أحمد الحاج علي – موقع المدن
عام 1948 واجه الشاب عبد الرحيم حسين عصابات الهاغاناه، ببندقيته الفرنسية القديمة، عند حدود قريته شعب، لكن رصاصة خرجت بالخطأ من تلك البندقية أردته قتيلاً على الفور. بعد أربع سنوات وُلد أخوه طفلاً لاجئاً في لبنان. سمّوه عبد الرحيم تيمّناً بأخيه.
يوم الأحد 9 كانون الأول/2018، سقط سقف بيته عليه وهو نائم، في مخيم برج البراجنة. كانت عقارب الساعة تقارب الثانية والنصف صباحاً.
العالم المنسي
نهض الابن والبنت من نومهما مشدوهين، هما بالكاد تجاوزا العشرين من العمر، حاولا إزالة الكتل الإسمنتية عن جسده النحيل. الأنين المنبعث من تحت الركام، أعطاهما أملاً بأن حياة ما ستقوم من تحتها، استطاعا إخراجه، تحدث بصوت متقطع.،إنه حي رغم جسده المُدمى، هما متمسكان بحياته أكثر فأكثر، هو الأب والأم، بعد رحيل أمهما قبل أربع سنوات بعد أن اجتاح جسدها مرض السرطان، سمع الجيران الصوت، جاؤوا وحملوه إلى المستشفى، نصف ساعة أخرى، وغادر بعدها الحياة.
لم يُصب اللاجئ عبد الرحيم ببندقية فرنسية كأخيه، بل أصابته إجراءات تمنع إدخال مواد البناء إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، الأونروا وحدها تستطيع أن تفعل، وبصعوبة، إن توافرت مساعدات دولية، وتسهيلات من السلطات اللبنانية.
شكاوى عبد الرحيم المتكررة للأونروا حول وضع منزله، لم تلق الاستجابة المطلوبة، بل كان الجواب دائماً "ليس وضع منزلك من أولوياتنا في إعادة بناء المنازل الآيلة للسقوط"، كما يقول ابنه بشير لـ "المدن". قد يشبه هذا الرد عبارة شهيرة كان يسمعها أمثال المقاتل عبد الرحيم في وطنه من الضباط العرب حين يطلب منهم المساهمة في مده بالذخيرة "ماكو أوامر".
عبد الرحيم ليس استثناء في العالم المنسي في المخيمات الفلسطينية، فعلى بعد أمتار من منزله، كان جميل أبو خريبة ذات يوم يتناول الطعام برفقة زوجته وولديه، في إحدى غرفتي بيته، بالمخيم، عندما حلّت الكارثة. تحلّقوا جميعاً حول طاولة منخفضة، أو ما يُعرف بالطبليّة، لدقائق فقط، قبل أن يباغتهم سقوط جزء من سقف الغرفة. الغبار ملأ المكان، وكاد يحجب الرؤية تماماً. راح الأب يتفقد الزوجة والولدين، وهم يطمئنونه إلى أن لا مكروه أصابهم، الغبار ينقشع، فجأة، فزع يُصيب الولدين لرؤية عين أبيهما النازفة، رغم أن إصابته كانت بخلفية رأسه.
ركض الأب تجاه مستشفى حيفا، التي تبعد عشرات الأمتار عن بيته، سقط عند بابها مغشياً عليه، بالكاد استطاع الطاقم الطبي وقف النزيف، نُقل أبو خريبة إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وقْع الخبر كان صاعقاً، لا أمل في الرؤية مرة أخرى بعينه اليمنى، تنقّل بين اختصاصيي عيون كثر، لكن النتيجة السلبية كانت واحدة.
نكث الوعود
التشققات في سقف المنزل، أخذت تتّسع قبل عامين من وقوع الحادث، أبلغ أبو خريبة وقتها وكالة "الأونروا"، لكن عملية إعادة إعمار البيوت كانت تحابي الأكثر نفوذاً وسطوة في المخيم، كما يردد السكان، ويسوقون أمثلة كثيرة عن الفساد الذي شاب العملية.
