يحيى موسى – مخيم الشاطئ
 

تمد سجى (12 عاما) قدميها عند رأس شقيقتها سندس (8 سنوات) والأخرى تقوم بالعكس، ثماني بنات وولد يستخدمون هذه الطريقة كي يتسع المكان المسمى عنوة بيتًا لنومهم ولا تزيد مساحته عن 30 مترًا مربعًا، يتكرر هذا المشهد ما إن يحل المساء ويلقي بستاره الأسود على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة وتحديداً لدى عائلة اللاجئ باسم مرزوق (39 عامًا).

من مأساة الفقر وضيق العيش إلى مأساة الغربة داخل حدود فلسطين المحتلة يعيش مرزوق معاناة مركبة، فالمسافة للوصول إلى مسقط رأسه في "مخيم الأمعري" للاجئين الفلسطينيين في رام الله، احتاجت منه انتظاراً على مدار 20 سنة حتى اللحظة، ولم يصل بعد، وهو يبذل محاولات عدة للعودة إلى رام الله دون جدوى رغم أن المسافة بين غزة ورام الله تبلغ نحو 82 كيلو مترا مربعًا، لو أنه أراد الذهاب لأقصى نقطة في العالم لوصلها منذ زمن بعيد لكنه لم يصل إلى مخيم "الأمعري" بعد رغم مرور تلك السنوات.


الساعة الواحدة ظهرًا، بين أزقة مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، حطت أقدامنا أمام باب المنزل المغلق بستارة قماشية حتى يدخل بعض الهواء إليه.

بوجه طلق تعلوه ابتسامة مشرقة استقبلتنا سجى وأخوتها الصغار، ما إن تدخل المنزل ستجد أمامك صالة لا تزيد مساحتها عن أربعة أمتار مربعة فيها المطبخ وفيها يتم استقبال الضيوف وفيها ينام الأبناء بوضعيات متعاكسة حتى يجدوا مكاناً لأجسادهم الطرية.

 لا يمكن لمن يلج البيت الأراضي تحمُّلَ الرطوبة، حتى وإن كانت الأجواء باردة، وهذا ما أثر على صحة الأبناء هنا، فبعضهم يعاني من ضعف النظر.

مع انسحاب القرص المتوهج مختفياً وراء الأفق تغيب أحلام أفراد عائلة "مرزوق" لتتجدد مع إشراقة يوم جديد.

 يقفون على أطلال الأمل منتظرين حلمًا تأخر كثيرًا حتى باتوا في عداد "المنسيين" في قطاع غزة، يحلمون بالعودة إلى الضفة الغربية.

قد تعجز  الكثير من الكلمات أن تنطق بحروفها حكاية الألم التي كانت شاهدة على معاناة العائلة، في بيت  يشهد كل ركن فيه على فقر وشوق عمره عشرون عاماً.

اقترب مرزوق من طرق أبواب الأربعين من عمره، وهو يعيش تحت سقف بيت لا يستطيع توفير أدنى مقومات الحماية لعائلته من البرد، والحر ولا حتى استيعاب عدد أفراد الأسرة.
 

غربة ثانية

يخبر باسم مرزوق موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين: "جئت إلى زيارة عمتي التي تسكن في غزة قبل أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000م، ولكن بعدما اندلعت الانتفاضة وأغلقت المعابر، تزوجت من ابنة عمتي".

بعد عدة شهور أخرى بدأ يحاول مرزوق العودة إلى الضفة الغربية بتقديم طلب للاحتلال الإسرائيلي، الذي كان يوافق على خروجه وحده بدون زوجته، يكمل وهو يجلس على كرسي بلاستيك يحضر حديثنا بعض أفراد اللجان الشعبية الذين رافقونا في المقابلة وأطفاله الصغار: "كنت أريد الخروج مع زوجتي.. قدمت محاولة ثانية وثالثة".

يفرد كفيه بملامح وجه شاحبة، مردفًا: "كان الرد نفسه بالسماح لي فقط، حتى رفضنا الاحتلال بعد سنة ونصف ومنعني من العودة كذلك".

رغم أن الحياة بمخيم الشاطئ لا تختلف عن الحياة بمخيم الأمعري، من حيث شكل البناء والمساكن التي غالبيتها مبني من الاسبست والصفيح، إلا أنه ظل يصارع الشوق لرؤية والديه، فلم تغن كل وسائل الاتصال التي شاهد باسم والديه فيها عبر شبكة الانترنت عن لحظة عناق واحدة وحضن والدته.

تبرق عيناه بالدموع، بدت ملامحه حزينة حسرة على حاله: "لم أستطع رؤية والدي، كانت والدتي تمسك الهاتف المحمول وتقبل الهاتف من شدة شوقها لي، تمنت رؤيتي أمامها لو لمرة واحدة".

"حاولت مراراً وتكراراً الخروج من غزة لرؤيتها لكن استغرقت المسافة من غزة إلى رام الله عشرين عاما ولم أصل" .. يقول وهو يحاول تمالك نفسه بعدما دغدغ الموقف مشاعره: "توفيت أمي وأبي، ولم يسمح الاحتلال لي حتى بالمشاركة بتشييع جثمانيهما، شاهدت مراسم التشيع عبر الهاتف من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وكان هذا أصعب موقف".
 

قسوة حياة

كان على مرزوق الذي يعمل في مجال البناء، مواجهة قسوة الحياة والحصار في القطاع، كبر أبناؤه وأصبح لديه ثمان بنات وولد، ثلاث منهن في المرحلة الثانوية وخمسة بين المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وولد صغير (محمد) يعاني من مرض متعلق بالأعصاب ويحتاج لعلاج لا تستطيع العائلة توفير ثمنه.

"أتدري، مؤخرا حصلت على عمل لمدة ثلاثة أيام في البناء، بعدما أمضيت ثلاثة أشهر كاملة بدون أي دخل" .. حال مرزوق كحال كافة عمال البناء في غزة، يعملون أيام معدودة على فترات أشهر متباعدة نتيجة الحصار وصعوبة إدخال المواد الخام اللازمة لقطاع الإنشاءات.

"لا أخفي عليك نحن نعتمد على الشؤون الاجتماعية"، يقول.

يشير نحو الصالة الأمامية التي تنام بها بناته، يخرج تنهيدة ممزوجة بالحزن: "هنا تنام بناتي بشكل متعاكس، لدي ابنة في الثانوية العامة لا تستطيع الدراسة في أجواء هادئة، يضطررن لتوزيع أنفسهن على كافة مساحة المنزل الصغير حتى تستطيع كل واحدة منهم إيجاد مكان تدرس فيه، فتجلس واحدة بزاوية غرفة النوم، وأخرى عند الممر والبعض في الصالة".


لا يمكن تخيل كيف تتسع هذه الصالة الصغيرة التي لم تتسع حتى لإجراء المقابلة الصحفية، لأحد عشر فرداً حينما يجلسون لتناول طعام الغداء،  يشع في عينيه بريق وصوت خافت مسكون بمعاناة الماضي يتجه بنظره نحو سقف المنزل: "المنزل غير صحي، حتى كيس الطحين يصاب بالعفن بعد عدة شهور من استلام الكابون من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا".

يتحول نظره وصوته نحو الباب: "نضطر لإبقاء الباب مفتوحاً مع تغطية الباب بستارة قماشية، لا نستطيع الوجود في منطقة واحدة سواء اثناء الدراسة أو الأكل".

حتى هذا المكان لم يستطع لم شمل مرزوق وأبنائه، على مدار الوقت يضطرون للانتشار حتى يكفي البيت الصغير لاحتواء عددهم الكبير.

وما إن تشرق أشعة الشمس، يأتي كل فرد من الأبناء إلى والدهم يطلب مصروفه، يكمل بملامح وجه حزين: "هذا أصعب موقف أمر به يوميا، أبنائي يطلبون مصروفهم ولا أستطيع تلبية أبسط شيء لهم نتيجة الظروف وعدم وجود فرصة عمل"، اليوم الذي زرنا فيه هذه العائلة ذهب الأبناء إلى المدرسة بدون مصروفهم.

هل ذهبت المدرسة اليوم بصروف؟ وجهنا السؤال لسجى، ما أن سمعت السؤال كتمت دموعها وردت: "ذهبت اليوم دون مصروف (..) أشعر بالحزن عندما أرى زميلاتي معهم الطعام والمصروف".

ورغم مرور عشرين عاما لوجوده في غزة لا زال الحنين إلى "الأمعري" يشد مرزوق كل يوم، ولا يخفي ما يشعر به: "أمنيتي العودة إلى الضفة، رغم المعاملة الحسنة التي أتلقاها في غزة، لكن هناك تربيت وهناك يوجد أخوتي، رغم صعوبة ذلك فسهل علي أن أسافر إلى أمريكا على أن أعود إلى رام الله بسبب إجراءات الاحتلال المعقدة التي تحول بيني وبين عودتي".
 

شاهد الفيديو 

 
خاص

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد