بثّ "التلفزيون العربي" خلال شهر أيار/ مايو الماضي تزامناً مع الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية فيلماً وثائقياً من حلقتين تحت عنوان "أرشيف النكبة"، تكشف الحلقة الأولى وثائق لجنة بيل السرية وأسرار تقسيم فلسطين وتحمل عنوان وثائق لجنة التهجير، فيما تتناول الحلقة الثانية بعنوان وثائق حامية يافا 1948 الوثائق التي نهبت من أرشيف الهيئة العربية في القدس إبان النكبة، وكُشف عنها عام 2016، لتستتبع هاتين الحلقتين من أرشيف النكبة، بفيلمين وثائقيين: الأول حيفا.. بقاء وعودة يركز على ما أحدثه الصهاينة من تغييرات على واقع المدن العربية الفلسطينية منذ النكبة عام 1948، ويتناول مدينة حيفا كنموذج، والثاني يافا في بطن الحوت يعرض الصراع بين السرديتين العربية الفلسطينية والصهيونية، حول تاريخ المدن الفلسطينية، عبر تتبع الكفاح الفلسطيني في مدينة يافا في تثبيت معالم هويتها، ويرصد معالم المدينة ويتتبع خطها الزمني عبر التاريخ.

 الرواية.. إحدى ركائز الصراع

يراكم صناع هذه الأفلام الأربعة على جهود تبذل منذ عقود في استرداد الرواية الحقيقة للنكبة الفلسطينية بما سبقها وتلاها من مخططات وأحداث في سعي لاستكمال السردية الفلسطينية وتقديمها للجمهور بما يناقض ما حاول الاحتلال "الإسرائيلي" نشره وتعميمه، لتبرئة نفسه من جرائم ضد الإنسانية بدأ بارتكابها قبل سنين من إعلانه كياناً "دولة" على أرض فلسطين ولا يزال.

وهذا ما يبدأ به الفيلم الأول "وثائق لجنة التهجير" ، وهو كشف وثيقة سرية للمخابرات "الإسرائيلية" كُتبت عام 1948 تشرح الأساليب التي اتبعها الصهاينة لتهجير القرى العربية؛ فيُقرأ فيها عن عمليات الهمس ونشر التيفوئيد، والمجازر المنظمة والقتل العشوائي، فيما زعم ساسة "إسرائيليون" في مراحل سابقة أن "ما حدث من تهجير للفلسطينيين عام 1948 ليس سوى موجة هروب جماعي قد تحدث في أي حرب" إلا أن الفيلم يعرض الوثيقة التي أُنجزت في نهاية شهر حزيران/ يونيو من عام 1948، بعنوان عريض: "حركة هجرة عرب أرض إسرائيل"

وتشير الوثيقة إلى أن 70%  من أسباب هجرة الفلسطينيين كانت نتيجة العمليات العسكرية اليهودية التي نفذتها عصابات "الهاغاناه" وعصابات أخرى، فيما لعبت أساليب الحرب النفسية دورًا كبيرًا كعمليات الهمس وذهان الإخلاء وشائعات انتشار التيفوئيد، وكذلك استخدام المتفجرات ذات الأصوات العالية.

خطط ممنهجة استحال تزييفها

وخلال الفيلم، يلفت الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات محمود محارب إلى أن الوثيقة ظلت سرية لفترة طويلة، وأن النقاب كُشف عنها للمرة الأولى عندما استعملها "بيني موريس" عام 1986، وما إن علم المسؤولون في الأرشيفات الإسرائيلية بهذا الأمر، حتى أعادوا إغلاق تلك الوثيقة فورًا، وكذلك جميع الملفات الإسرائيلية التي تتعلق بطرد الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقهم.

وأكد أن أهمية الوثيقة  تنبع من كونها تحمّل المسؤولية في طرد الشعب الفلسطيني للمنظمات العسكرية الصهيونية وللجيش الإسرائيلي وفق خطة مسبقة، حيث تقدم أدق التفاصيل عن قيام العصابات الصهيوني والجيش "الإسرائيلي" فيما بعد  بالعمل على طرد الفلسطينيين.

ويوضح أنها تحمّل في البندين الأول والثاني "الهاغاناه" مسؤولية احتلال قرى ومدن وبلدات وطرد الفلسطينيين منها، وأثر ذلك على قرى مجاورة هجّر نحو 55 % من أهلها تحت عامل الخوف.

ويسرد الفيلم خطط "يوسف فايتس"، الذي يُعد الأب الروحي للجنة الترنسفير أو التهجير السرية، وصاحب التأثير الأكبر في هذا التوجه، مضيفاً أن "فايتس" كل ما يمكن للاستحواذ على ممتلكات العرب خلال الثلاثينيات بالسلب تارة وبالحيازة والتهجير تارة أخرى.

ومن أجل ذلك، هندس ما عُرف لاحقًا بـ"لجنة الترنسفير"، ونسِّق مع قيادات عسكرية وأمنية ومالية، ووضع خططًا تفصيلية للسيطرة على قرى بأكملها قبل حصول التقسيم الفعلي لفلسطين وخروج بريطانيا.

