طعم الملح في الهواء، وبقع ضوء تضيء شاطئ طرابلس نحو أول البحر، يقترب "محمد" بخطوات ثابتة، يبتعد عن الصخور الصغيرة بينما يلتفت خلفه وكأنه يودع عالم المخيم إلى عالم مجهول لا يعرف شكله، كل خطوة نحو المركب الذي سوف تأخذه إلى احتمالات الموت، هي شكل من أشكال النجاة بالنسبة له، لأن الحياة علمته أن كل الذين راهنوا بحياتهم في سبيل النجاة من واقعهم، قد عرفوا كل معاني الموت قبل أن يصلوا إلى مواجهة الموت في البحر.
عشرات الشبّان، بدأت تظهر أخبار هجرتهم بشكل فاقع وعلني وجماعي، من مراكب تنطلق من بحر شمال لبنان، تحمل شبّاناً فلسطينيين من كافة المخيمات، في وقت يبدو أنّ عمليات التهريب فيه بدأت تأخذ طابعاً علنياً من مرافئ الشمال، كما تظهر مؤشرات وشهادات وصور، وبدأت توفر تلك العمليات فرص هروب حقيقية من واقع لا يتحمّل اللاجئون الفلسطينيون مسؤوليته، بل هم بالفعل ضحاياه.
الموت خلال الهجرة أفضل من الموت جوعاً!
يقول "محمد" لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" وهو أحد الشبان الفلسطينيين الذي همّوا لركوب البحر في سبيل الهجرة من مخيمات لبنان "الجوع موت واليأس كمان موت، حتى العتمة يلي عايشين فيها بالمخيم هي تدريب يومي على الموت، لهيك البحر صار باب مفتوح يا لموت أكبر يا لحياة جديدة، لهيك صار البحر هو أملنا الوحيد، لأني موت وأنا عم حاول هاجر، أفضل من إني موت وأنا جوعان".
يتأمل محمد البحر الممتد أمامه، يتخيل عائلته وأصدقائه، ويستسلم لحقيقة أن هذه الحكاية هي حكايته وعليه أن يعيشها، وأن السبب الرئيسي لكل ما يفعل، هو أن المخيم فارغ من كل معاني الحياة، حتى صارت الحياة بلا أي جدوى، "نحن عم نجوع كرمال مين، أنا مستعد أجوع كرمال فلسطين، وأموت كرمال فلسطين، بس الفصائل والمحاور خلت المخيمات بلا معنى ما إلها أي دور غير أنها تعاني، وخلتنا نعيش موتنا بلا هدف، كنا نعيش كرمال فلسطين ونموت كرمال فلسطين، ونجوع كرمال كرامتنا يلي منستمدها من فلسطين، بس اليوم سرقوا كرامتنا وسرقوا فكرة فلسطين من المخيمات، وما في أصعب من أنك تموت بلا هدف، هيك كرمال ولا شي".
باع محمد كل ما يملك من أجل الهجرة عبر البحر، وأدرك أن المال الذي جمعه، لا يسمح له بالهجرة عن طريق "غلايني" المشهور جداً كتاجر يقوم بتسفير طالبي اللجوء بشكل نظامي وآمن نحو أوروبا والذي تتراوح أسعار رحلته بين 10 آلاف دولار حتى 14 الفاً، لذا هو يطرق أبواب مهربين آخرين صاروا معروفين جداً لدى معظم الطامحين للمغادرة إلى دول "الاستقرار والأمان المعيشي" الأوروبية.
يقبض محمد على مبلغ 4000 دولار يملكه، كأنه طريقه الوحيد للنجاة، ويعلم حجم المخاطرة، كونه لو عاد من البحر إلى المخيم سيكون مفلساً تماماً.. يقول محمد "يا ريت هي الحكاية مش حكايتي، بس للأسف هاد واقعنا، محروم من توديع أمي، لأني ما بدي أخبرها، أغلب الشباب يلي بتشوفهم طالعين بالبحر ما بخبروا أهلهم، بخبروا أصحابهم بس، لأنه الأهل مارح يفهموا شعورهم، أنا أمي مارح تفهم أني طالع على البحر لأني بحب الحياة، بتمنى أعيش حياة طبيعية، مو طالع كرمال أموت، أنا مو شايف الموت هلأ، أنا شايف فرحه أمي لما أخبرها أني صرت بأوروبا".
ظروف اقتصادية وحقوقية ومحليّة طاردة من المخيّمات
تعيش المخيمات الفلسطينية في لبنان ظروفاً تعتبر الأصعب، منذ بداية الانهيار الاقتصادي، التي صنفها البنك الدولي كواحدة من 3 أسوأ أزمات اقتصادية عرفها العالم والتي أدت إلى فقدان العملة الوطنية لأكثر من 85 ٪ من قيمتها أمام الدولار، الأمر الذي دفع أهالي المخيمات لمواجهة واحدة من أصعب الظروف الاقتصادية خاصة بعد ترافق الانهيار الاقتصادي مع أزمة جائحة "كوفيد19".
وبعد نداءات متتالية أعلنت الأمم المتحدة في مؤتمر صحفي على لسان المدير العام لوكالة الأونروا في لبنان "كلاوديو كوردوني" "إن اللاجئين الفلسطينيين يكافحون من أجل البقاء، وقد ازدادت احتياجاتهم بشكل كبير مع وصول معدلات الفقر إلى ٧٣٪ في صفوف اللاجئين في لبنان"، كما يرى قطاع التغذية في لبنان في مسحه الأخير الذي أجراه على عموم البلاد وفي المخيمات الفلسطينية تحديداً، شمل النساء والأطفال دون سن الخامسة، أظهر أن معدلات ضعف النمو مرتفعة ومثيرة للقلق في صفوف الأطفال الفلسطينيين حيث وصلت إلى حد 10,5 بالمئة، بينما يعاني 4% من الأطفال الفلسطينيين من سوء التغذية الحاد، وترتفع النسبة لدى الأمهات الفلسطينيات المرضعات إلى 9,5%.
هذه الأرقام تؤكد على الواقع الإنساني الصعب داخل المخيمات الفلسطينية، واختفاء الحلول في ظل تدهور شامل يكتسح البلاد، ولكن يمكننا أن نضيف على أسباب الهجرة التي تسبق الجوع بمراحل، وهي حالة التهميش الكبيرة التي تعيشها المخيمات الفلسطينية، وفقدان أسباب الاستمرار في ظل الانقسام السياسي الفلسطيني الرهيب الذي يؤثر بعمق على الشارع الفلسطيني، والأهم أيضاً ضياع المشروع الوطني الذي يمكن أن يستند عليه اللاجئ، ليجد لبقائه في المخيم معنى حقيقياً يمكن من خلاله تبرير وجوده.
إن أقسى ما يعيشه الفلسطينيون في المخيمات اليوم، هو حالة الفراغ التي تجعل حياة الفلسطيني بلا معنى أبداً، حيث أكد أغلب المُتحدثين في هذا التقرير، أن الظروف التي يعيشون فيها صعبة جداً ولكن الأصعب من ذلك أنها بلا هدف، حيث أنهم يكابدون البؤس والفقر، وارتفاع نسب البطالة بشكل ملحوظ، وما يجعلهم أكثر تضرراً في الأزمات الاقتصادية، هو حرمانهم من مزاولة أكثر من 60 مهنة من ضمنها الطبابة والتعليم… وحرمانهم من حقوقهم المدنية والقانونية، ولا يملكون سوى وثيقة السفر اللبنانية، التي تجعل تنقلهم وسفرهم خارج لبنان غاية في الصعوبة.
اختبار طرق خطرة وإصرار على الإعادة!
دون أي احتمالات، يجلس "ربيع" وهو لاجئ فلسطيني في لبنان يبلغ من العمر 40 عاماً أمام منزله وهو لا يملك أي خيار آخر غير الهجرة، يدقق في أوراقه الثبوتية، وهو مدرك أنه حتى الهجرة ليست خياراً اليوم بل هي مفروضة عليه فرضاً في ظل الواقع المتردي الذي يعيشه في المخيم، لم يتبقى له أي شيء، لقد خسر منزله وسيارته وكل ما يملكه في حياته، في محاولته الأولى للهجرة، عندما قرر السفر إلى سوريا ومنها إلى تركيا ومن ثم اليونان، وهو طريق اختبره بعض اللاجئين للفرار من واقعهم عبر سوريا، رغم أنه يعرضهم للكثير من المخاطر.
