تشكل بيانات الفصائل الفلسطينية ظاهرة فريدة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من ناحية الفكر السائد والعبارات المستخدمة والمكررة عند أي حدث أو تطور في القضية الفلسطينية، حيث تكتب بطريقة خطاب ينبغي قراءته بغية إثارة حماس الجماهير، وليس الهدف منه إبراز الموقف من الحدث والتطور والرد عليه وطرق مواجهته، وإلا لما استخدمت بشكل ثابت عبارة "يا جماهير شعبنا العظيم" عند بداية أي بيان يرجو شحن همم الفلسطينيين ورفع حماسهم ومعنوياتهم فالحدث دائماً جلل والأمر خطير، يتطلب على الدوام التعبئة والتحريض، على الطريقة السوفيتية، ولكن للأسف غالباً ما تنتهي هذه البيانات المثيرة للحماس دون مفاعيل عملية تحقق طموح الجماهير التي تحمست.
تلجأ الأحزاب عموماً إلى الخطابات في المهرجانات بهدف مخاطبة جماهيرها بلغة مبسطة أقرب إلى عواطفها لجمع أكبر عدد من الناس حولها، بيد أن بيانات الفصائل هي خطابات إنشائية مكتوبة لا مقروءة، لا جديد فيها سوى اختلاف المناسبة أو الحدث، ومع ذلك هناك إصرار على استخدام لغة وعبارات تصلح للمهرجانات، في مواقفهم لا تقدم ولا تؤخر على صعيد القضية الأساس والأهم، حيث لا وجهة نظر أو رؤية جديدة، سوى قوالب جامدة من العبارات الثابتة، رغم أن مرارة الواقع الفلسطيني بحاجة إلى فكر جديد يراعي خصوصية المراحل المأساوية التي نمر بها، وليس إلى فكر معلب.
من العبارات شبه الثابتة في أدبيات الفصائل وبياناتها أيضاً عبارة "هذا ما يثبت صحة خياراتنا وصوابية موقفنا"، و"هذا لا يزيدنا إلا تمسكاً بموقفنا"، - أي موقف؟ لا بد أنه النظري لا العملي إذ إننا لم نلمسه يوماً- هي عبارات العناد والمكابرة، فمواقف وأدبيات الفصائل هنا لا تعبر سوى عن جمود فكري لا ينبغي أن يحيد أو يتطور أو يتغير، عما يكتب في البيان أو النشرات التنظيمية التي تفسر المفسر.
ولأن قادة غالبية الفصائل الفلسطينية من خلفية عسكرية، يفترضون أن هذا النوع من الكتابة للبيانات سيزيد من التفاف الجماهير حولهم، فهو أشبه بما يتلفظ به الضابط أو قائد الكتيبة العسكرية لجنوده قبيل الذهاب إلى المعركة التي سيلتحمون فيها وجهاً لوجه مع العدو، أو من يرتدي البزة العسكرية ويتلو بيان دق ساعة الصفر الذي سيشد عصب المواطنين، إلا أن الأمر في واقعنا الفصائلي لا يتعدى كونه نصاً مكتوباً غير متبوع بخطوات تنفيذية، لا يسمن ولا يغني من جوع، ومع مرور الوقت وتزايد هذه البيانات ذاتها بات لا الشعب يقرؤها، ولا حتى غالبية أعضاء التنظيم، فالعبارات ذاتها طنانة رنانة، مكررة لا جديد فيها، سوى اختلاف المناسبات.
من الجمل اللازمة لأي بيان التأكيد على "ضرورة حشد الجهود وتعبئة الطاقات لمعركة الأمة، وكأن الجماهير تستمع لإعلان الحرب، ستذهب بعد قراءة البيان إلى مراكز توزيع السلاح، لتنطلق إلى أرض المعركة للانتهاء من الاحتلال بمعركة واحدة يتحدد فيها مصيرنا إما بالنصر أو الهزيمة، كأنهم يعتقدون أن جموع الشعب تنتظر بيانهم العظيم، وواقع الحال يشير إلى يأس الشعب الفلسطيني من هذا السلوك المكرر.
