منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982، ودخول المخيمات الفلسطينية في هذا البلد إلى مايشبه حالة الحصار الخانق، بدأت المؤسسات الاجتماعية الفلسطينية فيها بالانهيار، وزاد من حدة عزلة المخيمات توقيع اتفاق أسلو عام 1993ـ، وغياب الاهتمام باللاجئين الفلسطينيين عن أجندة السلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى تجييش سياسي وإعلامي من بعض الأطراف اللبنانية ضدها، ما جعل المخيمات بيئة خصبة للفوضى، وانتشار عدد من الآفات الاجتماعية.
واستمرت الحال هذه عقوداً، لتخلق بين الفينة والأخرى انتشاراً لسلاح غير مضبوط، واشتباكات وإطلاق نار.
وضع يلقي بظلاله على تنشئة الأطفال الفلسطينيين اللاجئين، حيث تؤكد جمعيات ومنظمات دولية ومحلية معنية بحقوق الطفل، أن الأطفال الفلسطينيين في لبنان، هم الأكثر عرضة للمعاناة والحرمان والفقر، ويتعرضون للقهر والتجهيل والتخويف والقلق نظراً للظروف العامة التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني في لبنان، ونظرا لعدم الاستقرار النفسي الذي تتعرض لها الأسرة الفلسطينية، والقلق الأمني الذي يسيطر على المخيمات الفلسطينية بسبب إطلاق النار في الهواء في منتصف الليل وخلال ساعات النهار، والاشتباكات بين جهات مختلفة داخل المخيمات.
أونروا: 30% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أطفال لا يعيشون ظروفاً عادية.
وتشير التقارير الصادرة عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" إلى أن عدد الأطفال الفلسطينيين اللاجئين في لبنان يبلغ أكثر من 60 ألف طفل، بما نسبته أكثر من 30 بالمئة من عدد اللاجئين الفلسطينيين، إلا أن هؤلاء الأطفال لا يعيشون ظروفاً حياتيه عادية كباقي أطفال العالم، وقد تعرضوا للموت والقتل خلال سنوات الحرب والاجتياحات والمجازر، ويتعرضون اليوم للحرمان والقهر والخوف والفقر.
ويؤكد الأخصائيون والمراقبون أن أكثر ما يتعرض له الأطفال الفلسطينيون داخل مخيماتهم في لبنان، هو فوضى السلاح وعمليات إطلاق النار العبثي والاشتباكات التي تندلع بين لحظة وأخرى، في الأزقة ووسط مساكن المدنيين .
"الأزقة الخطرة ملجأ أطفال لا تطال بيوتهم الشمس والهواء".
موقع "بوابة اللاجئين الفلسطينين" جال داخل عدد من المخيمات الفلسطينية، حيث البؤس والكثير من مشاهد الألم، وما يلفت النظر مشهد الأطفال الذين يلعبون في أزقة تتداخل فيها مساكن متلاصقة يظهر على بعضها آثار الرصاص وتتشابك فيها أشرطة الكهرباء وسط روائح كريهة ولعل هؤلاء الأطفال يلجؤون إلى تلك "الأزقة الضيقة" هرباً من منازل لا يدخلها أحيانا الهواء ونور الشمس وفقاً لما ذكرته لنا عدد من الأمهات الفلسطينيات.
داخل مخيم شاتيلا قرب بيروت، حيث آثار الاشتباكات وطلقات الرصاص مازالت على جدران المنازل والمدارس بعد أن شهد المخيم خلال السنوات الماضية اشتباكات عنيفة بين مسلحين على خلفية تجارة المخدرات، التقيناً عدداً من الأطفال والأمهات في المخيم.
"كنت أصرخ وأتمنى من الله وقفاً فورياً لإطلاق النار".
(رامي) طفل لم يتجاوز 12 عاما أكد أن الاشتباكات في المخيم تثير الرعب في نفوس الأطفال، وقال: "خلال الاشتباكات الأخيرة كنا خائفين ، كانت لحظات مرعبة، شعرنا أن الموت يجتاحنا وأصوات القذائف والرصاص تطغى على كل شيء، كنت أصرخ وأتمنى من الله وقفاً فورياً لإطلاق النار" .
فيما يقول الطفل (سامر) 12 عاما، "شعرت بالخوف والرعب خلال الاشتباكات الأخيرة تنقلنا بين زوايا منزلنا حتى نحمي أنفسنا من الرصاص والقذائف، حملتنا أمي وتنقلت بنا لتحمينا، كنا نبكي ونصرخ ونطلب من الله أن يحمينا" متابعاً: "أصيب منزلنا بقذيفة، شعرت باهتزاز البيت كأننا في زلزال، أنا أكره الحرب وأكره الرصاص"
بينما الحاجة (أم محمد) وهي لاجئة فلسطينية أم لثلاثة أطفال، تقول والحسرة تسيطر عليها: "أنا لا أخاف على نفسي، أخاف على أطفالي الذين يعيشون الرعب والخوف والهلع، بسبب إطلاق النار والاشتباكات العشوائية التي يشهدها المخيم"، وناشدت المسؤولين الفلسطينيين بالعمل بشكل جاد وفاعل لوضع حد للاشتباكات وإخراج تجار المخدرات وعدم السماح لوجود مسلحين بين الأحياء السكنية .
