اعتادت العائلات الفلسطينية في سوريا كما الأسر السوريّة في كل عام، على تخزين أصناف من المواد الغذائيّة الموسميّة، سواء بشكلها الخام، أم بشكّل مصنّع منزليّاً، فلا تخلوا ثلاجات العائلات من أصناف الخضار الموسميّة، التي تنخفض أسعارها في موسم وفرتها، ليجري تجميدها وتخزينها بكميات كبيرة، واستهلاكها على مدار السنة، إضافة إلى الأطعمة التي يجري تصنيعها منزليّاً كـ "المكدوس" والمربيّات و"كرات اللبنة" والزيتون والمخللات وإلى ما هنالك من مواد وأطعمة تعرف بـ" المونة المنزلية".
فلسطينيو مخيّم درعا وعموم الفلسطينيين في جنوب سوريا، الذين اعتادوا خلال تاريخهم، على توسعة أصناف مونتهم المنزليّة، كأهالي وادي حوران حيث الوفرة الزراعيّة التي يتشاركونها مع أهالي المنطقة، وطالما كانت بالنسبة للكثير من العائلات ذات الدخل المحدود، ضماناً لأمنهم الغذائي في أوقات الأزمات الماليّة العائليّة، الّا أنّ فقدانها صار عنواناً فاقعاً لإنعدام ذلك الأمن بشكل تام، ما يعكس حجم الانهيار المعيشي الذي أوصل السكّان إلى حافة الجوع.
مراسل "بوابة اللاجئين الفلسطنيين" في درعا، رصد الواقع الغذائي لأهالي مخيّم اللاجئين الفلسطينيين هناك، في ظل الارتفاع الهائل في الأسعار الذي تراوح بين 400 إلى 500 % لمعظم الأصناف الغذائيّة، ما حرم المنازل من مونتها، التي يعتبرها الأهالي "صمام أمان معيشتهم" وخصوصاً في ظل الانهيار المعيشي والاقتصادي، الذي جعل مفردات تلك المونة حلماً بعيد المنال.
تكلفة المونة لا يحتملها الدخل السنوي لمعظم العائلات
"ابو حسين" مهجر من مخيّم درعا، عاد حديثاً إلى منزله في المخيّم، بعدما تمكّن من جمع مبلغ من المال، أنفقه في إصلاح جزء من منزله الذي تضرر بفعل الحرب، ليتخلّص من عبء دفع الإيجار المرتفع لبيت كان يسكنه خارج المخيّم، الّا أنّ أعباء الحياة تكاثرت على كاهله.
"هذا العام مليئ بالمفاجآت والغرائب، فجنون الأسعار ولهيبها لم يمكنني من شراء مكوّنات المونة الموسميّة، فأسعارها باتت تفوق الدخل السنوي لمعظم العائلات" يقول " أبو حسين" لمراسلنا، ويشير إلى مونة " المكدوس" وهو صنف يعتبر الأكثر أهميّة للأهالي نظراً لقيمته الغذائيّة، ورخص تكاليف انتاجه نسبيًّاً في السابق، فهو يتكوّن من ثمار الباذنجان والفليفلة الحمراء والثوم والجوز، وزيت الزيتون، وهي مواد زراعيّة منتجة محليّاً، وكان من النادر سابقاً أن يخلو بيت من هذا المنتج المنزلي، الّا أنّ تكاليف تموينه اليوم لا يحتملها الدخل السنوي لمعظم العائلات.
يقول "أبو حسن" وهو موظّف يتقاضى 48 الف ليرة شهريّاً، إلى أنّ كميّة "المكدوس" التي يمكن أن تكفي عائلته الكبيرة، تفوق تكاليفها 112 الف ليرة سوريّة، حيث تحتاج عائلته إلى 75 كيلو غراماً من الباذنجان، الذي بلغ سعر الكيلو الواحد منه 300 ليرة، وهذه الكميّة تحتاج إلى 50 كيلو غراماً من الفليفلة التي بلغ سعر الكيلو منها 350، إضافة إلى الجوز الذي أصبح خارج القدرة الشرائيّة كليّاً ببلوغه 20 الف للكيلو الواحد، وكذلك زيت الزيتون حيث اللتر الواحد منه سعره 4500، بينما بلغ سعر الكيلو الواحد من الثوم 6 الاف ليرة سوريّة، عدا عن استهلاك انتاجه كميّة كبيرة من غاز الطهي، في ظل أزمة في المحروقات التي تشهدها البلاد.
مونة الشتاء باتت حكراً على الأغنياء
يشير"أبو حسن" إلى وضعه كموظّف لديه دخل ثابت، ولكن بالكاد يكفيه لتلبية متطلبات الحياة اليومية لأسرته، بينما توجد عائلات لا تحظى بدخل ثابت، ولديها أوضاع اجتماعيّة استثنائيّة، طالما كانت مونة الشتاء تشكل بالنسبة لها عامل حماية من الجوع، وصارت قدرتها على توفيرها مستحيلة.
ومن تلك الحالات "أم أنس" وهي امرأة أرملة لديها 4 أطفال، توفيّ زوجها في الحرب السوريّة، وتعيش في منزلها داخل المخيّم تقول لـ" بوابة اللاجئين الفلسطينيين" إنّ المونة المنزليّة، طالما كانت الملجأ لأطفالها، حين يخلو جيبها من المال اللازم لاعداد وجبة طعام.
وتعيش "أم أنس" على معونة وكالة "أونروا" التي لا تتجاوز 20 دولاراً كل 3 أشهر، إضافة إلى ما تتلقاه من معونات من هنا وهناك، وماكانت تخزّنه من مواد أساسيّة، فقدت اليوم القدرة التامة على شرائها، ليكون هذا الموسم هو الأصعب على حياتها، حيث يكاد يقضم ارتفاع الأسعار قدرتها على الصمود.
توضح "أم أنس" أنّ سعر رطل اللبنة، التي اعتادت على تحزينها في الماضي، على شكل كرات محفوظة بزيت الزيتون، يتراوح 6500-7500 ليرة سورية، أمّا سعر تنكة زيت الزيتون يفوق 110 الاف ليرة سوريّة، وهو مبلغ لا تستطيع توفيره حتّى اذا ما توقّفت عن الانفاق لعام كامل، أمّا اليوم فقد حذفت كافة مفردات المونة المنزليّة، التي باتت حكراً على الاغنياء فقط وفق قولها، بينما كانت في السابق ملجأ الفقراء، حتّى تلك الأصناف التي كانت الأكثر رخصاً كالزيتون الذي صار سعر الكيلو الواحد منه 2000 ليرة سوريّة.
وتشير "أم أنس" إلى مفارقة، أن تصير المونة المنزليّة للأغنياء فقط، أو من لديهم أقارب في الخارج يساندوهم ماليّاً لتوفيرها. وتؤكّد اللاجئة الأرملة، أنّ "العائلات التي قامت بتجهيز المونة الشتوية، تعتبر من العائلات الغنية والميسورة الحال، أو اولئك الذين اعتمدوا في توفير المونة على أقاربهم وأصدقائهم المغتربين" .
وتضيف :" متطلبات الحياة صعبة جداً وليس بسهولة نحصل على مانريد، ونأمل من الميسورين وأهالي المخيّم المغتربين، أن ينظروا بحالنا، فليس لنا سوى الله عليه نتوكّل ونسلم له أمرنا".
ما كنّا نموّنه نعجز عن شرائه جاهزاً
ولمّا كانت المونة المنزليّة، تشكّل أساس الوجبات الرئيسيّة ولا سيما الإفطار والعشاء، لأغلب العائلات ذات الدخل المحدود، صار فقدانها اليوم، أمر خطير للغاية، بحسب اللاجئة " أم محمد" التي أشارت لمراسل " بوابة اللاجئين الفلسطينيين" أنّ تأمين وجبة الفطور بات باهض التكاليف، بعد أن فقدت الأسر مفردات المونة المنزلية.
تشير "أم محمد" إلى أنّ وجبة الفطور لأسرة مكوّنة من 5 أفراد، تصل تكاليفها في الحدّ الأدنى إلى 3 الاف ليرة، وأحيانا 5 الاف، اذا ما تضمّنت أصنافاً كاللبنة والزيتون والزعتر والبيض والمكدوس، فباتت العائلات تختصر وجباتها على صنف واحد، وغالباً ما تقوم بالاستدانة من الباعة، وتسدد ديونها حين يتوفّر لها المال.
وتضيف اللاجئة ذات الأسرة المكّونة من 5 أبناء:" كنا سابقا نموّن كافة ما يحتاجه المنزل من مكدوس وزيتون ولبنة وبازيلاء وبندورة ومربى وزعتر وملوخية وغيرها من الأصناف الأساسية التي نحتاجها للأكل اليومي وخصوصاً في فصل الشتاء، وكنّا نقتات بها عندما يشحّ لدينا المال".
تضطر "أم محمد" التي يعاني زوجها من مرض أقعده عن عمله منذ سنوات، أن تعمل كعاملة في المنازل لتأمين قوت يوم أسرتها، وتقول " لا يعيبني مادمت أعمل لكي أطعم عائلتي، فأنا لن أعول على وكالة الغوث ولا مؤسسة اللاجئين لانها لاتفيدنا بشيئ ومساعداتهم خجولة جدا بالنسبة للفقر في اغلب أحياء المخيّم".
ويعتبر مخيّم درعا للاجئين الفلسطينيين، من أفقر المخيّمات في سوريا، جرّاء ما تعرّض له من تدمير لمنازل السكّان وموارد رزقهم، حيث يعاني 75% من أبنائه من البطالة، وفق تقديرات غير رسميّة وافانا بها مراسل "بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، في حين لا تتطوّر الأحوال في المخيّم إلّا نحو الأسوأ، جرّاء الانهيار المتوصل في الأوضاع الاقتصاديّة في سوريا.