يحتفي العالم بعيد العمال في 1 أيار/ مايو من كل عام، في ظل نظام عالمي يواصل سحق القوى العاملة والكادحة بجهودها العضلية والذهنيّة على الصعيد العالمي، حتّى في المراكز الأكثر تقدماً من ناحية البنى الاقتصادية والسياسية والحقوقية.
ويدفع التباطؤ الاقتصادي العالمي والحروب والظروف الدولية المضطربة، بالمزيد من العاملين إلى قبول وظائف منخفضة الأجر والجودة، وتفتقر إلى الأمن الوظيفي والحماية الاجتماعية، حسبما ذهب تقرير لمنظمة العمل الدولية عام 2023 الفائت.
فيما يتكثّف الطحن الاجتماعي، في أوساط العمال من أبناء البيئات الأكثر ضعفاً، ولا سيما مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، حيث يعيش مجتمع كامل بلا مواطنة حقيقية، ودون أرضية ثابتة للعمل والإنتاج والاستقرار والنمو، وغياب أشكال الروابط النقابية والحقوقية المعنية، وفقدان مطلق للأمان الاجتماعي والمعيشي.
لا إحصائيات حديثة حول أوضاع القوى العاملة الفلسطينية في سوريا، ونسبتها الإجمالية من العدد الكلّي للاجئين الفلسطينيين هناك، لكن لا بأس من الإشارة إلى أرقام نشرتها "مجلة الدراسات الفلسطينية" في تقرير، بتسعينيات القرن الفائت، وبينت أنّ 36% من مجموع القوة البشرية الفلسطينية في سوريا، منخرطة في سوق العمل، ما يعني أنّ فوق الثلث بقليل من اللاجئين يعيلون الثلثين الآخرين.
وشمل التقرير الذي نشره الباحث جابر سليمان حينذاك، دراسة أرقام ومعطيات أواخر عقد الثمانينيات حتى النصف الأول من التسعينيات، حين كان عدد الفلسطينيين في سوريا بموجب إحصاءات "أونروا" 360 ألف فلسطيني وفلسطينية، فضلاً عن اللاجئين غير المسجلين في سجلات الوكالة.
لا شك، أنّ مجتمع اللجوء الفلسطيني في سوريا، بات يعتمد على قواه العاملة لإعالة نفسه واستمراره على قيد الحياة خلال السنوات الأخيرة، أكثر من أي وقت مضى منذ بدء اللجوء الفلسطيني في سوريا إثر النكبة الفلسطينية عام 1948.
إلا أنّه في الوقت الراهن، لا أرقام دقيقة تخص أعداد الفلسطينيين المتبقين في البلاد، باستثناء أرقام وكالة "أونروا" التي تقول إن 650 ألف لاجئ فلسطيني تواجدوا في سوريا حتّى العام 2011، ولكن نزف منهم عشرات الآلاف إلى دول اللجوء والتهجير، جراء تدمير مخيماتهم، والأسباب الاقتصادية والأمنية القاهرة التي جعلت سوريا أكبر دولة طاردة لمواطنيها.
ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار، تقلص حجم القوى العاملة المنخرطة في سوق العمل، جراء الانهيارات الاقتصادية، وتفشي البطالة، عقب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والكوارث التي حلّت في سوريا إثر الحرب، وجعلت سوريا تحتل المرتبة الثانية عربياً والرابعة عالمياً في قائمة الدول الأكثر بؤساً، وفق مؤشر جامعة "جونز هوبكنز" الأمريكية للعام 2024 الجاري، فيما دُمّرت عدّة مخيمات فلسطينية، وسَحقت القطاعات الإنتاجية التي أسسها الفلسطينيون في مخيماتهم وخارجها، ما جعلها وسكانها في قلب دائرة البؤس.
وبينما تقلّصت بطبيعة الحال، كتلة القوى العاملة الفلسطينية المنخرطة في سوق العمل، دون وجود إحصاءات رسمية عن حجم البطالة فلسطينيا، تشردت القوى العاملة الفلسطينية في البلاد، لتبحث عمّا يبقيها على قيد ما من إنتاج أسباب الحياة لآلاف العائلات الفلسطينية التي يلفّها الفقر بنسب تتعدى 90% بحسب أرقام وكالة "أونروا" خلال السنتين الأخيرتين.
وفاقمت تقليصات "أونروا" في تقديماتها الإغاثية والعينية والمادية، وكذلك في تقديماتها الاجتماعية والخدمية، من أوضاع اللاجئين المعيشية، حيث لم تعد قيمة المعونة التي تقدمها الوكالة، تدعم معيشتهم، ما رتّب أعباءً إضافية على القوى العاملة، وأضحت شبه وحيدة في صراعها المعيشي اليومي، دون داعم أو سند، وهو ما يكشفه رصد أوضاع بعض العمال الفلسطينيين في سوريا.
ظروف عمل وأجور وتكاليف تدفع العمال إلى تغيير مواضعهم
يواجه "محمد خير"، وهو لاجئ فلسطيني عامل من أبناء مخيم جرمانا بريف دمشق، تحديات كبيرة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها منذ سنوات، وهو ممن دفعتهم الانهيارات الاقتصادية والحقوقية المتتالية إلى تغيير عمله، والقبول بموضع أقل، يوفر له الوقت والسلامة أكثر من المال.
يقول اللاجئ لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، إنّه منذ بداية العام 2023، وجد نفسه مضطراً لتغيير عمله من معلم حدادة وتلحيم في معمل بالمنطقة الصناعية بريف دمشق، إلى عامل في محل حدادة في مدينة جرمانا، ما أثر سلبا على مستوى معيشته وأسرته التي تتألف من خمسة أفراد.
ويوضح "محمد خير" أن العمل في المعمل كان مريحاً في البداية، حيث تدرج فيه وظيفياً ليصبح مسؤولًا عن قسم "التلحيم" في المعمل المتخصص في صناعة "الهنجارات" والعدد الصناعية. ولكن مع تراجع الأجور وارتفاع تكاليف المواصلات، بات العمل مرهقاً وعديم الفائدة.
وأدت الحرب والاضطرابات في العقد الأخير، إلى إغلاق العديد من المعامل والورش خلال سنوات الحرب، فيما عاد بعضها للعمل بعد "عودة الاستقرار"، لكن دون توفير التأمينات الاجتماعية والحوافز، ووسائل نقل للعمال، التي كانت متوفرة سابقاً ضمن حدّ معيّن، ما جعل بيئة العمل "غير مربحة وغير آمنة بالمرّة"، وفق تعبير اللاجئ العامل لموقعنا.
ويروي اللاجئ الفلسطيني موقفاً، كان دافعاً له لمغادرة المعمل، حين تعرض زميل له لإصابة أقعدته في المنزل 3 أشهر، إلا أنّ إدارة المعمل اكتفت بصرف نصف راتب للزميل المصاب خلال فترة جلوسه في المنزل، دون دعمه في تلقي العلاجات، ورتب عليه مبالغ طائلة لزوم عمليات جراحية في مفصل قدمه.
ويرى "محمد خير" أن قراره بالانتقال إلى العمل في محل للحدادة في مدينة جرمانا، كان مناسباً أكثر، حيث أن العمل أصبح أقرب إلى مكان سكنه ومخيمه، مما يوفر عليه تكاليف المواصلات التي صارت تتجاوز 300 ألف ليرة شهرياً خلال أشهره الأخيرة في العمل، مع رفع أسعار المحروقات، بينما مرتّبه توقف في المعمل السابق، عند عتبة المليون ليرة سورية، فضلاً عن التعب وهدر الوقت على الطرقات، وفي انتظار المواصلات، وانعدام ظروف السلامة والتأمينات، حسبما أضاف.
