسية متأثراً بالجو السائد آنذاك بين أترابه، فشجعه معلمه.
كتب الشعر، لكن الرواية كانت هاجسه، فقام بمحاولات عديدة، في بدايات شبابه، لكنه لم يتممها، وبقيت أوراقاً، أو دفاتر مجموعة في أمكنة مخصصة في مكتبته التي كان قد بناها على مدار ما يزيد عن ثلاثين عاماً.
بعد وصوله إلى ألمانيا قرر أنه حان الوقت ليقدم روايته الأولى، وهو يعتبر هذه الرواية نتاج تراكم عمل مستمر ابتدأ منذ وقت طويل. قائلاً: "إنه العمل الأدبي الأول الذي أردت توثيقه ليكون بمتناول الجميع، بعد أن أحرقت كتبي ودفاتري وأوراقي..".