يحلّ شهر رمضان على اللاجئين الفلسطينيين في مخيم عقبة جنوب غرب مدينة أريحا بالضفة المحتلة هذا العام مختلفاً عن الأعوام السابقة.
أجواء من الحزن تملأ موائد الصائمين في المخيم، بعد ارتقاء شهداء وإصابة العشرات من أبنائه جراء الاعتداءت التي تصاعدت خلال أيام رمضان وقبله من قبل جيش الاحتلال "الإسرائيلي"، مع تصاعد اقتحاماته ومداماته للمخيم بشكل شبه يومي، وارتكابه خلال الأشهر الأخيرة مجازر عدة ضد اللاجئين الفلسطينيين في المخيم تركت ندبة في أرواحهم خلال الشهر الفضيل.
وغابت مظاهر الاحتفاء برمضان هذا العام داخل مخيم عقبة جبر بعد أن كان له أجواءه وطقوسه الخاصة خلال الأعوام الماضية تتمثل في تزيين الشوارع والأزقة.
هذا العام أصبحت موائد الإفطار غير مكتملة الأركان، فهنا كان يجلس أدهم، وهناك كان يجلس ثائر لتناول طعام الإفطار قبل أن يرتقيا برصاص الاحتلال، أمّا الأكلة المفضّلة لثائر عوضات فلا تقوى والدته على إعدادها، وإن استطاعت على ذلك فتسبقها دموعها على ولدها الذي رحل شهيداً.
كان للشهداء أكلاتهم المفضّلة خلال رمضان
يقول اللاجئ الفلسطيني وائل عوضات من مُخيّم عقبة جبر لبوابة اللاجئين الفلسطينين وهو والد الشهيدين رأفت وإبراهيم: بكل تأكيد رمضان يختلف هذا العام عن الأعوام السابقة، فاليوم بعض مقاعد مائدة الطعام فارغة، وعائلتنا التي كانت مكوّنة من 7 أفراد أصبح يجلس منها على طاولة الإفطار 4 أفراد فقط، فرأفت وإبراهيم رحلا شهداء، وأخاهم الثالث عبد اعتقل يوم استشهادهما.
ويُتابع والد الشهداء بصوتٍ ثابتٍ رغم فقده: أبنائي الشهداء كان لهم أكلاتهم المفضّلة، وشرابهم المفضّل، وكان وجودهما على طاولة الإفطار يُساوي الدنيا وما فيها، فكان لكل واحدٍ منهما متطلباته في شهر رمضان الذي تلتم فيه العائلة في جوٍ عائليٍ دافئ، ولكن اليوم هناك أكلات أصبح طهيها ذكرى من الماضي، فرحل من كان يُحبها، إلى جانب أنّ والدتهم يتملّكها الحزن بشكلٍ دائم وخاصّة قبل موعد الإفطار، فهذه أم ودائماً تتذكّر فلذات كبدها الذين كانوا يملؤون عليها البيت.
ويضيف عوضات الذي جرى اعتقاله على يد قوّةٍ صهيونيّةٍ خاصّة من داخل منزله في المُخيّم في اليوم التالي لحديثه مع بوابة اللاجئين الفلسطينيين: أن "هذه نعمة من الله، أكرمنا الشهداء بهذه المكانة، واليوم هناك في المُخيّم حالة من الحذر الشديد في ظل أنّ الاحتلال يقتحم المُخيّم يومياً بعشرات الدوريات التي قد تصل إلى 50 دوريّة عسكريّة في الاقتحام الواحد، ولكنّ رغم كل ذلك أصبح دخول الجيش إلى المُخيّم ليس بالأمر السهل، فأصبح دخوله مكلفاً، لا سيما مع وجود أبناء المقاومة الذين يدافعون عن المُخيّم إلى جانب الأهالي بكل قوّة وإمكانات متاحة".
الاحتلال فشل في كسر شوكة المُخيّمات
يؤكد الحاج "أبو إبراهيم" عوضات: الاحتلال لم يفشل فقط في كسر شوكة المُخيّمات الفلسطينيّة ومن ضمنها مُخيّم عقبة جبر، بل فشل على جميع النواحي، استخباراتياً، وإعلامياً، فهذا الجيل الفلسطيني الحالي أثبت عكس ما راهن عليه الاحتلال، وكلنا ثقة بأن يكون جيل التحرير والعودة إلى البلاد.
أجواء شهر رمضان لدى عائلة عوضات لم تختلف كثيراً عن أجواء عائلة الشهيد محمود جمال حسن حمدان (22 عاماً)، والذي ارتقى متأثراً بإصابة حرجة أصيب بها برصاص الاحتلال خلال اقتحام المُخيّم ظهر الأوّل من شهر مارس/ آذار الجاري، ليحضر الحزن بقوّة على موائد العائلة، لا سيما وأنّه جرى إعدامه بدمٍ بارد دون أن يُشكّل أي خطر على قوات الاحتلال لدى اقتحامها للمُخيّم.
يقول محمد حمدان، عم الشهيد محمود لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ حال العائلة كما جميع عوائل الشهداء في مُخيّم عقبة جبر وسائر فلسطين المحتلة، وبكل تأكيد شهر رمضان الفضيل هذا العام مليء بالحزن، وخاصّة عند أم الشهيد، ولكننا نفتخر بهؤلاء الشهداء الذين كرّمونا بهذه المكانة المُشرّفة.
