القسم الثاني: تحليل مواقف المبادرة المعلنة
يركز القسم الثاني من الدراسة على مواقف مبادرة المسار البديل من بعض المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وبالتحديد بما يخص الموقف من منظمة التحرير، وحاضنة المشروع التحرري في المنطقة العربية.
- منظمة التحرير:
نجد في أوراق المؤتمر العديد من الفقرات المتعلقة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ولاسيما في ورقة تقدير الموقف الخاصة بها، حيث تنطلق جميع هذه الفقرات والأوراق من مسلمة وحيدة وواحدة تضع منظمة التحرير الفلسطينية في موضع القدسية المطلقة، بغض النظر عن بنيتها وطبيعتها وركائزها وهيكليتها، فهي صالحة وفقا لهم لكل زمان ومكان، وهو ما يبدو في العبارة التالية المأخوذة من البند الرابع/ الأسس التنظيمية" الشعب الفلسطينيّ، في مسيرته النضاليّة من أجل تحرير أرضه والعودة إليها وتقرير مصيره عليها، تنظّم في إطار منظّمة التحرير الفلسطينيّة" وهي ذات الفكرة التي تؤكد عليها ورقة ملخص موقفنا/ منظمة التحرير الفلسطينية، كما في العبارة التالية" كان الميثاق الوطني المقر في الدورة الرابعة للمجلس الوطني قد أشار الى منظمة التحرير الفلسطينية في المادة (25) وحدد دورها نصاً: "منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولة عن حركة الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره والعودة إليه وممارسة حق تقرير مصيره فيه، في جميع الميادين العسكريّة والسيّاسية والماليّة وسائر ما تتطلبه قضية فلسطين على الصعيدين العربيّ والدوليّ".
لكن وبذات الوقت لا يتغافل معدو المؤتمر عن ضرورة مراجعة دور ومكانة منظمة التحرير تاريخياً وسياسياً بصورة شاملة، وبمشاركة شعبية واسعة، وأقتبس هنا من ورقتهم سابقة الذكر"وذلك من أجل ضمان إستعادة الشعب العربي الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية ومُؤسساتها كافة باعتبارها مُلكيّة جماعيّة لشعبنا، وتحرير قرارها السيّاسي من سطوة وسيطرة فريق واحد في الساحة الفلسطينية". وكذلك يشدد معدو المؤتمر على ضرورة "إعادة الاعتبار إلى الميثاق الوطني الفلسطيني وخاصة البنود التي جرى شطبها، وضمان مشاركة كافة القوى الوطنيّة والمؤسّسات الأهليّة الشعبيّة العاملة في إطار العمل الفدائي والمقاومة، بِكل ما يَستدعيه ذلك من إجراءات تنظيميّة وسيّاسية وقانونيّة في مُقدمتها سَحب الاعتراف الفلسطيني الرّسمي بالكيان الصهيونيّ وإلغاء اتفاقيّات أوسلو وكافة مَراجعها ومُلحقاتها." وهو اقتباس أيضا من ذات الورقة.
وعليه نجد من خلال التدقيق في الاقتباسات السابقة أهم مرتكزات ومنطلقات موقف معدي المؤتمر من المنظمة، المتمثلة في تحرير المنظمة من سيطرة فريق أوسلو على قرارها السياسي اليوم، والتأكيد على حصرية تمثيلها الشعب والقضية الفلسطينية، واستعادة البنود التي جرى شطبها من الميثاق الوطني الفلسطيني. ثلاث نقاط تلخص الموقف من المنظمة اليوم بصورة عامة ومبتذلة للأسف، فمن حيث الميثاق يصر معدو المؤتمر على إخفاء موقفهم الحقيقي من البرنامج المرحلي، عبر اللعب على عبارات فضفاضة تحمل أكثر من معنى مثل قولهم" وأيُّ تعديل على هذا الميثاق يمسّ التحريرَ الكاملَ والعودةَ الكاملةَ يُعتبر باطلًا ولاغيًا ومرفوضًا" وهو ما يعني أن الموقف من البرنامج المرحلي يتوقف على طريقة تفسيره فقط، فالتفسير الفصائلي( كامل فصائل منظمة التحرير من حركة فتح وصولا إلى الجبهتين الديمقراطية والشعبية) له يتمثل في كونه برنامج التحرير والعودة الكاملين، في حين أن تفسير الجبهة الشعبية حين أقرته منظمة التحرير وعندما كانت الأولى جزءاً من جبهة الرفض مختلف كليا عن ذلك، حيث انطلقت جبهة الرفض من كون البرنامج المرحلي شكلا من أشكال الاعتراف بحل الدولتين وقرار التقسيم، ومقدمة ضرورية لبدء عملية "السلام" المزعومة، القائمة على الاعتراف بحق" دولة إسرائيل" بالوجود، ما يتطلب معارضته ورفضه، وهو ما ثبت صحته بشكل كبير اليوم.
غير أن معدي المؤتمر يتجاهلون هذه الحقائق الميدانية، كما يتجاهلون مسؤولية كامل مكونات منظمة التحرير عما نحن به اليوم، ألم تبدل مجمل الفصائل برامجها حتى يتوافق مع البرنامج المرحلي؟ وآخرها حركة حماس، غير المنضوية حتى اللحظة في المنظمة، وألم تهرول مجمل الفصائل نحو المشاركة في انتخابات السلطة وطالبت بحكومة وحدة وطنية سلطوية؟ إن سلوكيات وممارسات الفصائل؛ مجمل الفصائل دون استثناء، رسخت انحرافات المنظمة التي قادها فريق أوسلو، حتى باتوا جميعا جزءا ثانويا من هذا الفريق. حيث تتأتى ثانويتهم، من تسلط حركة فتح، لا من مواقفهم الجذرية الرافضة لهذا المسار، الأمر الذي يؤكد على دورهم في تثبيت وشرعنة جميع الانحرافات منذ إقرار البرنامج المرحلي وصولا إلى توقيع معاهدات الاستسلام.
من كل ذلك يمكن فهم سبب إصرار منظمي المؤتمر على استخدام تعبير محدد عند الحديث عن برنامج منظمة التحرير، تعبير يطالب باستعادة البنود التي جرى شطبها، أي تلك التي حصلت بعد إقرار البرنامج المرحلي لا قبله، وإلا لكان عليهم ذكر البرنامج المرحلي بكل وضوح، تماما كما يذكرون مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو. وكذلك نجدهم يتجاهلون بنية المنظمة وهيكليتها القائمة على المحاصصة الفصائلية، والتي يغيب عنها رأي وموقف الشارع الفلسطيني، مقرين بكونها بنية فوقية معزولة عن نبض وإرادة الشارع، تستمد شرعيتها من سائر البنى الفوقية الأخرى في المنطقة العربية والعالم، لذا لا يجدون أي حاجة للتمعن في هيكليتها وبنيتها، وكأنهم يطالبون بحصة لهم في أي محاصصة محتملة مستقبلا، وهو ما دفعهم إلى استعراض المادة 25 من الميثاق الوطني، كونها المادة التي تشرعن المنظمة وفق بنيتها الراهنة والحالية، دون البحث عن شرعية شعبية، والمذكورة سابقا.
وهنا أيضا نلاحظ أن هدف المؤتمر ومعديه الانخراط في هياكل الجسم السياسي الفلسطيني القائم حاليا، مع بعض التعديلات الطفيفة التي لا تحدث تغييراً جذريا في بنيته وهيكليته وتوجهاته، لذا غاب البرنامج المرحلي عنهم، تماما كما غابت عنهم الشرعية الشعبية، وآليات التمثيل الشعبي، والبحث في طرق تفعيل الشعب الفلسطيني ودوره في إدارة مؤسساته وهياكله التي تمثله وتمثل مصالحه وأهدافه وحركته التحررية، التي يزعمون الرغبة في استعادتها!!
- استعادة الحاضنة الشعبية العربية:
يسعى المؤتمر وفق الأوراق الصادرة عن هذه المبادرة إلى مجموعة من الأهداف؛ ينص البند الخامس منها على ما يلي: "استعادة الحاضنة الشعبيّة العربيّة ودورها التاريخيّ ومسؤوليّتها القوميّة والإنسانيّة تجاه فلسطين باعتبارها القضيّة المركزيّة للشعوب العربيّة، علمًا أنّ تحقيق انتصارات وطنيّة-اجتماعيّة محليّة في الأقطار العربيّة يصبّ حتمًا في مجرى مشروع التحرير والعودة إلى فلسطين." صياغة جميلة ومنسقة وشاملة، لكنها غارقة في العموميات التي تطرح مئات الأسئلة حول معناها الدقيق. الأمر الذي تم توضيحه بقصد أو دون قصد في ورقة تقدير موقف منفصلة تحت عنوان" موقفنا: حول الصراعات في الوطن العربي وفهمنا لمعسكر المقاومة". حيث يوحي النص بمنطلقات التحليل المتبعة، التي تتجاهل شعوب المنطقة، وتنظر إلى السياسية المحلية والإقليمية والعالمية وفق تصريحات وتوجهات البنى الفوقية القائمة، أي الحكومات والأنظمة ومؤسساتها، بغض النظر عن جوهر هذه التوجهات والممارسات، الأمر الذي يتناقض كليا مع الهدف الخامس المشار له في بداية هذه الفقرة.
إذا لا يسعى معدو المؤتمر إلى فهم طبيعة الحراك الشعبي في المنطقة العربية، وقراءة أهدافه وتطلعاته، ولا حتى للبحث في مدى تطابق أو تعارض أهداف حركة التحرر الفلسطينية مع الحراك الشعبي الاحتجاجي والثوري في المنطقة العربية منذ عقد كامل من الزمن، كما كان من المفترض عليهم القيام به استنادا للفقرة الخامسة من أهداف المؤتمر، ولاسيما بما يخص تلاقي مشروع التحرير والعودة مع تحقيق انتصارات وطنية محلية في الأقطار العربية. بكل الأحوال وبغض النظر عن هذه الخلل البنيوي الجذري، والكافي بتقديري لفهم أهداف المؤتمر غير المعلنة، لكن لا ضرر من التعمق أكثر في النصوص والأفكار، كي يتوضح مدى تناقض رؤيتهم وهشاشتها، كما في العبارة التالية "معسكر المقاومة العربية الذي يقاتل اليوم في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والرّجعية يحتضن نظرياً القوى الشعبية، ويدعو الأمّة إلى الوحدة ونبذ الخلافات والحروب وتجاوز الصراعات المذهبية والطائفية، غير أنه يعاني هو من هذه الظواهر والأمراض كلّها" لن أدخل في سخافة الادعاء الاستهلالية، التي تجزم بأن معسكر المقاومة؛ وفق تسميتهم الخاطئة؛ يواجه الإمبريالية والصهيونية، دون أي دليل يثبت ذلك بشكل قاطع، كي أسلط الضوء على أولى مشاكل هذا المعسكر المفترض وفقا لورقتهم ذاتها، فهو معسكر الكاذبين والمدعين ممن يمارسون عكس ما يدعون، فهو يدعو إلى نبذ التفرقة والخلافات والحروب وتجاوز الصراعات المذهبية والطائفية، لكنه يعاني منها جميعا!! أي هو معسكر طائفي ومذهبي وتفريقي، وهو كلام صحيح كليا لكنه للأسف مجتزأ من صورة أكثر قتامة.
ثم تمضي الورقة أكثر في مسار نفي ذاتها ونفي صفة المقاومة عن هذا المعسكر ربما دون أن تعلم بقولها: "معسكر المقاومة الذي تكون هويته عربية وهدفه تحرير فلسطين عليه أن يتجاوز حدود “التضامن” مع الشعب الفلسطيني إلى اعتبار فلسطين قضيته المركزية قولاً وعملاً. هذا يعني الانتقال من حيّز وشعارات “الدعم” و”الإسناد” إلى حيّز المشاركة الفعلية والمبادرة." مرة أخرى توضح الورقة كذب معسكر المقاومة فهو يدعي مركزية قضية فلسطين في شعاراته وخطاباته لكنه يغفل عنها كليا عمليا، ربما كان من الأفضل تسميته بمعسكر مدعي المقاومة.
ثم تنتقل الورقة أو تقدير الموقف إلى استعراض المحددات الناظمة للموقف، حيث نجد في البند الثاني "الحق في تقرير المصير مكفول بشقيه: حق الشعوب في الاستقلال وبناء نظامها السياسي السيادي الديمقراطي جنبًا الى جنب مع حقّها في التحكم والانتفاع بمقدراتها ومواردها الاقتصاديّة دون هيمنة خارجيّة" وهنا أجد من الضرورة التساؤل عن مدى توفر هذه الشروط في دول معسكر المقاومة أو على الأقل دول معسكر الممانعة العربية والإقليمية، وبالتحديد في سورية وإيران ولبنان، قبل العام 2011 وبعده، فهل يجهل القائمون على المؤتمر طبيعة نظام الأسد الأمنية، وأعداد معتقلي الرأي في سجونه السرية، وظروف الاعتقال الكارثية، وتبعية القضاء السوري للمنظومة الأمنية الأسدية دون أدنى معايير النزاهة والاستقلالية المهنية، طبعا لا اتحدث عن المعتقلين من حملة السلاح مهما كان السبب هنا سواء المنتمين إلى تشكيلات طائفية أو المدافعين عن قراهم وبلداتهم وذويهم. لذا تعمدت الإشارة إلى طبيعة النظام قبل وبعد العام 2011، فهذه طبيعة راسخة في نظام الأسد منذ سيطرته على مقاليد الحكم. وبصورة مشابهة يمكن معالجة طبيعة النظام الإيراني والنظام الطائفي اللبناني بشقيه الرسمي والحزبي، بما يشمل حزب الله طبعا، الذي يتشابه في ذلك مع سائر مكونات الجسم السياسي اللبناني كتيار المستقبل والكتائب والقوات والتيار وحركة أمل وسواهم من قوى وأحزاب طائفية، تدعي المقاومة أو تعارضها (لابد من التأكيد على طائفية مجمل البنية السياسية اللبنانية المسيطرة قبل أن تسلط سهام الاتهام نحوي إن تجاهلتهم).
كما نجد في النقطة اللاحقة عبارة مهمة لو تم الالتزام بها حرفياً، تقول "رفض التدخلات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة وإدانتها، ومقاومة الهيمنة الاستعمارية و/أو الاعتداءات على أي بلد عربي. وشعارنا هنا: لا للهيمنة للاستعمارية" طبعا لا خلاف على طبيعة التدخلات الأمريكية الاستعمارية في المنطقة، كما في سورية والعراق، لكن السؤال حول طبيعة التدخلات الروسية والإيرانية في المنطقة، هل هي تدخلات نهضوية، أم استعمارية، والإجابة سهلة جدا لو تمعنا في نصوص الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية المبرمة مع كلا الدولتين الاستعماريتين حتماً، لاسيما الاتفاقيات التي وقعت مع حكومتي أو نظامي العراق وسورية، حيث تم سلب ثروات الدولتين عبر عقود مجحفة طويلة الأمد تشمل المرافئ والثروات الباطنية النفطية والمعدنية، والمواقع الاستراتيجية، وغيرها من الاتفاقيات التي تلحق الاقتصاد الوطني باقتصاد الدولة المستعمرة بشكل ريعي وفج، حتى باتت تلك الاتفاقيات نسخة طبق الأصل عن اتفاقيات التبعية الأمريكية الموقعة مع الكثير من دول المنطقة والعالم.
مرة أخرى يرد في ذات الورقة فقرة تتناقض مع مجمل مسار الورقة، كما في المحدد الرابع " للشعوب العربية الحق في النضال، والثورة على الأنظمة الرجعية المستبدة لنيل حريتها وحقوقها الطبيعية ولتحقيق الديمقراطية والتعددية والقضاء على الفساد وتحقيق النماء. وشعارنا هنا: الحق في الثورة حق مقدس لكل الشعوب." إذا للشعوب الحق في الثورة على الأنظمة المستبدة، وهو حق مقدس نظريا حسب زعمهم، أما عمليا فالموضوع يتوقف على موقفنا من النظام المسيطر، كما في حالات الثورات الحاصلة ضد أنظمة محور الممانعة ومعسكر المقاومة، إذ تصبح الثورة الشعبية حينها جزءا من مؤامرة صهيو-أميريكية!! حيث نلمس خلطاً غريبا وعجيبا بين حق الشعب السوري في الثورة على نظام الاستبداد والنهب والإجرام الأسدي من ناحية، وبين التدخلات الخارجية الاستعمارية والقوى الرجعية التكفيرية من ناحية ثانية. إذ لابد هنا من التأكيد على تجسيد هذا المحدد عملياً عبر التعبير عن دعم حق الشعب السوري في الثورة على نظام الأسد الذي فشل في تحقيق جميع الأهداف التي تنطح لها منذ سيطرته على الحكم، كنظرائه في النظام الرسمي العربي، بالتوازي مع رفض واضح لجميع قوى الاحتلال الداخلية والخارجية، التكفيرية بشقيها السني والشيعي، والدولية من روسيا وإيران وصولاً إلى أمريكا وتركيا وبالطبع الكيان الصهيوني، فهذا هو بديل مسار قمع الشعوب واستعبادها ونهب ثرواتها عبر أنظمة استبدادية وقمعية ورجعية أو عبر قوى احتلال خارجي، وهو المسار الوحيد المتقاطع مع مسار حرية فلسطين وشعبها بشكل كامل.
ثم تذهب الورقة في المحدد السابع باتجاه إلغاء جميع النقاط المذكورة قبلها، بقولها "معيار وتقدير أية حركة تحرر أو ثورة شعبية أو موقف أي حكومة ودولة هو موقفها من حقوق الشعب الفلسطيني كاملة غير منقوصة ودعمها الفعلي وغير المشروط لنضاله ضد الكيان الصهيوني. وشعارنا هنا: وحدة جبهة الأحرار في مواجهة الاستعمار." إذاً فإن الموقف من الثورات غير مرتبط بشرعية الثورة والحركة الثورية، أي غير مرتبط بطبيعة النظام المسيطر المافيوية والنهبية والقمعية، بل مرتبط بالموقف من قضية فلسطين، وعليه يجوز تخوين أي ثورة لا تعبر عن دعمها لقضية تحرير فلسطين بشكل مطلق وواضح وحاسم، وكأن قضايا شعوب المنطقة أمر ثانوي لا يستحق التوقف عنده، ولا تملك شعوب المنطقة أي حق في التركيز على مصائبها الراهنة ولو لفترة وجيزة من الزمن، وعليه على أي شعب يفكر بالثورة أن ينظم خطابا وشعارا واضحا في دعم قضيتنا العادلة، كي نعترف بالمقابل بحقه بالثورة وكي نعبر عن دعمنا لحقه المشروع هذا، لاسيما في الحالات التي تتبنى النظم المسيطرة بها خطاباً منمقاً وداعماً لقضيتنا الفلسطينية، وبغض النظر عن مدى دعمها من طعنها عملياً. ما هذه الانتهازية الفجة؟ وكيف لنا مطالبة شعوب العالم بدعم قضيتنا كونها قضية عادلة، في حين نربط دعمنا لقضايا شعوب العالم والمنطقة العربية بدعمها لنا؟ وما هو موقفنا لو كان الوضع معكوساً، أي لو اشترطت علينا دول العالم وحركات التحرر العالمية والثورية مثل هذه الشروط قبل إعلان موقفها الداعم لحقوقنا المشروعة؟ إن الموقف من الحق والحقوق تجسيد مبدئي لقيمنا ومعتقداتنا وفكرنا الثوري، لذا لا يجوز ربطه بأي محدد آخر، في حين يشترط التعاون والتكامل بشروط عديدة منها بلا شك الموقف من قضيتنا العادلة والشرعية بغض النظر عمن أيدها ومن عاداها.