لا شك أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي معقد ويتطلب نضالا ًطويلاً، لم تعد معه البيانات تجدي نفعاً، فمع استخدام هذه العبارات وتكرار هذه البيانات والشعارات من مناسبة إلى أخرى ومن هزيمة إلى أخرى للأسف، دون فعل نضالي حقيقي وملموس، صار يخشى أن يتفرغ الصراع من مضمونه، حيث في الغالب أضحت هكذا بيانات تولد الإحباط وتضعف الروح الكفاحية، على عكس هدفها الإعلامي، فما الجدوى من هذا الكم الهائل من العبارات الحماسية والخطابية، دون وجود فعل نضالي على أرض الواقع قادر على المواجهة وإعادة الحقوق القلسطينية.
ومن المفارقات المؤلمة، هو تهافت الفصائل الفلسطينية على تبني عمليات مقاومة قد تكون فردية، فقط لأن منفذها انتمى إلى هذا التنظيم يوماً ما، وتهافتها على تبني أكبر عدد من الشهداء وإصرارها في بياناتها المكررة التعبير عن "استعداد شعبنا للتضحية" فهي تنظر للجماهير على أنها مشاريع تضحية، ولا مانع من ذلك إن كان لديهم خططاً ورؤى للمقاومة، وإن كانوا قادرين على حماية حقوق الشعب الذين يدّعون تمثيله والدفاع عنه، فيما الواقع على الأرض يشير أن جل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات يتيم سياسياً، لا جهة قادرة على تحصيل حقوقه سواء في دول اللجوء أو داخل فلسطين المحتلة، أما أن يعتبروا هذا الشعب كبش محرقة لأفكارهم النظرية دون أن يقدموا أدنى مجهود لحماية كرامته وصون حقوقه، فهذا غير المقبول، والذي لم يعد أغلب الشعب الفلسطيني يقبله.
لا ريب أن فلسطين هي قضية الأرض والإنسان، ومن واجب كل فلسطيني التضحية من أجلها، ولكن لأجلها هي فقط ولأجل حقوق شعب ما يزال يذوق الأمرين جراء الاحتلال واللجوء و تكالب الأنظمة العربية والغربية ضده، وليس كرمى لفصائل همها أن تختزل هذه التضحية في ملصق على الحائط يحمل شعار التنظيم، واسم للشهيد يُكرر في كل مناسبة لجذب المزيد من الأعضاء والمناصرين، أو للمزاودة على بعضهم بفعل تضحية لم يقوموا به بأنفسهم، دون أن يعملوا لاستثمار تجربة الشهيد والبناء عليها في مشروع مقاوم حقيقي.
وما عبارة "هرب ابني عالفدائية" التي رددها الآباء سابقاً عند انضمام أبنائهم للفصائل إلا خير دليل على ذلك، فهم شبه متأكدين من استشهاد أبنائهم بغارات طيران أو بمعارك دون حصولهم على تدريب عسكري وتجهيز كافيين.
بعد كثير من التجارب التي خبرها الفلسطينيون طيلة سبعة عقود شكلت إطاراً زمنياً لخيباتهم الوطنية، أضحت البيانات حبيسة الداوئر التنظيمية، ولم تشكل فكراً قادراً على جذب الفلسطينيين إليها، بل ولّدت حالة تململ منها وعزوف عنها، لأنها فعلياً لم تخلق حالة ثورية نضالية قادرة على الاستمرار وكسب انتصارات إضافية، بل بقي مفهومها للنضال متكلساً معبراً عن حال الفصائل ربما عن قصد أو غير قصد، وما يفسر ذلك هو أن التنظيمات الفلسطينية صارت ربما ساحة للاسترازق، والاسترزاق نقيض النضال الحقيقي الذي يأمل جل الشعب الفلسطيني بوجوده والانخراط فيه وفق آليات منظمة ووطنية ، ولا يجده في تنظيمات وفصائل تدّعي تمثيله.