3 فرق من جيش الاحتلال أطلقوا النار عليه وأعدموه في وضح النهار
يُتابع عم الشهيد: الحزن حاضر أيضاً عند والد الشهيد محمد، لا سيما وأنّ الشهيد كان مقرباً من والده ويعمل معه في مهنة النحل واستخلاص العسل، فمنذ صغره جهّز له أخي جمال بدلةً خاصّة للتعامل مع النحل وكان يأخذه معه دائماً إلى الحقول التي يعمل بها، وعندما أصبح شاباً احترف هذه الصنعة، وبعد ذلك عمل في مجال النجارة.
وحول يوم الاستشهاد، يؤكّد عم الشهيد أنّه جرى تصفية محمود بشكلٍ متعمّد عندما كان يستقل درّاجته النارية في أحد شوارع المُخيّم من قِبل قوات الاحتلال الخاصّة التي كانت مقسّمة إلى ثلاث فرق، فبدلاً من إصابته أعدموه بشكلٍ مباشر، وكل فرقة أطلقت النار عليه على التوالي، وعندما كانت طواقم الهلال الأحمر تقدّم له الإسعافات الأوليّة كان يعلم الطاقم أنّه شهيد وفارق الحياة، فهذا اغتيال في وضح النهار، إذ رفع جنود الاحتلال أجهزة الإنعاش عنه واختطفوه أمام الجميع في أحد الجيبات العسكريّة وانسحبوا من المُخيّم.
وبالعودة إلى شهر رمضان وطقوسه الخاصّة، يُشير حمدان إلى أنّ رمضان العام الماضي كان مليئاً بالبهجة كما العادة، وكان شبّان المُخيّم يزيّنون جميع أزقّة وشوارع المُخيّم إلى جانب الفرحة التي كانت تعم المُخيّم، ولكن اليوم هناك حوالي ستّة شهداء في المُخيّم خلال وقتٍ قصير، والذي يجعل الحزن مركّباً هو قضية اختطاف جثامين الشهداء، وبحمد الله استطعنا استعادة جثمان محمود وإكرامه بالدفن، إلّا أنّ هناك العديد من العائلات لم تسترد جثامين أبنائها وتُعاني الأمرّين جرّاء هذا العذاب المتعمّد من قِبل الاحتلال.
المُخيّم عاش لحظة تاريخيّة.. الاشتباك مُستمر
ورغم ما يرتكبه الاحتلال من انتهاكاتٍ يوميّة بحق مُخيّم عقبة جبر، يؤكّد حمدان: أنّ المُخيّم عاش لحظةً تاريخيّة لم يعشها منذ النكبة، لا سيما وأنّ مقاومي المُخيّم اشتبكوا مع قوات الاحتلال التي اجتاحت المُخيّم في أوّل مرّة لأكثر من 6 ساعات متواصلة، "وكانت فرحة حقيقيّة تُشفي الصدور رغم وجود المتعاونين وضِعاف النفوس الذي يعملون مع الاحتلال، ما يحتّم علينا جميعاً أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر"
هجمة مكثّفة على المخيم
عضو اللجنة الشعبيّة في المُخيّم مصطفى بلهان يؤكد لموقعنا: أنّه منذ بداية شهر رمضان وقبله، يشهد المُخيّم اجتياحاتٍ ليليّة يوميّة يتم خلالها تفتيش وتكسير وتحطيم أثاث البيوت في المُخيّم واعتقال ساكنيها، حيث جرى اعتقال قرابة 5 فلسطينيين من المُخيّم في الأيّام الأولى لشهر رمضان.
ويرى بلهان، أنّ هذه الهجمة المكثّفة على المُخيّم غير طبيعيّة، فهناك شهداء ومجازر، وإصابات بحالة خطيرة ما زالت تتلقّى العلاج في المشافي، ومنذ فترة طويلة جداً لم يشهد المُخيّم مثل هذه الانتهاكات، مُشيراً إلى أنّه وبالتوازي مع كل ذلك، فإنّ المُخيّم يعيش حالةً من الوحدة الحقيقيّة، ففي السابق كانت الفصائل أو المؤسّسات غير موحّدة بالشكل الحقيقي الحالي في وجه هذه الهجمة الشرسة التي تشنّها قوات الاحتلال على المُخيّم.
وحدة حقيقيّة في المُخيّم والاحتلال لا يقيم وزناً للشعائر
يضيف بلهان: الأهالي والفصائل والمؤسّسات في المُخيّم اليوم يرفعون شعاراً واحداً (الوحدة هي الأساس)، وبالرغم من جرائم الاحتلال فإنّ أهالي المُخيّم يعيشون طقوس شهر رمضان ولكن بحذرٍ شديد، فالاحتلال لا يحترم أي شعائر أو طقوس لأبناء شعبنا ويداهم المُخيّم في أي وقت وفي وضح النهار بعد أن كانت المداهمات تتم في الليل.
وتجدر الإشارة إلى أنّه ومنذ مطلع العام الحالي 2023، بلغت حصيلة حالات الاعتقال في أريحا فقط نحو 90 حالة اعتقال، وتركّزت غالبيّتها في مُخيّم عقبة جبر للاجئين الفلسطينيين، وذلك بحسب بيانات نادي الأسير الفلسطيني، وهذا إلى جانب اعتقال الجرحى من داخل المُخيّم، وتصفية شبّان المُخيّم بدمٍ بارد بحججٍ وذرائع يخلقها جيش الاحتلال عند كل مجزرة.