وأضافت الحاجة (أم محمد): يصاب الأطفال داخل المخيمات بأمراض نفسية نتيجة إطلاق النار بالهواء خلال ساعات منتصف الليل، وأحيانا جسدية نتيجة إصابتهم برصاص الاشتباكات.
هذه الحال تنسحب على كافة الأطفال في مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان ، فهو مشهد موحد عنوانه "طفولة معذبة" و"قلق قابع في النفوس"، وفي جولتنا كان طفل فلسطيني يبلغ من العمر حوالي عشر سنوات يقف عند مدخل منزله في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة صيدا اللبنانية، تسيطر عليه ملامح البؤس، وقد رفض الكلام معنا ولعل ذلك شاهد على ما يتعرض له الطفل من أزمات نفسية وجسدية كادت أن تدمر بنيته كطفل لم يستقبل سنوات عمره كباقي أطفال العالم .
"عدد كبير من الأطفال يتردد ويتلعثم أثناء الكلام".
وتوضح الدكتورة رولا شحادة الباحثة الاجتماعية الفلسطينية في مخيم عين الحلوة، أن إطلاق النار أمر يتكرر دخل المخيمات، مشيرة إلى أن أسبابه تختلف، وتعود إلى وقوع اشتباكات بين الفصائل والتيارات السياسية، إلى جانب اشتباكات على خلفية عائلية وعشائرية، والأسوأ كما قالت وقوع اشتباكات تندلع بين تجار المخدرات أنفسهم أو بين تجار المخدرات والفصائل الفلسطينية.
تشير الدكتورة سعاد الخطيب المتخصصة في علم النفس أن إطلاق النار العشوائي والاشتباكات المسلحة التي تندلع بين الفترة والأخرى داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين واحدة من أخطر ما يتعرض له الطفل. وتضيف "خلال عمليات استطلاع ومقابلات مع الأطفال الفلسطينيين داخل المخيمات، أن عدداً كبيراً منهم يتردد عند الكلام ويتلعثم وتبدو عليه حالة الخوف والإرباك، وهذا ما بدا واضحاً على أطفال مخيمات عين الحلوة وشاتيلا وبرج البراجنة والرشيدية".
وأكدت أن سبب ذلك هو الخوف والقلق الليلي بسبب عمليات إطلاق النار التي تصيب الأطفال بالهلع، لأنها تحصل بين المنازل وداخل الأحياء والشوارع العامة.
وتكشف عن أن عدداً كبيراً من الأطفال في مخيم عين الحلوة والمية ومية وأيضا شاتيلا مصابون بالتبول اللا إداري ليلا رغم أن عمرهم تجاوز 10 سنوات، محذرة من استمرار وضع الأطفال الفلسطينيين في لبنان على حاله.
"واقع سيؤدي إلى نشوء جيل فاقد للانتماء والوعي والثقافة".
وأضافت أن هذا الواقع سيؤدي إلى نتائج كارثية في المستقبل لا يمكن تحديد ملامحها اليوم، لكنها حتماً كارثية لأنها ستوصل إلى جيل فاقد للانتماء والوعي والثقافة، مايؤدي غالباً إلى تصاعد الجريمة والمخدرات والهجرة غير الشرعية و”السادية”.
واعتبر المدير العام لبيت "أطفال الصمود" قاسم العينا، أن إطلاق النار والاشتباكات المسلحة من أخطر الظواهر التي تهدد حياة الأطفال داخل مخيماتهم ، وأعرب عن أسفه الشديد لأن الأطفال والفتيان الفلسطينيين في لبنان يعيشون هكذا ظروف صعبة، ويتعرضون من حين لآخر لرصاص عشوائي، ما يجعلهم يعيشون حالة رعب، وهذا بدوره كما يضيف، يجعل الأطفال يتأثرون نفسياً، لذلك عدد من الأطفال يعانون من اضطرابات نفسية ويصابون بالاهتزاز والإرباك والتخلف العقلي وتخلف في الدراسة والمستوى التعليمي وتراجع المستوى التربوي، وهذه نتيجة طبيعة للظروف الأمنية والفوضى المسلحة إلى جانب مأساتهم وحرمانهم ونكبتهم.
لا تختلف آراء المتخصصين والمطلعين على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حول تأثير فوضى السلاح على الأطفال، بل وذهبت الآراء إلى التحذير من استمرار هذه الحالة والمستقبل الأكثر مأساوية الذي ينتظر الأجيال الفلسطينية الصاعدة إذا لم يسرع المعنيون لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة.
ويبقى السؤال هل تستطيع الفصائل الفلسطينية بالتعاون مع السلطات اللبنانية العمل من أجل تحسين ظروف اللاجئين الفلسطينيين، وتكثيف الجهود حفاظاً على أمن المخيمات وسكانها، وخاصة الأطفال الذين يعتبرون جيل المستقبل، والأمل في تحقيق ما عجز عنه أسلافهم من السياسيين؟.