كميل داغر – كاتب وحقوقي لبناني

 

لم يكن ليتوقع غير قصيري النظر والواهمين، وذلك منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني، في العام 1948، أن تتعامل الانظمة العربية والطبقات المسيطرة، في منطقتنا، على اختلاف نماذجها وتنويعاتها، مع قضية الشعب الفلسطيني، وحقوقه في أرضه ووطنه، في مرحلة أولى، ومن ثم مع حقوقه الإنسانية، فيما بعد، حين أصبح الجزء الاكبر منه لاجئاً، من مواقع التضامن والإخلاص الحقيقيين.

 وذلك عائد بشكل أساسي إلى ما تمثله تلك الانظمة والطبقات من مصالح إجتماعية وإقتصادية وسياسية،لا تنسجم مع مصالح هذا الشعب وتطلعاته إلى حياة كريمة، قائمة على العدالة، قبل كل شيء، وبالتالي على قاعدة القيم البشرية الاساسية، ألا وهي قيم الحرية، والمساواة، والكرامة الإنسانية.

وهو تعاملٌ لعب دوراً أساسياً في ما عاشه هذا الشعب من ظلم، بوجه خاص، على امتداد معظم  حقبة القرن العشرين، وحتى ايامنا هذه، على الرغم من أن هذه الحقبة شهدت صعوداً عظيماً لنزعة التحرر عبر العالم بأسره، وانتصارات مدوية، مراراً كثيرة، لإرادة غالبية عظمى من الشعوب في انتزاع حقوقها وحرياتها من أيدي غاصبيها، بشتى الوسائل، ولا سيما عبر نضالات مريرة قاسية.

ومعبرة جداً هي علامات الاستفهام الكبيرة التي لازمت الدور الذي اضطلعت به تلك الأنظمة والحكومات، ولا سيما خلال ما بات يعرف بحرب فلسطين، في العام 1948، وما رافق دخول ما سمي جيش الإنقاذ، في ذلك العام إلى أرض فلسطين، بدعوى العمل على هزيمة المسعى الصهيوني لاغتصاب تلك الارض وتشريد سكانها الأصليين، من خيانات مدوية كانت نتيجتها وبالاً وكوارث مؤلمة إلى أبعد الحدود على هؤلاء، ومن بين أشدها خطورة، عدا نجاح الصهاينة الكبير في تحقيق أحلامهم التاريخية في إقامة دولتهم على ارض فلسطين، وإنزال هزيمة صارخة بالجيوش العربية، تحويلُ قسم اساسي من الشعب الفلسطيني إلى لاجئين، ولا سيما إلى البلدان العربية المجاورة لتلك الارض، ومن بينها لبنان.

 

اللاجئون الفلسطينيون في لبنان

كان اللاجئون الفلسطينيون يعتقدون، بناء على تطمينات الأنظمة نفسها التي شاركت في حرب فلسطين، وتلك المنضوية ضمن الجامعة العربية ككل، أن ذلك اللجوء لن يطول وأنهم سيعودون، في مدىً معقول، لا بل قصير للغاية، إلى أرضهم وبيوتهم في وطنهم التاريخي، مستبقين معهم مفاتيح تلك البيوت. ولكن الأنظمة التي "استضافت" أولئك المشردين كانت تعرف تماماً مقدار خطأ ذلك الاعتقاد وتلك القناعة.

 ولأجل ذلك، تعاملت مع هؤلاء، وإن بدرجات متفاوتة، على أساس أنهم يشكلون جسماً غريباً يستدعي الحذر والاستبعاد، ولا سيما فيما يتعلق بالدولة اللبنانية التي حشرتهم في مخيمات بائسة، وتحت سيطرة أجهزة أمنية كريهة، متعمدةً أن تحرمهم من أبسط الحقوق الإنسانية التي ضمنها لكل اللاجئين، من أي البلدان، ميثاقُ الأمم المتحدة للعام 1948، ثم ضمنتها كذلك المواثيق والعهود الدولية التي تلته، ووقعت عليها الحكومات اللبنانية المتعاقبة.

فعلى الرغم من أن موازين القوى الإقليمية والعالمية أتاحت صدور بروتوكول الدار البيضاء في 10 أيلول/سبتمبر من العام 1965، الذي بين ما ينص عليه ما يلي:

"1- مع الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية، يكون للفلسطينيين المقيمين حالياً في اراضي...الحق في العمل والاستخدام أسوة بالمواطنين.

2- يكون للفلسطينيين المقيمين حالياً في أراضي...ومتى اقتضت مصلحتهم ذلك، الحق في الخروج منها والعودة إليها.