أما بخصوص النعرات والنزعات الطائفية والمذهبية فتقول الورقة: "إن زرع النعرات المذهبية والطائفية يعني مزيداً من الضعف العربي، والأهم يسوّغ مشروع الدولة اليهودية حتى في عيون “الغرب الديموقراطي” رغم كل ما فيه من عنصرية وتعارض مع قيم الديمقراطية الغربية ذاتها." ونفهم من ذلك أن كل مشروع طائفي ومذهبي مثل داعش والنصرة هو إضعاف للجسد العربي أولاً، وتسويغ للمشروع الصهيوني ثانياً، وهو أمر صحيح أيضا لكنه كما جرت العادة مجتزأ من الصورة الأشمل، التي تضم أيضا جميع القوى الطائفية والمذهبية الأخرى بما فيها تلك المنضوية تحت معسكر المقاومة والممانعة، مثل حزب الله اللبناني والعراقي وعشرات القوى الطائفية العراقية المدعومة إيرانياً، ونظيراتها في سورية والحوثيين في اليمن، إلى آخر القائمة من قوى طائفية سنية أو شيعية. فجميعها قوى طائفية تضعف الجسد العربي، بل وأكثر من ذلك تفتته من الداخل وتثير الصراعات بين مختلف مكوناته، بل وتتطابق مع جذر الفكر الصهيوني العنصري والرجعي والاستغلالي والإحلالي أيضا، وبالتالي فإن مسار التحرر الفلسطيني والعربي والعالمي يتناقض مع مسار هذه القوى الرجعية المتخلفة والعنصرية، ما يستوجب من معدي المؤتمر إعلان ذلك إن كانوا صادقين بحرصهم على حركة التحرر وعلى مصالح شعوب المنطقة العربية وفي مواجهة الصهيونية فكراً وممارسة.
في نهاية هذه الفقرة سوف أعود إلى مقدمة ورقة "موقفنا مما يجري في الوطن العربي"، وبالتحديد إلى عبارة: "كما هدف هذا المشروع لإقامة تناقض وهمي ما بين مصلحة وحقوق الشعوب العربية من جهة والتزاماتها حيال فلسطين من جهة ثانية خلال ما أسمته الولايات المتحدة الامريكية الفوضى الخلاّقة، ووصل مؤخراً إلى حد تصوير أن خلاص الشعوب العربية من الفقر والقهر والتخلف رهن بتنصلها من فلسطين وانخراطها في التطبيع مع الكيان الصهيوني." والحديث هنا عن المشروع الاستعماري والرجعي والصهيوني، حيث تنطوي هذه العبارة على خلل بنيوي خطير، إذ تخلط بين موقف شعوب المنطقة من الحقوق عموما والحق الفلسطيني خصوصا، وبين مصالح الأنظمة المتناقضة مع الحق الفلسطيني، إذ أثبتت التجارب السابقة رفض مسار التطبيع شعبيا في مصر والأردن وسائر الدول المطبعة، بل ومازالت الشعوب الحرة تعبر عن هذا الرفض رغم تساوق النظام الرسمي العربي بشقيه الممانع والمتأمرك مع مسار التطبيع، حيث عبرت العديد من الفئات الشعبية اللبنانية والسورية عن رفض محاولات التطبيع والمهادنة والاعتراف بالنظام الصهيوني الجارية اليوم، تحت ذرائع ترسيم الحدود لبنانيا، أو الجهل بالخطوات الروسية سوريا، فكلاهما يقدمان خدمة للمشروع الصهيوني ويتعاملان معه على اعتباره جزءا من النظام الإقليمي، تماما كما تسعى دول إقليمية كبرى لذات الهدف، وإن كانت غير موقعة حتى اللحظة على أي اتفاق تطبيعي، كما في حال المملكة العربية السعودية، فضلا عن الدول التي أعلنت تطبيعها وخصوصا الإمارات والبحرين. وعليه لابد من مهاجمة مجمل الأنظمة التي تمارس هذه التوجهات بكل وضوح وجرأة إماراتيا وسوريا وسعوديا ولبنانيا وبحريينا، ويجب تسليط الضوء على حركة الشعوب الحرة المعبرة عن دعمها الحقوق الفلسطينية، كما عبرت بعض البلدات السورية الخارجة عن سيطرة النظام السوري عن ذلك، ورغم سيطرة قوى الاحتلال الداخلي والخارجي عليها، فشعوب المنطقة هي عماد تحررنا جميعا وهي الأساس الصلب الذي يجب البناء عليه، أما الأنظمة؛ أي أنظمة كانت؛ فهي زائلة مهما طال زمن بقائها.