"الأونروا"، وبعد وقوع الحادثة، وعدت بتغطية بدل إيجار منزل لعائلة أبو خريبة، لكن بعد شهرين نكثت بوعدها، ليدفع رب العائلة بدل الإيجار لعامين آخرين، إلى حين إعادة إعمار منزله. اليوم، وبعد الإعمار، عادت التشققات تحتل جزءاً من سقف المنزل، كما تساقطت بعض الكتل الإسمنتية.
في مخيم البص بمدينة صور، بنى عبد الله الخليل منزله قُبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. بعد أشهر، كان الجنود الإسرائيليون يحاولون اقتحام المخيم. قاومهم عبد الله ورفيقاه، قُتل الرفيقان، وأصيب عبد الله بعدة رصاصات في معدته.
حمله مسعفون إلى مستشفى عامل في صور، ثم إلى صيدا فبيروت. المتفجرات التي استخدمها الاحتلال لنسف الملاجئ المحيطة بمنزله أضعفت أساساته كثيراً. وهي بالأصل شُيدت ليُقام عليها منزل واحد، لكن ما حصل أن منزلين آخرين جرى بناؤهما فوق منزله، أحدهما لأخته التي استُشهد زوجها في عملية حسن قصير (1985).
بدأت التصدّعات تظهر في جدران وسقف المنزل، فشكى لوكالة (الأونروا)، التي قال مهندسوها إن المنزل آيل للانهيار في أية لحظة. ومع ذلك، كان يتمّ بناء منازل أخرى أقل هشاشة.
مؤخراً، سقط جزء من السقف على قدمي ابنه حسن (17 عاماً) ما أدّى إلى كسور عديدة، دون تقديم مساعدة استشفائية من "الأونروا". ويقول عبد الله "إن انتظاره طال، رغم أن الجميع يعرف أحقيتي في أولوية إعادة الإعمار".
700 منزل مهدد
"المدن" التقت المهندس عادل سمارة، الذي عمل طويلاً، ومتطوعاً، في تقييم أوضاع المنازل في مخيم برج البراجنة، فيشير إلى أن المنازل في المخيمات "تندرج تحت مسمى مباني الفقراء، أي بدون تصميم وإشراف هندسي في مجالات التصميم الإنشائي، والتصميم المعماري، والمواد المستخدمة. وهذه كلها مجالات مترابطة ومتداخلة يؤثر أحدها على الآخر سلباً أو إيجاباً، بحيث يؤدي تطابقها وتكاملها إلى الحصول على المنزل المريح والآمن المتين".
يضيف "في المخيم تتحكم المساحات الضيقة والزواريب بطرق تحميل الأسقف والمسافات بين الأعمدة إن وجدت، وكذلك مساحة الأساسات وعمقها، ويحدد ذلك كله معلّم الباطون المقاول حسب خبرته وتقديره من دون الرجوع الى أية حسابات هندسية. وأيضاً تتأثر نسبة الإسمنت في الخلطات الخرسانية وقوة تحمل الباطون بالكلفة العالية لمواد البناء والإسمنت، والحديد تحديداً، بسب منع إدخال هذه المواد إلى المخيم من قبل الحواجز الأمنية اللبنانية".
كما يشير سمارة إلى أنه "غالباً ما يؤدي التمدد العامودي للمباني، بسبب المساحة الأفقية المحددة للمخيم، إلى زيادة الأحمال والأوزان على الأعمدة والأساسات التي لم تنشأ أصلاً إلاّ لحمل طابقين أو ثلاثة، على أبعد تقدير".
مصادر في وكالة "الأونروا"، أشارت لـ "المدن" إلى أنه يوجد في مخيم برج البراجنة حوالى 700 منزل آيل للسقوط، و"هذا خارج قدرة الأونروا على المعالجة إن لم تأتِ أموال من الدول المانحة". وفق السكان، هذا لا يُعفي الوكالة من مسؤولياتها، فرائحة الفساد في صفقات الإعمار، كانت تُشمّ من مسافات بعيدة. وإذا أُضيف الفساد، إلى قانون منع التملك (2001)، الذي منع الفلسطينيين من التملك خارج المخيمات، وحظر إدخال مواد البناء إلى أكثرية المخيمات، فستصبح المشكلة مركّبة، ونتائجها المباشرة حياة عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في "بيوت من ملح"
عام 1948 واجه الشاب عبد الرحيم حسين عصابات الهاغاناه، ببندقيته الفرنسية القديمة، عند حدود قريته شعب، لكن رصاصة خرجت بالخطأ من تلك البندقية أردته قتيلاً على الفور. بعد أربع سنوات وُلد أخوه طفلاً لاجئاً في لبنان. سمّوه عبد الرحيم تيمّناً بأخيه.
يوم الأحد 9 كانون الأول/2018، سقط سقف بيته عليه وهو نائم، في مخيم برج البراجنة. كانت عقارب الساعة تقارب الثانية والنصف صباحاً.
العالم المنسي
نهض الابن والبنت من نومهما مشدوهين، هما بالكاد تجاوزا العشرين من العمر، حاولا إزالة الكتل الإسمنتية عن جسده النحيل. الأنين المنبعث من تحت الركام، أعطاهما أملاً بأن حياة ما ستقوم من تحتها، استطاعا إخراجه، تحدث بصوت متقطع.،إنه حي رغم جسده المُدمى، هما متمسكان بحياته أكثر فأكثر، هو الأب والأم، بعد رحيل أمهما قبل أربع سنوات بعد أن اجتاح جسدها مرض السرطان، سمع الجيران الصوت، جاؤوا وحملوه إلى المستشفى، نصف ساعة أخرى، وغادر بعدها الحياة.
لم يُصب اللاجئ عبد الرحيم ببندقية فرنسية كأخيه، بل أصابته إجراءات تمنع إدخال مواد البناء إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، الأونروا وحدها تستطيع أن تفعل، وبصعوبة، إن توافرت مساعدات دولية، وتسهيلات من السلطات اللبنانية.
شكاوى عبد الرحيم المتكررة للأونروا حول وضع منزله، لم تلق الاستجابة المطلوبة، بل كان الجواب دائماً "ليس وضع منزلك من أولوياتنا في إعادة بناء المنازل الآيلة للسقوط"، كما يقول ابنه بشير لـ "المدن". قد يشبه هذا الرد عبارة شهيرة كان يسمعها أمثال المقاتل عبد الرحيم في وطنه من الضباط العرب حين يطلب منهم المساهمة في مده بالذخيرة "ماكو أوامر".
عبد الرحيم ليس استثناء في العالم المنسي في المخيمات الفلسطينية، فعلى بعد أمتار من منزله، كان جميل أبو خريبة ذات يوم يتناول الطعام برفقة زوجته وولديه، في إحدى غرفتي بيته، بالمخيم، عندما حلّت الكارثة. تحلّقوا جميعاً حول طاولة منخفضة، أو ما يُعرف بالطبليّة، لدقائق فقط، قبل أن يباغتهم سقوط جزء من سقف الغرفة. الغبار ملأ المكان، وكاد يحجب الرؤية تماماً. راح الأب يتفقد الزوجة والولدين، وهم يطمئنونه إلى أن لا مكروه أصابهم، الغبار ينقشع، فجأة، فزع يُصيب الولدين لرؤية عين أبيهما النازفة، رغم أن إصابته كانت بخلفية رأسه.
ركض الأب تجاه مستشفى حيفا، التي تبعد عشرات الأمتار عن بيته، سقط عند بابها مغشياً عليه، بالكاد استطاع الطاقم الطبي وقف النزيف، نُقل أبو خريبة إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وقْع الخبر كان صاعقاً، لا أمل في الرؤية مرة أخرى بعينه اليمنى، تنقّل بين اختصاصيي عيون كثر، لكن النتيجة السلبية كانت واحدة.
نكث الوعود
التشققات في سقف المنزل، أخذت تتّسع قبل عامين من وقوع الحادث، أبلغ أبو خريبة وقتها وكالة "الأونروا"، لكن عملية إعادة إعمار البيوت كانت تحابي الأكثر نفوذاً وسطوة في المخيم، كما يردد السكان، ويسوقون أمثلة كثيرة عن الفساد الذي شاب العملية.