3- يكون للفلسطينيين المقيمين في اراضي الدول العربية الأخرى الحق في الدخول إلى أراضي...والخروج منها متى اقتضت مصلحتهم ذلك. ولا يترتب على حقهم في الدخول الحق في الإقامة إلا للمدة المرخص لهم بها وللغرض الذي دخلوا من أجله، ما لم توافق السلطات المختصة على غير ذلك.

4- يمنح الفلسطينيون المقيمون حالياً في أراضي...وكذلك من كانوا يقيمون فيها وسافروا إلى المهاجر، متى رغبوا في ذلك وثائق صالحة لسفرهم، وعلى السلطات المختصة أينما وجدت صرف هذه الوثائق أو تجديدها بغير تأخير.

5- يعامل الحاصلون على هذه الوثيقة في أراضي دول الجامعة العربية معاملة رعايا دول الجامعة بشان التأشيرات والإقامة".

إلا ان الدولة اللبنانية تحفظت على المواد الثلاث الأولى، مضيفة عبارة "وبقدر ما تسمح به أحوال المواطنين اللبنانيين الإجتماعية والاقتصادية"، وعبارة "وذلك ضمن نطاق القوانين والأنظمة المرعية الإجراء". وفي المادة 3، أضافت: " ويشترط لدخول الاراضي اللبنانية الحصول مسبقاً على تصريح دخول من السلطات اللبنانية المختصة". وهو الأمر الذي يتيح لها التنصل من أبسط واجباتها في ضمان حقوق إنسانية أساسية للاجئين الفلسطينيين.

ونحن سنقتصر، في هذا النص، على الحديث، باقتضاب شديد، عن بعض الحريات والحقوق الأكثر جوهرية، ولا سيما حق العمل، وحرية التنقل، والسكن والملكية العقارية، والتظاهر، وانشاء الجمعيات.

أولاً- حق العمل

في الواقع، إن هذا الحق ممنوع ، عملياً، على فلسطينيي لبنان إلا ضمن حدود ضئيلة، على الرغم من مذكرة الوزير الأسبق للعمل طراد حمادة، بتاريخ 7-6- 2005، التي  أجازت للفلسطينيين المولودين على الأرض اللبنانية والمسجلين رسمياً في وزارة الداخلية العمل في المهن المختلفة. ولكن المذكرة جاءت جزئية للغاية، ولا سيما  أنها لا تتناول بخاصة العمل في المهن الحرة، كالمحاماة والهندسة والطب، كما انها لا تحمي العامل الفلسطيني من عسف أرباب العمل الذين يمكنهم أن يطردوه من دون أي رادع قانوني، عدا حرمانه من حقوقه في الضمان الاجتماعي والصحي، والإجازات، والتعويض، ولا سيما في حالات الصرف التعسفي.

وهو واقع يساهم، إلى أسباب اخرى عديدة، في جعل أعداد واسعة من اللاجئين يسافرون إلى المغتربات، وغالباً من دون ما رجعة.

ثانياً – حق أو حرية التنقل

وسنكتفي في هذا المجال بالحديث عن التنقل داخل البلد، حيث أن الدولة اللبنانية -  بعد أن كانت عمدت في إحدى الفترات التي تلت خروج منظمة التحرير الفلسطينية، بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان، في العام 1982، وصلت في اضطهادها للاجئين الفلسطينيين إلى حد الامتناع عن تزويدهم بجوازات سفر كاملة، مقتصرة على  إعطائهم وثائق تسمح بالسفر من دون  عودة – عادت عن هذا القرار خلال حكومة سليم الحص بين العامين 1998 و2000.

فمن الواضح أن حركة التنقل الداخلية باتت صعبة جداً بالنسبة لفلسطينيي لبنان، ولا سيما في ما يتعلق بحركة الدخول والخروج إلى مخيمات محاصرة بالوجود العسكري اللبناني. وذلك ليس فقط بخصوص مخيم نهر البارد، الذي تعرض للتدمير، في العام 2008 على يد الجيش اللبناني، وبات الدخول إليه والخروج منه يخضع لمزاجية الجنود والضباط الذين يسدون المداخل إليه، بل كذلك بخصوص مخيمات الجنوب، كالمية ومية وعين الحلوه. حتى إن الامور وصلت بالسلطات العسكرية المحلية  إلى حد بناء سور حول مخيم عين الحلوة، أكبر المخيمات الفلسطينية اللبنانية، حالياً، لا يصعب تشبيهه إلا بذلك الذي بنته "إسرائيل" حول الضفة الغربية في فلسطين المحتلة. وهكذا يصبح أحد أهم الحريات والحقوق الديمقراطية أثراً بعد عين، كما يقولون، بالنسبة لأناس ولدت غالبيتهم الكبرى في لبنان.

 

ثالثاً- حق السكن

على الرغم من أن المخيمات الفلسطينية بنيت في الأساس، حين كان تعداد قاطنيها لا يتجاوز واحداً على ثمانية من الفلسطينيين الباقين للآن على الأرض اللبنانية، وعلى الرغم من أن العديد من كبريات المخيمات تعرضت للدمار والإزالة من الوجود كلياً، خلال الحرب اللبنانية ، وجزئياً خلال الحروب على المخيمات التي تمت في أاواسط ثمانينات القرن الماضي، فالدولة اللبنانية تمنع بناء مخيمات بديلة، أو توسيع المخيمات القائمة(وحتى بناء أكواخ جديدة او حتى ترميمها،إلا لقاء ترخيص ليس بهذه السهولة من جانب مخابرات الجيش)، وتجعل حق السكن، بالنسبة للفلسطيني، وهو حق مقدس للإنسان، مسألة فيها نظر. أمرٌ يجعله أكثر مرارة وتضييقاً على حياة الناس المعنيين ما صدر عن الحكومة اللبنانية في أواسط تسعينيات القرن الماضي بخصوص منع التملك العقاري بالنسبة لفلسطينيي لبنان.

 

رابعاً – حق الملكية العقارية

بحسب القانون رقم 296 الصادر عن مجلس النواب اللبناني، في العام 2001، بات يستحيل على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أن يتملكوا عقاراً في لبنان، مهما كانت مساحته، وقد أجمع هذا المجلس، بذريعة منع التوطين، على إقرار هذا القانون الكريه، وشارك في اتخاذه والبصم عليه حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يناضلون لتصفية وجود الدولة الصهيونية، على رغم أنهم عادوا فقدموا طعناً به، أمام المجلس الدستوري، حين تم توجيه النقد الشديد إليهم، فيما هم يعلمون تماماً أن مصير طعنهم الإرسال لسلة المهملات.

 

خامساً – حق التظاهر

إن حق التظاهر، وهو أحد حقوق الرأي الأهم، ممنوع على الفلسطينيين في لبنان. حيث إنهم عاجزون عن تقديم علم وخبر بإرادتهم هذه، حين تكون لها أسبابها الموجبة، أسوة بالمواطنين اللبنانيين، بل عليهم انتظار أن يتوفر متطوعون لبنانيون يقدمون هم أنفسهم علماً وخبراً بتنظيم مظاهرة، بالنيابة عن المعنيين من الفلسطينيين، وهذا يعطي صورة عن مدى النفاق لدى الكثيرين من أنصار النظام القائم لدينا، حين يتغنون بدور لبنان في وضع واستصدار ميثاق الامم المتحدة، والميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

 

سادساً – حق إنشاء الجمعيات

إن شرط الحصول على علم وخبر بإنشاء جمعية يستدعي أن يكون 60% من أعضاء الهيئة التاسيسية للجمعية المطلوب تشريعها لبنانيين. وهذا يعني أن الفلسطينيين في لبنان محرومون من هذا الحق، كما من تأسيس أي هيئة جماعية تدافع عن حقوقهم، أو حقوق فئات من ضمنهم.

 

بمثابة خاتمة

هذه هي الصورة القاتمة للغاية لواقع حريات فلسطينيي لبنان وحقوقهم الإنسانية، هؤلاء الذين نكرر أن غالبيتهم الساحقة ولدت في لبنان، والبعض منهم وهم كثر، ولدوا فيه قبل عشرات السنين! علماً بان الشرائع العالمية ضمنت لأمثالهم، في معظم بلدان العالم، الحصول على جنسية البلد الذي يولدون فيه.

 في شتى الاحوال، وحتى إذا امتنعنا عن المطالبة بتجنيس هؤلاء، بحجة منع التوطين، ولكي نسحب الذريعة من كيان الاحتلال، في حال حصول ذلك، لرفض حق العودة للفلسطينيين إلى وطنهم التاريخي، فإن أبسط واجباتنا الإنسانية تقضي بالمطالبة بإعطاء كل فلسطينيي بلدنا كامل الحقوق والحريات التي نتمتع بها، باستثناء حق الترشح للمناصب السياسية.

وهذا ليس مجرد أمنية نعبر عنها بين الحين والاخر. إنه واجب نضالي يتطلب منا الكفاح المرير لإقراره، والحيلولة بالتالي دون دفع من تبقى من هؤلاء في لبنان، وقد بات عددهم دون المئة والسبعين ألفاً، وفقاً لإحصاءات الدولة اللبنانية نفسها، إلى الهجرة.
خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد