فلسطين المحتلة - بوابة اللاجئين
بقلم: يوسي ميلمان
بعد عشرة أيام من القاء قنبلته، ترك رئيس الوزراء ووزير الدفاع الاسبق اسرائيل وسافر لمتابعة شؤونه في الخارج. وفي نيته أن يعود بعد نحو ثلاثة اشهر.في السنتين الاخيرتين يوزع وقته بين تل أبيب ونيويورك، بين طلعات طويلة وسفريات الى مقاصد اخرى لاغراض التجارة والاستمتاع، وحاليا، ترك في اسرائيل خلفه لغزا بلا حل.
قبل ان يسافر ملأ باراك فمه ماء ورفض الاستجابة لطلبات الصحافيين اجراء اللقاءات ومطالبات الاصدقاء والشخصيات العامة ان يشرح ما قصد. فرفض الكشف عن سره – اذا كان ثمة سر على الاطلاق – حتى لرئيس لجنة الخارجية والامن، رجل الليكود النائب آفي ديختر.
ولتعظيم الدراما، قبل أن يلقي كلمته يوم الاربعاء الماضي في ندوة حركة الوسط – اليسار “طريقنا”، وزع خطابه على الصحافيين قبل ذلك. وفي حديثه كرر عباراته المعتادة حيث يتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو منذ زمن ما بسلوك يقترب من الفاشية، عدم المسؤولية والسياسة التي تعرض مستقبل اسرائيل للخطر.
اتهم باراك نتنياهو بانه الحق ضررا أمنيا وماليا جسيما، نحو 7 مليار دولار، بسبب سلوكه المخطيء ومواجهته مع ادارة الرئيس براك اوباما في ادارة المفاوضات على اتفاق المساعدات الجديد من الولايات المتحدة للعقد القادم. في هذا لم يقدم باراك أي جديد، بل انضم الى الخبراء والمحللين الذين أعربوا عن تقدير مشابه. وحتى من يتولون المناصب الاعلى في جهاز الامن يعتقدون هكذا وان كانوا ينتقدون نتنياهو في الغرف المغلقة وفي الاحاديث الخاصة وليس علنا.
حسب هذه التقديرات، كان يمكن لاسرائيل أن تتلقى 45 مليار دولار لعشر سنوات لو لم يرفض نتنياهو عرض اوباما الشروع في مفاوضات، قبل التوقيع على الاتفاق النووي بين القوى العظمى وايران. هكذا ايضا بعد ان هزم رئيس الوزراء في مساعيه لمنع الاتفاق النووي، واظب على رفض بدء المفاوضات مع واشنطن. وعندما سيوقع الاتفاق مع واشنطن، أغلب الظن حتى نهاية السنة، ستتلقى اسرائيل نحو 38 مليار دولار “فقط”، ويحتمل أن تتضرر أيضا قدرة التنمية والانتاج لدى الصناعات الامنية في اسرائيل.
ادعاء باراك هذا، لان ليس فيه جديد، كان سيستقبل، على أي حال، بعدم اكتراث وبهدوء. ولكن في سياق حديثه القى باراك قنبلة إذ قال: “ثمن باهظ يوجد أيضا لحدث آخر. فيه أيضا، مرة اخرى، خليط مقلق من عدم القدرة على تحكيم المصالح الامنية العميقة وسلم الاولويات التي تمليه، الى جانب انعدام الاستيعاب لامكانية التعاون الكامنة مع الولايات المتحدة، وكذا سلوك عملي غير حريص. كل هذه أدت الى انكشاف مقلق تعرضت له اسرائيل حيال تحد امني مركزي. وبسبب حساسية الامور لا يمكنني ان افصل اكثر من ذلك”، أنهى ولم يفسر.
وردا على ذلك قال نتنياهو هذا الاسبوع: “باراك يمكنه أن يهز الذيل وان يبني عودته”.
وردا على ادعاءات باراك طلب بعض النواب، بمن فهم عومر بار ليف من المعسكر الصهيوني عقد لجنة الخارجية والامن في الكنيست، وفي اعقاب التوجهات العديدة له، اوضح باراك بانه لا يثق – وهو ليس الوحيد – بكامل اللجنة، التي تتسرب منها المعلومات، واقترح ان يدعى الى اللجنة الفرعية للاجهزة السرية، حيث ثمانية اعضاء ليكشف امامها سره.