الخاتمة:
في النهاية لا تنطوي هذه الدراسة على تحليل وتفنيد جميع الأوراق الصادرة عن لجنة المؤتمر التحضيرية، بقدر ما حاولت تسليط الضوء على النقاط الرئيسية، فقد تم التغاضي عن نقاش بعض الأوراق المهمة أيضا مثل "نداء هام إلى جماهير شعبنا الفلسطيني في أوروبا" وأيضا في " المسار البديل نقف مع نضالات الجماهير الشعبية في تونس ومصر ومطالبها العادلة". وذلك كي لا تطول الدراسة كثيرا وكي لا نغرق في الكثير من التفاصيل التي قد تضيع الهدف المرجو من الدراسة. بكل الأحوال وبغض النظر عن بقية الأوراق والملاحظات النقدية يمكن لنا الآن وبعد كل ما ذكر سابقا القول بأن المسار البديل المزعوم هو مجرد مسار مواز، لا يقطع مع إرث الماضي الكارثي، كما لا يبني للأسف على إرث الماضي المشرق.
فمن ناحية سياسية هو امتداد الانحراف الذي ولد انقساما سياسيا وشعبيا، وتشويها متعمدا في الرواية والمشروعية الفلسطينية، الناتج عن تبني المنظمة للبرنامج المرحلي، وإن قطع بشكل أولي مع مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وما تبعهما من اتفاقيات استسلاميه، فالبناء أو عدم القطع الكامل مع البرنامج المرحلي هو مؤشر لانحرافات جديدة تنازلية في ثوب جديد ومختلف عن ثوب مدريد وأوسلو.
كما نجد في طرح المسار امتدادا لذات الهيكلية التنظيمية الفوقية المتبعة من قبل الجسم السياسي الفلسطيني كاملا وفصائله المشكلة له، وهي بنية تقطع العلاقة كليا مع حركة الشارع ونضالاته لتؤسس سلطة استبدادية وإقصائية يفرضها الأمر الواقع، عبر مؤتمر أو سلطة مالية، أو شرعية عربية وإقليمية ودولية. كما في حالات الكثير من الفصائل المدعومة من قبل أنظمة عربية أو إقليمية فقط، دون أن تحظى بدعم وتأييد الشعب الفلسطيني، أو حتى جزء صغير منه، فالكثير منها لا ينتمي لها أكثر من أشخاص معدودين أو بضع مئات لا أكثر بأحسن الأحوال.
وكذلك نجد أنه مسار مواز من حيث البنية والطبيعة الفوقية التي تتناقض مع طبيعة حركات التحرر والثورة الشعبية، حيث يسعى المسار إلى بناء تحالفات إقليمية مع البنى الفوقية المسيطرة في المنطقة، مهما كانت فاقدة لمشروعيتها الشعبية المحلية، أي بغض النظر عن إجرامها تجاه شعبها ومكوناتها الاجتماعية، وبغض النظر عن طبيعتها النهبية والمافيوية والاستبدادية. وهو بذلك ومن كل ذلك وبكل تأكيد مسار مواز حد التطابق مع المسار القائم والسائد والمسيطر اليوم، مهما ادعى وراوغ وتلاعب في الكلمات والمصطلحات.