اقترب ربيع من طفليه الاثنين واحتضنهما، قبل أن يغادر لتعتقله المخابرات السورية في نقطة المصنع الحدودية خلال محاولته السابقة، على الرغم من أنه لم يزر سوريا في حياته، ولم تكن له أي علاقة مع سوريا، اعتقل النظام السوري ربيع، ليتم نقله إلى فرع فلسطين ومن ثم إلى فرع الجوية، وينتهي به المطاف في الأمن السياسي، ليتم إطلاق سراحه بعد أشهر طويلة من الاعتقال التعسفي دون أي تهمة محددة يقول ربيع " كل شيء راح، انتهى، وما رجعولي شي أخذولي الموبايل و 17 ألف دولار، جسدي لليوم عليه آثار الضرب، وأظافر قدمي لليوم ما بتطلع بعد ما اقتلعوها، هي الحياة يلي عشتها كرمال أطلع من المخيم، ولليوم لو في إمكانية أطلع بهجرة بطلع، ليش بدي أبقى بالمخيم، شو بيعملي المخيم ؟ شو قدملي المخيم ؟ ولا شي غير المشاكل، العالم عم تموت بالشوارع، العالم عم تموت بالغلط بس لأنه في تنين حشاشين صاروا يطخو على بعض، كل فترة بموت حدا، شو ناطرني بالمخيم ؟!... المخيم عنا غابة، غابة كبيرة… وما حدا بقدملك شي شايفينا عم نموت ولا أونروا ولا فصائل عم تقدم شي".
اليوم يحاول ربيع أن يعيد جمع المال من جديد لكي يحاول الهجرة للمرة الثانية، يعمل في عملين منفصلين في دوامين صباحي ومسائي، على أمل واحد أن يرى نفسه خارج المخيم، وأمام عامل الوقت يقول ربيع " كل شيء متفق عليه، نحن أمام موجة هجرة جديدة، ولو استمر الوضع على هذا الوضع بموجة الهجرة هي من هون لشهرين مارح يبقى في شباب بالمخيمات، وكل شيء متفق عليه، الدولة عم تسمح بالهجرة، في تنسيق مع الدولة، مركب في خمسين أو ستين واحد عم يطلع قدام الدولة، تحت في نقطة للجيش عم يمرق منها المركب، كيف عم يمرق وكيف بالمياه الاقليمية عم يمرق، الدولة عم تسهل للعالم تهاجر، وأظن هناك تنسيق لأن في الحياة في لبنان كل شيء وارد، ما كان الضباط ياخدوا رشوة بالمطارات كرمال يطلعو العالم؟ هلأ هيك بالبحر، كرمال هيك مش خايف من الوقت، في موجه هجرة كبيرة عم تصير ومستمرة ومطولة".
دور تصاعد الجريمة.. وتهريب البشر
تقرير مؤشر الجريمة المنظمة العالمي يؤكد: "يعيش أكثر من ثلاث أرباع سكان العالم في بلدان فيها مستويات عالية من الإجرام، وفي بلدان لديها قدرة منخفضة على الصمود في مواجهة الجريمة المنظمة" كما اعتبر المؤشر أن منطقة غرب قارة آسيا التي تشمل الوطن العربي، هشة جداً، وذات مستويات متدنية من الحماية، بتسجيلها نسبة 5,78 كما تعتبر المنطقة الوحيدة في آسيا التي تحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم من حيث الإجرام، ومن بين أكثر الجرائم شيوعاً احتل الاتجار بالبشر وتهريبهم أكثر الأسواق الإجرامية انتشاراً في العالم، وذلك بسبب النزاعات والأوضاع الاقتصادية الصعبة.
ولبنان من بين تلك البلدان، الذي سجل أرقاماً قياسية في نسبة الجريمة المنظمة التي تقع على أراضيه كما كانت الأرقام عالية جداً بمستوى مشاركة الدولة في هذه الجرائم، وتدني مستوى حماية الأفراد كون "الدولة شريكة في هذه الجرائم"، وهذا هو الاعتراف الذي تزايد مؤخراً بحسب التقرير، حيث تكون الدولة فاعله بشكل مباشر في الجريمة المنظمة أو من خلال العمل على إدامتها للاستفادة منها.
و سجل لبنان نسبة 6,76 على مؤشر الإجرام، كما كانت الأرقام في نسبة تهريب البشر 6,5 وهذه الأرقام قابلة للزيادة مع موجة الهجرة الجديدة، كما ارتفعت الأرقام في نسبة الجهات الفاعلة التابعة للدولة المشاركة في الجريمة المنظمة إلى 9,5 أما معدل الشبكات الإجرامية في عموم البلاد سجلت 7,0، تؤكد هذه الأرقام مدى الهشاشة التي تعيشها الدولة اللبنانية، ومدى تعمق دورها في مشاركتها في الجرائم المنظمة التي تحصل ضمن حدودها، وأن الهشاشة تأتي من غياب الاستقرار السياسي وغياب الأمان الاقتصادي، وهذا ما جعل المقيمين ضمن البلاد، عرضة للشبكات الإجرامية المنظمة التي تعمل على تهريب البشر بشكل أساسي.
بينما ذهب يوسف أحمد مسؤول اتحاد الشباب الديمقراطي أبعد من ذلك، واعتبر في حديث لبوابة اللاجئين الفلسطينيين أن موجة الهجرة هذه ليست الأولى، فالمخيمات عانت من موجات هجرة في منتصف السبعينيات وبعد الحرب الأهلية في لبنان، والموجة الأكبر بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ولكن أكد أحمد أن علينا أن نفرّق بين الهجرات السابقة نتيجة حروب وهزائم سياسية وهجرة طوعية فردية للشباب يقوم بها الشباب الفلسطيني اليوم.
السؤال المطروح اليوم ما الذي يدفع الشباب للهجرة، والمخاطرة بأنفسهم من خلال قوارب البحر؟
يقول يوسف أحمد "بكل تأكيد ما يدفع الشباب اليوم للهجرة هو الواقع المظلم الذي يعيشه هؤلاء الشباب، والذي يتحمل مسؤولية هذه المخاطر التي تدفعهم للهجرة هو القوانين اللبنانية المجحفة التي تضع جداراً كبيراً من الحرمان والتمييز والقهر أمام هؤلاء الشباب، فغالبية الشباب المهاجرين هم من خريجي الجامعات، وهذه مشكلة كبيرة، مشكلة لأنها تفرغ المجتمع الفلسطيني من الكفاءات، ولكن هذه الفئة محرومة من أبسط حقوقها، اليوم نتحدث عن نسبة بطالة تجاوزت الثمانين بالمئة بين صفوف الشباب الفلسطيني، أيضاً المسؤولية الثانية تقع على عاتق الأونروا التي تقوم بتقليص خدماتها، هذا بكل تأكيد يترك أثراً على حياة الشباب الفلسطيني الذي جعل أفق التوظيف أمام الخريجين محدوداً جداً، والطرف الثالث والأهم الذي تقع عليه المسؤولية هي منظمة التحرير الفلسطينية، على اعتبار ما تمثله هذه المنظمة التي قصرت كثيراً في رعاية واحتواء هؤلاء الشباب، لذلك نحن من خلالكم نطلق هذه الصرخة لوجود حلول فورية لموجة الهجرة وأنت يتحمل الجميع مسؤوليته أمام ما يحدث".
الصرخة التي أطلقها يوسف أحمد، كان قد أطلقها الشباب الفلسطيني قبل سنوات، لإنقاذه من واقعه الصعب الذي تجب مواجهته في ظل غياب الدور الحقيقي للفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير، وربما يدل التردد الذي أظهرته الفصائل خلال محاولة بوابة اللاجئين الفلسطينيين التواصل معهم لأخذ رأيهم وتفسيرهم حول تصاعد موضوع الهجرة على ضعف قدرتهم على احتواء الموقف.
"إنهم غير قادرين على استيعاب الواقع الذي تعيشه المخيمات اليوم" يؤكد يوسف أحمد/ مضيفاً أن الواقع السياسي السلبي وحالة التراجع في المشروع الوطني الفلسطيني إلى جانب الأزمة الاقتصادية، انعكسوا سلباً إلى حالة إحباط ويأس، وأيضاً حالة الانقسام الفلسطيني، هذا كله ترك أثره على الشباب الفلسطيني وجعل الهجرة هاجسهم الوحيد.
في رحلة استمرت خمسة أيام، وصل "محمد" إلى إيطاليا قبل أيام... وصوله يعني نهاية حكايته مع المخيم وبداية حكاية جديدة، وبرأيه أن النتيجة كانت تتحمل كل هذه المخاطرة والعناء.
فكل الذين خرجوا مثل محمد وسوف يخرجون لاحقاً نحو البحر، مؤمنون بالحياة، وإيمانهم هذا يولد من الظروف الصعبة ومن ثم الانهيار الاقتصادي، لتجعل واقع الفلسطيني في المخيمات أكثر صعوبة، أول ما قاله محمد: إنه سعيد وحزين "الرحلة لم تكن سهلة أبداً، ولكن أنا سعيد وحزين بنفس الوقت، سعيد لأني رح أبدأ حياتي من جديد، بس حزين على كل يلي تركتهم وراي بالمخيم، ما بعرف شو يلي ناطرهم، ولا كيف ممكن تستمر حياتهم، كل أصدقائي وأهلي بيتي وغرفتي ومخيمي يلي كبرت فيه وتعلمت معنى الحياة بزواريبه صار من الماضي بالنسبة إلي، لأني من أول ما طلعت على المركب كان لازم أتعلم أنسى، ومن أول ما وصلت على إيطاليا اكتشفت أني رح كون فاشل بالنسيان".