رغم كافة المحاولات البائسة لإظهار مسألة اتفاق التطبيع مع العدو الصهيوني على أنها تتجاوز التطبيع الرسمي المنفصل عن الواقع في المجتمع العربي وبالتحديد هذه المرة المجتمع البحريني، إلا ان منصات التواصل الاجتماعية هذه المرة جعلت الأمر أكثر استحالة مما سبق، فوجدت الحكومة البحرينية نفسها أمام مأزق اصطدامها بشكل واضح لا يقبل التأويل مع كافة أطياف الشعب البحريني سواء من المعارضين لسياستها او أولئك المحسوبين على كونهم موالين أو مؤيدين للحكومة، إذ إن سقطة التطبيع الأخلاقية كانت أكثر واكبر من قدرة التطبيل والتبرير.

ليست الصعوبة فقط في مسألة ترويج التطبيع مجتمعياً وأخلاقياً في محاولة فاشلة تدعي أن التطبيع يصب في ذات سياق الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية كما أسمته حكومة التطبيع في محاولة كوميدية أكثر من كونها جادة، بل كمنت صعوبة أخرى وهي كيف يمكن لهذه الحكومة أن تتخذ قراراً بهذا الحجم تعلم رفضه مجتمعياً دون أن تبين مدى عجز المؤسسات الدستورية وصوريتها أمام رغبات وأهواء القابضين على زمام كل شيء.

أمام هذا المأزق اغتصبت حكومة البحرين السلطة التشريعية واعتدت على الدستور، ومن ثم جلبت خياطين ليفصلوا تفسيرات قانونية لا قيمة لها سوى إضفاء قشرة من الشرعية عديمة القيمة، مستغلة أن من ارتضى على نفسه أن يكون عنصراً من عناصر الديكور لن يجرؤ على اتخاذ موقف.

ليس فيما أسلفت أي نوع من التجني أو المبالغة بل هو أمر ثابت بموجب ذات القانون البحريني الذي انتهكته الحكومة، وتخلت السلطة التشريعية بغرفتيها عن حمايته مؤكدة عجزها التام والكامل عن حماية شعبنا وإرادته.

حيث نص دستور العام ٢٠٠٢ في مادته السادسة على أنه " تصون الدولة التراث العربي والإسلامي ، وتسهم في ركب الحضارة الإنسانية، وتعمل على تقوية الروابط بين البلاد الإسلامية، وتحقيق آمال الأمة العربية في الوحدة والتقدم".

مفاد النص السالف الذكر أن مملكة البحرين تعمل على تحقيق آمال الأمة العربية في الوحدة والتقدم، والتي لا يمكن لعاقل أن يقول بأن التطبيع مع من اغتصب أرض شعبك العربي وسحله وشرده وهجره وقتله وارتكب أبشع المجازر في حقه يمكن أن يصب في اتجاه تحقيق آمال الأمة العربية، بما يغدو معه تطبيع العلاقة مع عدو أمتنا الأزلي مخالفاً لنص المادة ٦ من الدستور.

هذا وقد نصت المادة ٣٠ من الدستور على أن "أ- السلام هدف الدولة، وسلامة الوطن جزء من سلامة الوطن العربي الكبير، والدفاع عنه واجب مقدس على كل مواطن، وأداء الخدمة العسكرية شرف للمواطنين ينظمه القانون".

مفاد ما تقدم أن الدستور البحريني جعل الدفاع عن سلامة الوطن العربي الكبير واجباً مقدساً، والتطبيع مع الكيان الغاصب والمحتل للأراضي العربية ومرتكب المجازر ليس بدفاع عن الوطن العربي الكبير بل هو في الطرف النقيض من ذلك بما يجعل فعل التطبيع مخالفاً لنص المادة ٣٠ من الدستور على النحو المبين.

بالرغم من فداحة مخالفة الدستور على النحو المتقدم إلا أن الفاجعة التي توكد طبيعة بنية الحكومة في البحرين وانفصالها التام عن شعبها وحتى عندما ينطقون به أو يدعون احترامه تكمن فيما يلي فقد نص ذات الدستور في المادة ٣٧ منه على أنه "يبرم الملك المعاهدات بمرسوم، ويبلغها إلى مجلسي الشورى والنواب فوراً مشفوعة بما يناسب من البيان، وتكون للمعاهدة قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية. على أن معاهدات الصلح والتحالف، والمعاهدات المتعلقة بأراضي الدولة أو ثرواتها الطبيعية أو بحقوق السيادة أو حقوق المواطنين العامة أو الخاصة، ومعاهدات التجارة والملاحة والإقامة، والمعاهدات التي تُحمِّل خزانة الدولة شيئاً من النفقات غير الواردة في الميزانية أو تتضمن تعديلاً لقوانين البحرين، يجب لنفاذها أن تصدر بقانون . ولا يجوز في أي حال من الأحوال أن تتضمن المعاهدة شروطاً سرية تناقض شروطها العلنية".

مفاد هذا النص أن معاهدات الصلح لا تصدر حتى من الملك بإرادته المنفردة بل يجب أن تصدر بقانون، وقد رسم الدستور والقوانين المنظمة داخل مملكة البحرين الطريقة التي تصدر بها القوانين سواء اتفقنا او اختلفنا معها، وحيث أن اتفاق التطبيع يتعارض مع قانون مكتب مقاطعة الكيان الصادر في العام ١٩٦٣ وكذلك مع أحكام الدستور والأهم أنه اتفاق صلح يحول العدو الصهيوني لصديق بما يستوجب أن يصدر اتفاق التطبيع بموجب قانون على سبيل الحصر على النحو المنصوص عليه في الدستور، لتبين أن الحكومة تغتصب السلطة التشريعية، وفي فعل مادي بحت في حكم العدم لا يرقى حتى لقرار إداري، إذ انه فاقد لكل اركان الشرعية، حولت العدو لصديق دون أي اعتبار للدستور والقانون.

هذا وقد نصت اللائحة الداخلية لمجلس النواب الصادرة بموجب المرسوم بقانون رقم ٥٤ لسنة ٢٠٠٢ على أنه في حال وجود اتفاقية أو معاهدة من النوع المحدد في المادة ٣٧ من الدستور سالفة البيان فإنه يجب طبقاً لنص المادة (١٢٦) أن "يحيل الرئيس إلى اللجنة المختصة المعاهدات والاتفاقيات المنصوص عليها فى الفقرة الثانية من المادة (٣٧) من الدستور، لبحثها وتقديم تقرير عنها إلى المجلس. وللمجلس أن يوافق عليها أو يرفضها أو يؤجل نظرها، وليس له أن يعدل نصوصها. وفى حالة الرفض يخطر رئيس المجلس رئيس مجلس الوزراء ببيان يشمل النصوص أو الأحكام التى تضمنتها المعاهدة أو الاتفاقية والتى أدت إلى الرفض أو التأجيل".

ومفاد ما تقدم أنه إذا ما تحقق أي من الأمور المذكورة في الفقرة الثانية من المادة ٣٧ من الدستور يجب أن يصدر قرار الموافقة على المعاهدة او الاتفاقية بقرار من المجلس النيابي حصراً دون غيره يصدر بقانون، الا أنه حتى هذا الهامش البسيط من قشور الديمقراطية انقضت عليه السلطة التنفيذية وافترسته بأن صادقت على الاتفاق وحولت العدو لصديق دون قرار من مجلس النواب، وخلافاً للإرادة الشعبية مصدر السلطات جميعاً، بما يعبر عنه فقهاً وقضاءً وقانوناً بعيب الاغتصاب الجسيم للسلطة وهو الذي يجعل فعل التطبيع الحكومي هو والعدم سواء من الناحية القانونية.

ليس ذلك كل ما في الأمر بل أقدمت الحكومة على تسريب لوثيقة رد صادر من هيئة الإفتاء والتشريع متضمنة رداً على امتناع بعض المصارف عن التعامل مع شركات الكيان -استناداً لكون هذا الفعل يعتبر جريمة بموجب قانون مكتب مقاطعة الكيان الصادر في العام ١٩٦٣ والساري المفعول حتى تاريخه-.

 وابتدعت في وثيقة الرد مبدأ قانونياً جديداً بأن ألغت قانوناً يجرم التعامل مع الكيان والشخصيات والشركات العاملة فيه دون صدور مرسوم بقانون يلغيه مبتدعة مسألة قانونية حسمها الفقه القانوني منذ عقود، تتلخص في أن القانون وان اعتاد الناس مخالفته لا ينتهي بل يظل سارياً يمكن تطبيقه وفي حال تعارض القوانين يجب على السلطة التشريعية إزالة ذلك التعارض.

رغم كل هذا العوار البين والاعتداء الصارخ على القانون لم يقم أي من النواب في المجلس بإثارة هذه المسألة الواضحة، ربما لرفع العتب عن أنفسهم حيث إنه إذا ما مر اتفاق التطبيع من خلالهم سيخسرون في المجتمع، وربما هم متأكدون من الخسارة لأنهم لا يستطيعون قول كلمة (لا) ورفض الاتفاق، والأهم من كل ما تقدم بأن أحداً منهم لم يعترض على اغتصاب الحكومة لسلطته، مضافاً إلى انه وإن عرض الاتفاق على مجلس النواب، فانه يجب عليهم أن يعدلوا الدستور وإلا كان القانون بإقرار الاتفاقية غير دستوري اذا انه (يتعارض مع آمال الامة العربية وينكل عن واجب الدفاع عن الوطن العربي الكبير).

من خلال ما تقدم فإن المسألة الأكثر وضوحاً، هو أن اتفاق التطبيع وتحويل الذئب إلى حمل وديع هو فعل من جنس مبدئ من قام به المتمثل بأن لا حرمة لشيء حتى الدستور والقانون، فمن يتعاون مع من قتل وهجر واغتصب الأرض يجب عليه على أقل تقدير أن يغتصب السلطة ليكون جديراً بهكذا حليف.

 ومن قبل على نفسه أن يكون عنصراً من عناصر الديكور حاملاً إثم شعبه لا بأس بكل تأكيد أن يصمت عن عقود من الدم، إلا أن الأمر لشعبنا كما هو للقانون في حكم العدم.

غسان جاسم - ناشط سياسي بحريني

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد