يحسد كثيرون غزّة على بحرِها، كمتنفسٍ جميلٍ وحيدٍ لهذا القطاع المُحاصر "إسرائيلياً" منذ أكثر من 14 عاماً على التوالي، ولكنّهم لا يدرون أنّ البحر في أغلب الأوقات يكون ساحة حربٍ بمعنى الكلمة، إذ يبطش جيش الاحتلال عبر سلاح بحريته بالصيادين الفلسطينيين وشباكهم ليل نهار، ويُحاربهم في قوت أطفالهم.
في كل صباح، يتوجّه الصيّاد الفلسطيني أحمد أبو عمرة نحو البحر في غزة "قاصداً وجه الكريم" كما يُقال في المثل الشعبي لكسب رزقه، إذ يمتهن الصيد منذ 20 عاماً، ولكنّه لا يعلم ما الذي ينتظره على بعد أميالٍ داخل البحر وسط أجواء خوفٍ وقلق، فالصيادون هنا عرضة لانتهاكات الاحتلال في أي وقت.
"حياتنا كصيادين تعيسة بفعل الاحتلال"
الصيّاد أبو عمرة لاجئ فلسطيني من مدينة بئر السبع المحتلة، يوضح لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، كيف تسير حياته بشكلٍ يومي في بحر غزة أثناء سعيه لكسب الرزق، يقول: "بتسرح من هان وبتغرّب عشان ترمي الغزِل -نصِب شباك الصيد داخل البحر-ويأتي الطرّاد -زوارق الاحتلال الحربية- يقول لك أنت في منطقة ممنوع فيها الصيد ويأخذ الحسكة (قارب الصيد) وبيروح فيها على اسرائيل -الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948- تذهب الحسكة ويذهب الغزل ويذهب كل شيء، وحياتنا فعلاً تعيسة بسبب الطرادات الإسرائيلية، فلا أحد يستطيع أن يعيش حياته بهذا الشكل".
ولطالما ركّز الاحتلال على السماح للصيّادين بالصيد في مساحة ضيقة من الأميال البحرية ليحرمهم من صيد أنواعٍ جديدة من الأسماك أو كميات وفيرة، يُؤكّد الصيّاد أبو عمرة ذلك لموقعنا، ويُتابع: "هنا على الشاطئ لا يوجد سمك، السمك يعيش في العمق، ولما بتغرّب (التوجّه غرباً داخل البحر) يأتيك الطراد ويقول لك "أنت في الممنوع" ويأخذك أنت والحسكة على "إسرائيل" يحجزونك وتذهب حسكتك ومالك وكل شيء ولا تستفيد من أي شيء".
الغالبية العظمى من الصيادين في غزة لاجئون
الصيّاد أبو عمرة هو واحدٌ من آلاف الصيّادين المعرضين يومياً، للخطر بفعل الاعتداءات الصهيونية التي لا تنتهي، في حين أنّ معظم هؤلاء الصيادين هم اللاجئين الفلسطينيين، كون ثلثا سكّان قطاع غزّة من اللاجئين الفلسطينيين.
يؤكد نقيب الصيادين في غزة نزار عياش الانتهاكات المُمارسة من قبل الاحتلال منذ سنوات أو منذ بداية الاحتلال الأوّل من عام 1967 حتى هذه اللحظة.
آلاف العائلات تعتاش من البحر
يوضح عياش لموقعنا "هذه الانتهاكات تزايدت تدريجياً حسب السياسة الموجودة على أرض الواقع، فتتمثل في إغلاق وتضييق مساحات الصيد، وكانت في الأول 20 ميلاً بحرياً وما يزيد عن ذلك، ثم تم تقليصها، وفي كل عام يتم تقليصها أكثر من مرة لـ3 أميال و6 أميال وأحياناً إغلاق كامل".
ويضيف أنّ "هناك حوالي 4 آلاف صياد – ألف قارب- طبعاً نتكلّم عن 4 آلاف صياد يعني 50 ألف نسمة يعتاشون من هذه المهنة، ويشاركون أيضاً في الأمن الاقتصادي الفلسطيني للمجتمع سواء في الضفة أو في قطاع غزة".
الصيادون يعملون تحت إطلاق النار
لكن هؤلاء الصيادين يعملون تحت إطلاق نار مستمر عليهم عند وجودهم في البحر ويتم إجبارهم على ترك أماكن عملهم، وأحياناً يفقدون شبكهم داخل البحر، ويتم تسجيل إصابات وحالات استشهاد في صفوفهم أحياناً، كما يتم إغراق مراكبهم ومصادرة أخرى.
هذا جزء من الانتهاكات التي عرضها عياش، مشيراً إلى أنّ "الاحتلال عندما يصادر المراكب والمعدات يعني فعلياً يُفقِد الأسرة مصدر الرزق الوحيد لها، وفي المقابل لا يدخل أو لا يسمح بدخول عبر المعابر الإسرائيلية مواد كثيرة تخص الصيادين، وكأنه يريد من الاعتقال والمصادرة ومنع مستلزمات الصيد تفريغ البحر من الصيادين".
طبقة الصيادين تعيش فقراً مدقعاً
كما أشار عيّاش إلى أنّ "مهنة الصيد من أكبر المهن وتُعد المهنة الثانية بعد مهنة الزراعة على الساحة الفلسطينية وتُعيل أكثر من 50 ألف فلسطيني، نحو ثلثهم لاجئون، وتقديم الغذاء للمجتمع الفلسطيني"، مُبيناً أنّ "المواد التي يمنع الاحتلال دخولها إلى قطاع غزّة، منها مادة الفيبر جلاس التي تُصنّع منها القوارب وتُرمّم منها أيضاً، وهذا المنع أعاق مشاريع كثيرة، حتى إنّ توفّرت المادة من هُنا أو هناك فيكون ثمنها أعلى بكثير من الثمن الحقيقي".
ويضيف: "هناك أيضاً منع دخول لكل المواد الثقيلة تقريباً مثل الكوابل وقطع الغيار، وهذا يزيد من أزمات طبقة الصيادين التي تعيش فقراً مدقعاً نتيجة للضيق الذي يُمارسه الاحتلال الصهيوني".
تقارير حول الاعتداءات لا تؤتي أكلها
كما أكَّد عيّاش أنّ "النقابة ووزارة الزراعة وبعض الجهات الأخرى تقوم بكل جهدها في رفع التقارير للأمم المتحدة والمراكز الحقوقية والصليب الأحمر الدولي ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" ولكل الوفود الأجنبية التي تأتي إلى غزّة من أجل اطلاعهم على كافة انتهاكات الاحتلال الصهيوني بحق طبقة الصيادين"، مُشدداً أنّ "إسرائيل تتصرّف وأنّها فوق القانون الدولي ولا تُقيم أي اعتبار لأحد".
وتابع عيّاش حديثه حول انعكاسات أزمة جائحة "كورونا" على قطاع الصيادين، إذ قال: "صحيح أنّ الصيّاد الفلسطيني لم يتوقّف عمله في مهنة الصيد لكنّه إذا احتك بجنود بحرية الاحتلال، حين يتعرض لأي اعتداء يفرض عليه الحجر الصحي، إضافة إلى ذلك لا يُصدّر السمك إلى الخارج في ظل حالة إغلاق المعابر بفعل الجائحة، وهذا بالتأكيد أدى إلى انخفاض أسعار الأسماك بشكلٍ كبير، وفي المقابل تنخفض نسبة الشراء من قِبل السكّان في ظل توقّف الأعمال وزيادة نسب البطالة، وبذلك يكون المردود المادي للصياد ولأسرته بسيط جداً".
يُشار إلى أنّ قوات الاحتلال الصهيوني أغلقت صباح يوم 16 آب/ أغسطس الجاري، بحر قطاع غزة بشكلٍ كلي أمام الصيادين، بذريعة إطلاق البالونات الحارقة باتجاه المستوطنات المحاذية للقطاع، إذ أعلن منسق أعمال حكومة الاحتلال تقليص مسافة الصيد إلى الصفر، وإغلاقها بالكامل بشكلٍ فوري وحتى إشعارٍ آخر.
عقابٌ جماعي
من جهته رأى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في بيانٍ له في حينه، أنّ "قرار إغلاق البحر كلياً وحرمان الصيادين من ممارسة عملهم ينذر بمزيدٍ من التدهور على الظروف المعيشية لـ 4.160 صياد، و700 شخص من العاملين في مهن مرتبطة بصيد الأسماك، ويعيل هؤلاء نحو 27.700 شخصاً من أفراد أُسرهم".
وذكر المركز أنّ "هؤلاء الصيادين يعانون أصلاً، وقبل قرار التقليص الأخير، من عدم قدرتهم على ممارسة عملهم بحرية في المنطقة المسموح لهم بالإبحار فيها نتيجة اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي المتكررة، وحظر توريد المعدات والتجهيزات اللازمة للصيادين، وجرّاء ذلك أصبح مئات الصيادين عاجزين عن توفير الاحتياجات الأساسية لأفراد أُسرهم، كالطعام والدواء والملابس والتعليم".
"إغلاق البحر عمل انتقامي ضد المدنيين الفلسطينيين"
وأكَّد أنّه "من شأن القرارات الإسرائيلية المتلاحقة الخاصة بتشديد الحصار تعميق الأزمات الإنسانية والمعيشية في قطاع غزة، لا سيما رفع نسبة البطالة وانتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي، ويعاني سكان القطاع قبل فرض تلك الإجراءات ارتفاعاً خطيراً في معدلات البطالة، حيث بلغت 46%، وبواقع 211.300 عامل عاطلين عن العمل، وترتفع في أوساط الشباب لتصل إلى 63%، كما يُعاني أكثر من نصف سكان القطاع من الفقر، إذ تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أنّ نسبة انتشار الفقر بين سكان القطاع تبلغ 53%، ويصنف أكثر من 62.2% من سكان القطاع غير آمنين غذائياً وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية".
وشدّد المركز على أنّ "هذه القرارات تندرج في إطار سياسة الحصار الشامل والعقاب الجماعي غير الإنساني وغير القانوني الذي تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ يونيو 2007"، مُؤكداً أنّ "قرار إغلاق البحر أمام الصيادين بشكلٍ كامل يمثل شكلاً من أشكال العقوبات الجماعية وأعمال الانتقام التي تقترفها قوات الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين".
شاهد التقرير