يقف اللاجئ الفلسطيني محمد محمود أبو خزنة أمام صورة ولديه "كمال وعدنان" المعلقة على الحائط منذ أكثر من 44 عاماً، فهو لا يكل ولا يمل من هذه الوقفة الذي يكررها يومياً.. ينظر في عيون ولديه ويكلمهم "الله يرحمكو يابا يجعل مثواكم الجنة" ومن ثم يحتض الصورة ويبكي ألماً على فراقهم بعد أن استشهدا أمام عينيه خلال مجزرة مخيم تل الزعتر في آب/ أغسطس عام 1976.
يقطن محمد خزنة "أبو كمال" اليوم في تجمع وادي الزينة للاجئين الفلسطينيين.. حطت به الأقدار في هذا المكن بعد رحلة تشرد وفقدان خبرها إبان المجزرة التي ارتكبت على يد مليشيات من أحزاب اليمين اللبناني بمساندة النظام السوري آنذاك وصمت من المجتمع الدولي.
يستذكر الأحداث التي عاشها قبل 46 عاماً وكيف تمت محاصرة المخيم لـ 52 يوماً وقطعت عنه المياه والكهرباء والطعام، وسط وابل من القذائف التي كانت تنهال عليه.
حينها في كانون الثاني/ يناير عام 1976 فرض أحزاب اليمين اللبناني المكونة من "مليشيا نمور الأحرار" وهي الذراع العسكري لحزب الوطنيين االأحرار بزعامة رودي شمعون آنذاك، ومليشيا حراس الأرز، ومليشيا حزب الكتائب حصاراً محكماً على المخيمات الفلسطينية شرقي بيروت التي صمدت دفاعاً عن نفسها.
لكن هذا الصمود، جعل المليشيات تستعين بجيش النظام السوري الذي تدخل بعد حوالي خمسة أشهر في حزيران / يونيو من ذات العام ليشتد الخناق على مخيم تل الزعتر الذي كان يؤوي عشرين ألف لاجئ فلسطيني بالإضافة إلى مواطنين لبنانيين في مساحة لا تتعدى كيلو متراً واحداً .
في 22 حزيران/ يونيو بدأ الهجوم العسكري على المخيم، وعلى مدى 52 يوماً متتالياً، أمطرت القذائف والصواريخ المخيم بلا رحمة ولا توقف، حيث قدر عدد القذائف بخمسة وخمسين ألف قذيفة انهمرت على لاجئين فلسطينيين عزّل، كان قد أنهكهم الحصار والجوع والعطش، إلى حد يفوق التخيل، ويصل إلى مرحلة أكل لحوم القطط والكلاب الشاردة.
46 عاماً على #مجزرة_تل_الزعتر .. اجتث المخيم من الوجود لا الذاكرة pic.twitter.com/0PvKcI3A03
— بوابة اللاجئين الفلسطينيين (@refugeesps) August 12, 2022
استشهد ولده جائعاً في الحصار ودفنه ليلاً تحت شجرة تين
يحكي أبو خزنة قصة استشهاد ولديه (كمال وعدنان) بحرقة وألم كبيرين والدموع لا تفارق مقلتيه.. ابنه الصغير عدنان اسشهد جائعاً وهو يحمل علبة سردين عندما عاجله القتلة برصاصة قناصة في رقبته وهو ما زال يحمل علبة السردين ورغيف خبز مصنوع من الحمّص ولم يأكل.
وفي التفاصيل يقول: ابني عدنان كان موجوداً عند أمه في الملجأ قبل أن يأتي إلي حيث كنت في ملجأ آخر ويطلب أن اعطيه علبة سردين، فعلاً حمل علبة السردين ورغيف خبز مصنوع من الحمص لأننا كنا نخبز الحمص بعد طحنه في ظل الحصار، وهممت لكي أعيده الى الملجأ ولكنه فجأة صرخ "بابا انا تصاوبت" اقتربت منه وإذا هي رصاصة قناص في رقبته ومن ثم وقع أرضاً.
ويضيف: حملت ابني وتوجهت به بسرعة الى وحدة الهلال الأحمر في المخيم، وعندما وصلت به الى هناك قالوا لي أنه فارق الحياة.