فاتصل النائب ديختر بباراك وطلب منه أن يشركه في المعلومات. فرفض باراك. هو بالذات يستطيب ديختر، يذكره ايجابا حين كان عريفا في وحدة سييرت متكال. في التسعينيات المتأخرة من القرن الماضي، حين تولى باراك رئاسة الوزراء خدم ديختر تحته في منصب رئيس الشاباك. ولكن في السنوات الاخيرة لاحظ باراك بان الاخير يتوجه يمينا. يبدو ان لا بديل له، اذا كان يحب الحياة السياسية في الليكود.
باراك قال لديختر، مثلما قال لاخرين، انه في اللجنة الفرعية لشؤون الاستخبارات فقط سيكون مستعدا لان يعرب عن رأيه. رفض ديختبر واقترح ان يعقد لقاء مع بعض اعضاء اللجنة الفرعية، فشك باراك بان ديختر يحاول ايقاعه في الفخ فرفض الفكرة. فقط للجنة الفرعية توجد مكانة رسمية، منصوص عليها في نظام الكنيست. اما اللقاء مع اثنين، ثلاثة أو اربعة من نواب اللجنة فلا يوجد مفعول ملزم. وهكذا منع مثول رئيس الوزراء الاسبق في لجنة الكنيست.
في اعقاب تراشق الاقوال بينهما، نشر ديختر بيانا يسخر من باراك. “المثول امام لجنة الخارجية والامن ليس برنامجا يمكن أن تستدعيه”، قال واضاف: “الانسان العادي، فما بالك رئيس وزراء ووزير دفاع سابق، يعتقد بان لديه معلومات عن ضرر استراتيجي بامن الدولة، خير يفعل اذا ما نقل هذه المعلومات اليه كرئيس لجنة الخارجية والامن وليس على نمط الاحجية”.
كما قال ديختر ان في المستقبل “سيتضح اذا كان هذا مجرد برق ورعد فقط أم في اعقابه يوجد مطر ايضا. وانهى بيانه بوصفه باراك كمن يعاني من “هوس سلطوي، وفي اسوأ الاحوال من الاكتئاب”.
عصي على الفهم
من يعرف باراك يعرف أنه لا يتأثر بالنقد ولا يكن الضغينة لمنتقديه. لديه القدرة على ان يلتقي ويتعانق مع اكبر مشهريه، وكأنه لم يحصل شيء على الاطلاق. وعليه يمكن التقدير بان اقوال ديختر لم تؤثر على مزاجه. الاكتئاب هو آخر ما يمكن ان ينسب له. فهو يستمتع بالحياة الطيبة التي يقضيها بالمحاضرات وبجلسات الاستشارات للشركات الدولية مقابل مبالغ طائلة تأخذ بالازدياد فقط. ومشوق بالمناسبة أن نعرف كيف يمكن لمن دخل في العقدين الاخيرين في الحياة السياسية في اسرائيل كبسطاء، يخرجون منها هم وابناء عائلاتهم كأغنياء. نتنياهو، ايهود اولمرت، آريه هيرشيزون، آريه درعي، افيغدور ليبرمان، باراك وآخرون.
بين صفقة ما واخرى يحرص باراك على القيام بهوايته. فعندما يرى آلة بيانو، يجلس ويعزف. وعندما يرى ساعة عتيقة يشتريها كتحد، حتى لو كان ثمنها عاليا جدا – كي يفككها ويعيد تركيبها. وهذا لا ينجح له دوما بالمناسبة.
المحقق الخاص مئير فلبسكي، الذي هو واحد من الدائرة الداخلية لمؤيدي باراك ومن شجعه على التنافس على رئاسة الوزراء في 1999 رفع هذا الاسبوع الى الفيس بوك بعضا من تشخيصاته الحادة عن باراك.”فكرت مثل جموع شعب اسرائيل بانه ما تحتاجه الدولة لدرجة اني اوصيت بالتنافس حتى ضد اسحق رابين (الذي أحببته وقدرته) وشمعون بيرس (الذي لم احبه ولم اقدره)”، كتب فلبسكي، “لقد سبق أن اعتذرت عن هذه الفضيحة. ما العمل، تبين كايهود باراك آخر. المحلل اللامع، العارف ذو الذاكرة العميقة، المتصادق والناثر للثناء وذو حسب الدعابة الذي ليس للزعماء الآخرين، تبين كغريب عصي على الفهم على الاطلاق.
“اذهب وحاول ان تشرح كيف أن شخصا مع كل هذا القدر من العقل ينجح في القيام بهذا القدر الكبير من الافعال الغريبة. طلب مني ذات مرة أن اقارن بينه وبين رابين فقلت: “رابين هو حاسوب من الجيل القديم. انت تدخل اليه سؤالا، فترى الالية تعمل ببطء، وفي النهاية تحصل على جواب. اما ايهود فهو الحاسوب الاكثر تقدما، يجيب قبل أن تكون أنتهيت من ادخال السؤال””.
كما كتب فلبسكي: “ايهود باراك هو الحاسوب الاكثر تطورا. ما حصل هو انه في نهاية خط الانتاج أخذ عامل ما مفكا وشرط القرص”.
***
حاول محللون سياسيون في الايام الاخيرة وصف كلمة باراك في ندوة “طريقنا” كخطوة مخططة وذكية من خلالها يسعى الى العودة الى السياسة. نوع من ديغول اسرائيلي، ينتظر الشعب ان يدعوه الى العلم. ولكن من احاديث كانت لي قبل بضعة اشهر مع باراك أخذت الانطباع بانه لا يهتم بالعودة الى السياسة. بالنسبة له يوجد مجال واسع بما يكفي بين اداء منصب رئيس وزراء وبين الاختفاء التام عن عين الجمهور. باراك يدعي بانه مجرد مواطن قلق يسعى لان يؤثر على الخطاب.
فلبسكي هو الاخر يعتقد بان باراك لن يعود الى مركز المنصة السياسية لانه سيستخسر التخلي عن المال الطائل الذي يجنيه في الاعمال التجارية. فلعله يكون مستعدا لان يعمل كمستشار خلف الكواليس، وحتى هذا مشكوك فيه.
لا بد أن باراك يتسلى بدفع الاخرين لان يحلوا لغز ما “قصده الشاعر”. وكان محلل “يديعوت احرونوت” لشؤون الامن اليكس فيشمان طرح امكانية أن يكون باراك المح لفكرة ان الولايات المتحدة اقترحت على نتنياهو أن تخزن في اراضي اسرائيل قنابل خارقة للخنادق العميقة والتي لا توجد في اسرائيل وكذا “اسلحة استراتيجية”. ولكن من القليل من المعلومات التي باراك نفسه كان مستعدا لان يتطوع بها ويشرك بها الاخرين، شرح بانه قصد “مجريات”، “مسيرة”، “حدث متواصل”، حصل بعد أن فكك هو ونتنياهو الرزمة في نهاية 2012 وترك هو الحكومة، وليس مجرد حالة وحيدة حصلت مؤخرا. وترتبط هذه المجريات بالعلاقات مع الولايات المتحدة او تؤثر عليها.
صداقة رائعة مع بوتين
امكانية اخرى هي مثابة “مسيرة” وليست مجرد حدث لمرة واحدة، تؤثر على العلاقات مع الولايات المتحدة هي العلاقات التي تنسج علنا وفي الخفاء بين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أربع مرات في السنة الاخيرة قفز نتنياهو الى زيارات قصيرة في موسكو. واستضافه بوتين في عرض باليه لفرقة بولشوي. هذه بادرة لا يمنحها بوتين في كل يوم وليس لكل شخص. وبين الزيارة والزيارة يكثر نتنياهو من الاتصال ببوتين ويطلعه على تطورات مختلفة او يعرض عليه طلبات مختلفة. وهذا الاسبوع ايضا اتصل نتنياهو ببوتين.
من الصعب فهم هذه الصداقة الرائعة بين الرجلين. لقد كان ممكنا تفسير الرحلة الاولى بالحاجة العاجلة الى اقامة آلية تنسيق مع روسيا منعا لوقوع حوادث بين سلاحي جو الدولتين في سماء سوريا. ولكن ما أن اقيمت الالية، لم تعد حاجة لان تفعل بيد رئيس الوزراء. هذا ينبغي أن يتم وهو يتم على مستوى الضباط الكبار.
نتنياهو لا يشرك اعضاء الكابنت او نواب آخرين، فما بالك الجمهور، في محادثاته مع بوتين، باستثناء البيانات العادية التي لا تقول شيئا تقريبا.
يجدر بالذكر أنه في العلاقات الدولية بشكل عام، وبالتأكيد مع بوتين، لا توجد وجبات مجانية. نتنياهو واسرائيل يدفعان بعملة ليست معروفة بعد طبيعتها، لقاء تسخين العلاقات بين الدولتين. بوتين هو زعيم ذكي، داهية وفنان في التضليل – مزايا أخذها لنفسه من عهده في الـ كي.جي.بي (المخابرات الروسية)، وكل هذه يجب أخذها بالحسبان.
وفضلا عن حق الجمهور في المعرفة، يجب ان نفهم بان نتنياهو يتخذ سياسة جديدة تدفع اسرائيل لان تجتذب في محور تسعى روسيا الى اقامته في الشرق الاوسط. هذه منظومة توجد فيها سوريا بشار الاسد، حزب الله، ايران واليوم تركيا ايضا، تدير غرفة عمليات مشتركة لتنسيق الحرب في سوريا. بل ان ايران سمحت لروسيا بان تستخدم قاعدتها لسلاح الجو في همدان.
غاية هذه المنظومة هي ليس فقط انقاذ نظام الاسد بل وايضا تقزيم مكانة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط ودق اسفين بينها وبين اصدقائها التقليديين بمن فيهم اسرائيل.
لقد سبق ان كانت تقارير عن تسلل طائرات قتالية روسية الى هضبة الجولان، اغلب الظن في مهام تجسس وفحص يقظة منظومات الدفاع الجوي الاسرائيلي. كما نشر بان طائرة تجسس روسية حلقت على طول الشاطيء الاسرائيلي، من الشمال الى الجنوب. ومؤخرا تسللت الى هضبة الجولان طائرة روسية بدون طيار، فشل سلاح الجو في اسقاطها. كل هذا النشاط الجوي الروسي على حدود اسرائيل ليس صدفة. فليست هذه تسللات بالخطأ بل بنية مبيتة. هذه خطوات استراتيجية روسية، ذات اهمية هائلة للامن القومي لاسرائيل. ورغم ذلك، فان حكومة اسرائيل وجهاز الامن يفرضان على نفسيهما الصمت ولا يردان على هذه التطورات.
كان يمكن التخمين كيف كان نتنياهو ووزراؤه سيقفزون لو كانت الولايات المتحدة هي التي فعلت امورا كهذه. فنتنياهو ووزراؤه في الحكومة يتهمون اوباما بان صفقة النووي، التي ترفع العقوبات عن ايران، تحرر الاموال للجمهورية الاسلامية كي تتسلح وتمول الارهاب. ولكنهم ينسون الاشارة الى أن من شجع التوقيع على الصفقة اكثر من أي قوة عظمى اخرى كانت روسيا، التي وقعت هي الاخرى عيه. وهذا هي روسيا التي تسلح ايران وتبيعها اسلحة متقدمة مثل صواريخ ارض – جو من طراز اس 300.
الاستنتاج هو أنه بينما نتنياهو ووزراؤه ونوابه يسمحون لانفسهم، بشدة وقاحتهم، التشهير بمن تحسن لاسرائيل وهي حليفتها، لا يتجرأون على فتح الفم على روسيا. يبدو أن رهبة بوتين وقعت عليهم.
حتى لو لم يكن باراك يقصد ذلك، يجدر بالجمهور في اسرائيل أن يعرف بان التقرب الى روسيا هو لعبة خطرة، وان العلاقة بين نتياهو وبوتين لا تخفى عن عين الادارة الامريكية وتثير لديها بعض الشكوك، وان لم تكن علنية تجاه اسرائيل.
معاريف 26/8/2016
صحيفة رأي اليوم