ويقنع اليوم اللاجئ محمد خير اليوم، بأجر وقدره 100 ألف ليرة أسبوعيا في مكان عمله الجديد، إضافة إلى ما يجنيه من "الورش الخارجية" أي، حين يُطلب إلى المنازل لتصليح شباك أو باب أو تركيب "درابزين" حديد، أفضل من استمراره عاملاً بأجر وفق الظروف التي كان يعمل فيها في المعمل.
في مخيم درعا.. عمال يحاصرهم الفقر والخوف من المستقبل
يعبر "أبو وليد" وهو عامل في شركة الكهرباء من أبناء مخيم درعا لمراسل بوابة اللاجئين الفلسطينيين، عن تجربته الصعبة كعامل في مهنة الكهرباء التي اختارها منذ صغره، بعد أن أحبها وتعلمها جيداً، إلا أنّ مهمته تُسكِنُهُ حاليا، في سجن من الفقر والخوف من المستقل، وذلك على الرغم من أهميتها وطلبها في الحياة اليومية، إلا أنها تعد مهنة خطيرة والغلطة فيها قد تكون قاتلة، وفق تعبيره.
ويقول "أبو وليد" إنّه تعرض لحادث أثناء عمله، سقط خلاله من عمود الكهرباء؛ مما أدى إلى كسر ساقيه ويديه، وبالرغم من تحسن وضعه الصحي بعد الحادث، إلا أنه يشعر بأن التعويض الذي تلقاه لم يكن كافياً لتغطية تكاليف العلاج والمعيشة.
ويتحدث أبو وليد عن قلقه الدائم بشأن مستقبل أطفاله، حيث لم يستطع توفير ما يكفي لهم بسبب ظروف الحياة الصعبة التي يعيشها، وتدني الأجر الذي يتلقاه، رغم أنّه يعمل في تمديدات الكهرباء للمنازل، كلّما سنحت له الفرصة والوقت، وعلى الرغم من المخاطر الصحية ومخاطر الإصابات التي قد تعقده دون معيل، إلا أنه يثق بالله، ويعتمد عليه في كل شيء، حسبما عبّر في حديثه مع مراسلنا.
تجربة اللاجئ العامل أبو وليد في مخيم درعا تعكس التحديات الحياتية والمستقبليّة، التي يواجهها عمال الكهرباء، في ظل غياب تأمينات وضمانات كافية وعادلة، لهم لحمايتهم من المخاطر المهنية وضمان تغطية تكاليف العلاج في حال وقوع الحوادث.
ويدفع خوف العامل الفلسطيني في سوريا من المستقبل المجهول في ظل بيئة عمل غير آمنة، وشح البدائل، إلى التمسك بخيارات بائسة، ولكنها تعتبر على بؤسها، أكثر أمناً من سواها، كما هو الحال مع "أبي قاسم"، وهو موظف في إحدى دوائر الدولة، ولديه 7 أطفال بأعمار مختلفة، وبالرغم من خدمته الطويلة والعمل الشاق، فإن راتبه لا يتجاوز 280 ألف ليرة سورية، ما يجعله غير قادر على تلبية احتياجات أسرته الأساسية.
ومع تقدمه بالعمر وتراجع ينبته الصحيّة، لم يعد "أبو قاسم" قادراً على العمل في الورشات الخاصة والأعمال المرهقة التي تدر أرباحاً، لذا، قرر الاستمرار في العمل ضمن دوائر الدولة رغم قلة الراتب، حيث يضمن له ذلك دخلاً شهرياً ثابتاً ومعاشاً تقاعدياً فيما بعد، لا توفره جهة أخرى.
وأحياناُ، يضطر "أبو قاسم" للعمل في بقالية بعد انتهاء دوام وظيفته الرسمي لتغطية بعض النفقات اليومية لأسرته، وعلى الرغم من أن هذا يأتي على حساب صحته وعافيته، إلا أنه مضطر لذلك؛ نظراً لضيق الحال والحاجة الماسة للدخل، حسبما أفاد لمراسل بوابة اللاجئين الفلسطينيين في درعا.
أما "أبو وسيم" وهو عامل بيع خضار في مخيم درعا، يتحدث عن يومه اليومي المليء بالجهد والتحديات، ويقول: "أذهب يومياً لسوق الهال لشراء بعض أصناف الخضار والفواكه، ولكن غلاء الأسعار وارتفاعها أثر بشكل كبير على الأهالي، مما اضطرهم لشراء الحاجات الأساسية فقط، وتقتصر ذلك على الخضار دون الفواكه".
بالرغم من صعوبة الأوضاع، يصر "أبو وسيم" على العمل، حتى وأنه يعاني إصابة في قدمه، قد أصيب بها في وقت سابق، ورغم أن عمله أحيانا يكون غير مجدي، ويقول: "أقوم بأخذ الأغراض من سوق الهال بالدين وعند انتهائي من البيع أذهب لسوق الهال لأحاسب من استدنت منهم، ففي أغلب الأحيان يكون البيع بخسارة، وتتراكم على الديون".
ويضيف اللاجئ العامل لموقعنا: "أبحث عن رزقي ورزق أولادي، فذلك هو همي، وفي عيد العمال تحتفل عائلتي بي، ويزورني أبنائي وبناتي المتزوجات، على الرغم من ضيق الحال والأوضاع المعيشية".
على الرغم من الجهد الذي يبذله في عمله، يشعر "أبو وسيم" ككافة العمال الفلسطينيين في سوريا، بالقلق بشأن عدم وجود أي ضمانات أو حقوق تحميهم كعمال، ويقول: "نعمل لأنفسنا بشكل خاص على الرغم من عدم كفاية مردودنا، ولكنني أعتبر نفسي أفضل من غيري كوني أعمل".
في الشمال السوري. ليس أوضاع العمال الفلسطينيين بالأفضل
في مدينة إدلب شمال سوريا، حيث يعيش مئات اللاجئين الفلسطينيين الذين شردهم النظام السوري عن مخيماتهم في دمشق وريفها وسواها، يعيش الشاب "رأفت غنايمة"، البالغ من العمر 39 عاماَ، حياة مليئة بالصعوبات كعامل بناء حر.
ويتقاضى غنايمة أجراً يومياً لا يتجاوز مئة ليرة تركية، ما يعادل حوالي ثلاثة دولارات، وهو مبلغ بالكاد يكفي لتأمين معيشة أسرته التي تتألف من زوجته وثلاثة أبناء.
ويشير "غنايمة" إلى غياب فرص العمل الثابتة في مدينة إدلب، حيث يتوجه معظم الشبان إلى مشاريع البناء والترميم في المدينة ومحيطها كي يجدوا فرصاً للعمل.
ويرتفع أجر العمال الذين يمتلكون مهارات معينة مثل "الطيانون والدهانون وحرفيو الصحّة...الخ"، بينما يتلقى العمال العاديون مبالغ قليلة لا تتجاوز 100 ليرة تركية يوميا، تشمل تكاليف المواصلات.
ويعبر غنايمة عن قلقه إزاء غياب الضمان الاجتماعي أو الحماية للعمال الذين يعملون بشكل حر في إدلب والمناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية والوصاية التركية.
ويذكر حالات لزملاء له، تعرضوا لإصابات خطيرة أدت إلى انقطاعهم عن العمل لفترات طويلة، دون أن يتلقوا أي دعم من أصحاب العمل، ويقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ كل عامل في مناطق الشمال السوري، يتعرض لإصابة تقعده في منزله، للأسف يتحول إلى متسوّل على أبواب الجمعيات الإغاثية.. فإلى متى امتهان كرامة الإنسان والعمال، وإلى متى تستمر العذابات الفلسطينية" حسبما أنهى اللاجئ الفلسطيني حديثه.