دفن محمد ابنه تحت شجرة تين في الليل حيث لم يكن باستطاعة الاهالي المحاصرين دفن الشهداء نهاراً، بل حتى أن أغلب الشهداء كانوا يبقون لأيام في الطرقات دون أن يستطيع أحد انتشال جثامينهم من شدة القصف واستهدافهم المتواصل بالقناصة.
يضيف أبو خزنة أن ابنه الثاني كمال استشهد بعد 7 ايام من استشهاد أخيه الصغير، عندما وقعت قذيفة بجانبه وأصابت شظية رقبته ليفارق هو الحياة ايضاً مشيراً إلى أنه دفن ابنه الثاني ليلاً في حديقة خلف أحد الأبنية.
يؤكد أبو خزنة أن الجثث في ذلك اليوم كانت لا تعد ولا تحصى وملقاة على الطرقات لا يوجد من يستطيع دفنها، حتى تنهاشتها قطط الشوارع.
قتلوا الناس وهم على طابور ماء للشرب
تقول مهدية أبو خزنة ابنة محمد وشقيقة الشهيدين: كان يوجد في المخيم حفرة كبيرة جداً يرمون الناس فيها عند استشهادهم وأزقة المخيم امتلئت بالجثث وكنت أمشي بين الجثث لكي أصل الى البيت بعد عودتي من تعبئة المياه من ماسورة ماء وحيدة كانت متوفرة في ظل الحصار
يؤكد أبو خزنة أن المخيم كان محاصراً من جميع الجهات وأن "القتلة المجرمين قطعوا الماء والطعام عن أهل المخيم" ، مشيراً الى أنه بدأ يطحن الحمص على الجاروشة أكثر من مرة ومن ثم يخبزه على الصاج وأنه كان يجلب المياه بصعوبة كبيرة حيث أن الناس كانت هدفاً للقناصة والقذائف وهي على طابور المياه، "كانت ماسورة ماء واحدة متوفرة في المخيم إذا خرج إليها 10 أشخاص لتعبئة الماء قد يعودون 3 فقط".
تقول مهدية: في أحد الايام حيث اشتد العطش وحاجتنا للمياه قلت لأبي أريد أن اذهب لتعبئة المياه بالتنكة فمنعني وقال لي "هلء بتروحي ما بترجعي" مؤكدة أن القذائف التي سقطت وقتها على المخيم غطت سمائه، ولكنها ذهبت ووقفت بالطابور وفجأة وجدت نفسها انها اقتربت كثيراً رغم أن الطابور كان طويلاً لتكتشف أن قذيفة استهدفت عشرات اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا في مقدمة الطابور ينتظرون حصولهم على قليل من الماء.
قصفوا ملجأ يؤوي مئات الفلسطينيين وردموه عليهم.. لم يخرج أحد جثثهم حتى اليوم
تضيف: في أحد الايام وبينما أنا أخبز على الصاج لمحت جارتي وهي قادمة نحوي تحمل على راسها وعاء من العجين أصابتها قذيفة أمام ناظري حولتها الى اشلاء، ولفتت الى أن هناك مبنى مليئ بالسكان أكثر من 400 شخص كانوا موجوجدين في ملجأ البناء فصُبت معظم القذائف على أعمدته الرئيسية لينهار المبنى على من كان يلتجئ في قبوه وولم يتسطع أحد إزالة الردم وإخراجهم بعد ذلك.
أكد مسبقاً رئيس رابطة أهالي مخيم تل الزعتر يوسف الحاج هذه الحادثة المؤلمة وبأن جميع من كان في البناء فقدوا ولم يخرج منهم أحد، وما يزال أهالي المخيم يطالبون بمعرفة مصير مئات المفقودين من أبناء المخيم، دون جدوى.
لا توجد أي إحصائية دقيقة لعدد شهداء مجزرة مخيم تل الزعتر، لكنها بحدها الأدنى تتجاوز الـ 3000، بل إن رئيس رابطة تل الزعتر، يوسف الحاج، أكد أن الأيام الأخيرة وحدها شهدت قضاء الآلاف.
وصف الحاج ما حل بتل الزعتر بإحدى أكبر الفظاعات منذ الحربين العالمتين، حيث دمر المخيم عن بكرة أبيه، وأخرج كل سكانه.
وكان تل الزعتر، المخيم الثاني الذي يجري تدميره في لبنان، عقب تدمير مخيم النبطية في الجنوب، على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1974.