"الأونروا"، وبعد وقوع الحادثة، وعدت بتغطية بدل إيجار منزل لعائلة أبو خريبة، لكن بعد شهرين نكثت بوعدها، ليدفع رب العائلة بدل الإيجار لعامين آخرين، إلى حين إعادة إعمار منزله. اليوم، وبعد الإعمار، عادت التشققات تحتل جزءاً من سقف المنزل، كما تساقطت بعض الكتل الإسمنتية.
في مخيم البص بمدينة صور، بنى عبد الله الخليل منزله قُبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. بعد أشهر، كان الجنود الإسرائيليون يحاولون اقتحام المخيم. قاومهم عبد الله ورفيقاه، قُتل الرفيقان، وأصيب عبد الله بعدة رصاصات في معدته.
حمله مسعفون إلى مستشفى عامل في صور، ثم إلى صيدا فبيروت. المتفجرات التي استخدمها الاحتلال لنسف الملاجئ المحيطة بمنزله أضعفت أساساته كثيراً. وهي بالأصل شُيدت ليُقام عليها منزل واحد، لكن ما حصل أن منزلين آخرين جرى بناؤهما فوق منزله، أحدهما لأخته التي استُشهد زوجها في عملية حسن قصير (1985).
بدأت التصدّعات تظهر في جدران وسقف المنزل، فشكى لوكالة (الأونروا)، التي قال مهندسوها إن المنزل آيل للانهيار في أية لحظة. ومع ذلك، كان يتمّ بناء منازل أخرى أقل هشاشة.
مؤخراً، سقط جزء من السقف على قدمي ابنه حسن (17 عاماً) ما أدّى إلى كسور عديدة، دون تقديم مساعدة استشفائية من "الأونروا". ويقول عبد الله "إن انتظاره طال، رغم أن الجميع يعرف أحقيتي في أولوية إعادة الإعمار".
700 منزل مهدد
"المدن" التقت المهندس عادل سمارة، الذي عمل طويلاً، ومتطوعاً، في تقييم أوضاع المنازل في مخيم برج البراجنة، فيشير إلى أن المنازل في المخيمات "تندرج تحت مسمى مباني الفقراء، أي بدون تصميم وإشراف هندسي في مجالات التصميم الإنشائي، والتصميم المعماري، والمواد المستخدمة. وهذه كلها مجالات مترابطة ومتداخلة يؤثر أحدها على الآخر سلباً أو إيجاباً، بحيث يؤدي تطابقها وتكاملها إلى الحصول على المنزل المريح والآمن المتين".
يضيف "في المخيم تتحكم المساحات الضيقة والزواريب بطرق تحميل الأسقف والمسافات بين الأعمدة إن وجدت، وكذلك مساحة الأساسات وعمقها، ويحدد ذلك كله معلّم الباطون المقاول حسب خبرته وتقديره من دون الرجوع الى أية حسابات هندسية. وأيضاً تتأثر نسبة الإسمنت في الخلطات الخرسانية وقوة تحمل الباطون بالكلفة العالية لمواد البناء والإسمنت، والحديد تحديداً، بسب منع إدخال هذه المواد إلى المخيم من قبل الحواجز الأمنية اللبنانية".
كما يشير سمارة إلى أنه "غالباً ما يؤدي التمدد العامودي للمباني، بسبب المساحة الأفقية المحددة للمخيم، إلى زيادة الأحمال والأوزان على الأعمدة والأساسات التي لم تنشأ أصلاً إلاّ لحمل طابقين أو ثلاثة، على أبعد تقدير".
مصادر في وكالة "الأونروا"، أشارت لـ "المدن" إلى أنه يوجد في مخيم برج البراجنة حوالى 700 منزل آيل للسقوط، و"هذا خارج قدرة الأونروا على المعالجة إن لم تأتِ أموال من الدول المانحة". وفق السكان، هذا لا يُعفي الوكالة من مسؤولياتها، فرائحة الفساد في صفقات الإعمار، كانت تُشمّ من مسافات بعيدة. وإذا أُضيف الفساد، إلى قانون منع التملك (2001)، الذي منع الفلسطينيين من التملك خارج المخيمات، وحظر إدخال مواد البناء إلى أكثرية المخيمات، فستصبح المشكلة مركّبة، ونتائجها المباشرة حياة عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في "بيوت من ملح"
عن موقع "المدن"