ويضيف الفيلم: بعدما ظلت لجنته غير رسمية تعمل في الظل وبأوامر شفهية من القادة السياسيين والعسكريين حتى أنهت أعمالها المشبوهة، تمت قوننتها وأُلحقت بوزارة الخارجية بعد ما يُسمى بـ"إعلان دولة إسرائيل".

وصارت مهمة اللجنة كالتالي: وضع إستراتيجيات تمنع عودة العرب إلى قراهم التي خرجوا منها. ولم يخيّب فايتس في تلك المهمة أيضًا آمال رؤسائه.

هذه السردية التي يوثقها الفيلم تمحي ما جهد مؤسسو هذا الكيان لفعله، وهو تلفيق دراسات وكتب وأبحاث تثبت أن "القيادات العربية في فلسطين وخارجها شجعت على الهجرة، وأن الجيوش العربية والمقاتلين العرب ساعدوا الفلسطينيين على الهجرة، وأن الجيش البريطاني ساعدهم أيضًا على الهجرة، وأن المؤسسات الصهيونية بذلت جهدًا لمنع ذلك".

مقاومة لم يُرد لها أن تُكشف.. سُرقت وثائقها

ويتوقع الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش، وجود ملفات أخرى مخفاة في الأرشيف "الإسرائيلي" على غرار وثائق يوميات حامية يافا التي يعرضها الفيلم الثاني من سلسلة "أرشيف النكبة".

جاء في الفيلم أن هذه الوثائق تعيد ترتيب أحداث التاريخ، حيث تحكي عن مقاومة المحاربين الفلسطينيين الشرسة خلال ما سمي "حرب النكبة" والتكتيكات والمدافع والقناصة والكمائن، والأحداث التي لن يتم العثور على صدى كثير لها في وثائق الصهاينة وأدبياتهم.

ويقول شلش: إن الوثيقة واحدة من المواد المنهوبة ما يتعلق بالهيئات العربية العليا، وكانت قد نُهبت من القدس، وأنه خلال تصفحها وقع على ملف متعلق بحامية يافا، ليقود الملف بعد ذلك إلى ملفات، ثم إلى سلسلة متتالية من الملفات.

ويردف بأن هذه الأخيرة تبرز، عبر ما يقارب 3000 وثيقة، صوت مقاتل فلسطيني ظل مغيبًا لسنوات طويلة، في مقابل سردية صهيونية تم ترويجها بأن العرب هربوا من بيوتهم ومدنهم خلال النكبة.

ويضيف: إن ما تحتويه الوثائق يعطي إشارة عن صعوبة معارك اندلعت في حرب النكبة، على نقيض السردية "الإسرائيلية" السائدة حول تهجير حصل سريعًا ودون مقاومة، وأن مقاومة فاعلة على مدار أشهر تمكنت من تحقيق إنجازات كثيرة، وتقدمت عسكريًا في عدد من المناطق، وأن مدينة يافا شهدت قتالًا طويلًا منذ الشهر الأخير من عام 1947، وحتى انسحاب مقاتلي حاميتها في شهر مايو/ أيار من عام 1948، وتظهر معاركها ومعارك المناطق الأخرى مقاومة أهل البلاد والعون العربي أيضًا، الذي شكل إضافة نتج عنها حفظ ما تبقى من فلسطين آنذاك، بحسب الفيلم.

اقرأ/ي أيضاً / "وثائقيات العربي" في الذكرى الـ 75 للنكبة: نقض موثّق للسردية الإسرائيلية

ساهم هذان الفيلمين من سلسلة "أرشيف النكبة" في نقض السردية "الإسرائيلية" المزعومة عن فعل التهجير وأحداث المعارك عام 1948 بأسلوب توثيقي وتحليلي وتأريخي، فيما استتبع التلفزيون العربي هذه السلسلة بفيلم "حيفا بقاء وعودة"، الذي تناول مدينة حيفا والتغيّرات التي طرأت عليها منذ النكبة عام 1948، وأملاك أهاليها الذين هجّروا منها عن سبق إصرار من قبل العصابات الصهيونية، إذ يرسم ضيف الحلقة، الكاتب والمؤرّخ الحيفاوي جوني منصور، خريطة المدينة من معالمها وشفاه سكّانها وشهودها الذين لايزالون على قيد الحياة، ولعل تلك الشهادات وثيقة حية أخرى في حرب الصراع على الرواية.

وأيضاً قدّم فيلم "يافا في بطن الحوت" الذي عالج المحاولات "الإسرائيلية" لتغيير الجغرافيا السياسية ليافا،  والفشل في تحويل واقعها المكاني، حيث تتوسط هذه المدينة كلاً من بيروت ودمشق وعمان والإسكندرية والعقبة، ما يدعم عمقها العربي، غير أنّ عزل الاحتلال، أوقف التطوّر الذي عاشته تاريخياً، لتبقى شاهدة على هويّة فلسطينية باقية رغم كلّ محاولات الطمس.