منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، تتصاعد مخاوف الفلسطينيين على مستقبلهم ووجودهم عاماً بعد عام، في ظل استمرار الاستهداف الأمريكي – الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، على كافة الأصعدة، وعلى وجه الخصوص قضية اللاجئين.
تأتي الذكرى الـ 76 للنكبة الفلسطينية في وقت بلغت فيه هذه المخاوف ذروتها، مع حرب الإبادة "الإسرائيلية" المتواصلة التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
فحرب الإبادة التي تستهدف الفلسطينيين بشكل مباشر في قطاع غزة، بوسائل تفوقت فيها الذهنية الصهيونية على نفسها وتاريخها الحافل بجرائم الإبادة، تطال الفلسطينيين عامة، وخاصة أبناء الشتات، من خلال استهداف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تعد الشاهد السياسي والقانوني الأممي على وضعهم التاريخي كلاجئين، والعمود الفقري لمعيشتهم وتعليمهم ورعايتهم الصحية في دول اللجوء.
وإذ فقد الشتات الفلسطيني في سوريا، استقراره منذ عام 2011، جراء الحرب التي شنها النظام السوري على المدن والبلدات السورية لقمع الاحتجاجات الشعبية ذلك العام، صار اللاجئون الفلسطينيون في البلاد مجردين من معظم عوامل استقرارهم، بعد تدمير 3 مخيمات بينها عاصمة الشتات مخيم اليرموك وتهجير 160 الفاً من سكانه داخلياً وخارجياً، في ظل أوضاع سورية عامة لا تتجه سوى نحو انحدار متسارع، دون أفق لتوقفه، ولو على المدى المنظور.
في ظل الذكرى الـ 76 للنكبة، يُرصد تصاعد غير مسبوق في التحديات والمخاوف التي تملكت اللاجئين، والمتعلقة بمستقبلهم ووجودهم، وتهديدهم المستمر بتدمير آخر خيوط الأمل التي تربطهم بالبقاء وهي وكالة "أونروا"، ما يجعل المستقبل يبدو أكثر غموضاً وخطورة بالنسبة لهم.
المجتمع الدولي المسؤول عن نكبة اللاجئين مسؤول عن استمرار خدمات الوكالة
في الأسابيع الأخيرة، تفجرت المخاوف الوجودية داخل مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا بسبب تأخر وكالة "أونروا" في صرف المعونات المالية الدورية، وزادت تلك المخاوف بعد الإعلان عن صرف المعونات بقيمة مخفّضة، ما زاد من الضغوط على العائلات التي تعيش على أقل من دولارين في اليوم، حيث تشير تقديرات "أونروا" إلى أن أكثر من 90% من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا يعيشون في فقر مطلق.
اقرأ/ي أيضاً: معونة "أونروا" في سوريا لم تعد عاملاً مساعداً في المعيشة
مصطفى عبد الرحمن، شاب من مهجري مخيم اليرموك ويقطن في منطقة يلدا المحاذية في جنوب دمشق، يعبر عن قلقه على مستقبل أبنائه في ظل ما يشهده "من تخلي عن مسألة اللاجئين الفلسطينيين واستهداف الوكالة المعنية بإغاثتهم وتشغيلهم، وتثبيت وضعهم القانوني كلاجئين مهجرين لهم حقوق في بلدهم وفي شتاتهم".
ويقول مصطفى، وهو أب لطفلين، أكبرهما سيبلغ سن الذهاب إلى المدرسة العام المقبل: إنه يعتمد بشكل كبير على خدمات "أونروا" التعليمية والصحية والغذائية لمعيشة أطفاله، فيما يعوّل على انتعاش أوضاع الوكالة.
وأضاف مصطفى: أنّه يتابع أخبار الوكالة والتبرعات المالية التي تصلها، ليحصل على نوع من الاطمئنان، بأنّ المدارس ستكون مفتوحة عندما يكبر إبناه، وسيكون له هوية واضحة وثابتة، بـ"أنّه لاجئ وهناك جهة أممية مسؤولة عنه، وعليها تطوير وتوسيع تقديماتها وتحسينها، والعمل على ألّا تفقد مواردها المالية"، معتبراً ذلك "مسؤولية العالم أجمع، أن يلتزم باللاجئين الفلسطينيين لأنّه هو المسؤول عن نكباتهم" وفق تعبيره.
"تقليصات الوكالة، سواء المالية أو الخدمية، والتهديدات المستمرة ضدها تجعل اللجوء الفلسطيني مقبرة للاجئين دون إيجاد حل عادل يقوم على إعادتنا إلى فلسطين أو توفير شروط حياة إنسانية لنا"، حسبما أضاف مصطفى، معتبراً أن الوكالة تسد مؤقتاً غياب الدولة والمؤسسات التي حرم الاحتلال منها الشعب الفلسطيني.
أما "حازم" وهو شاب فلسطيني آخر، مهجر من مخيم اليرموك ويقيم في ضاحية قدسيا بريف دمشق، يعاني من ظروف معيشية صعبة، بعد أن دُمّر منزله في مخيم اليرموك عام 2018، ويعيش الآن في منزل مستأجر بتكلفة 700 ألف ليرة سورية شهرياً، ويعمل سائق سيارة أجرة غير مملوكة له، بالكاد يوفر من خلالها دخلاً يكفي لتغطية احتياجات الطعام والشراب والإيواء.
يؤكد حازم، أنّ وكالة "أونروا" تمثّل عامل أمان، وخصوصاً في ظروف سوريّةٍ لا أفق لتحسنها في المستقبل المنظور، وأن توقف الوكالة يعني قطع آخر شريان يمد اللاجئين الفلسطينيين بالحياة، رغم التقليصات الحادة التي اعتمدتها مؤخراً.
إنهاء خدمات الأونروا في سوريا إذا ما حصل سيكون كارثة كبيرة ويعادل حكماً بالإعدام الجماعي
حازم صار يبحث عن مصدر دخل جديد لأسرته، مع التقلصيات في المساعدات التي تقدمها الوكالة إلّا أنّ "العين بصيرة واليد قصيرة" وفق قوله.
ويوضح أنّ مفاتيح الهجرة خارج البلاد صارت شبه منعدمة، مع التضييق الواسع الذي يشهده العالم على حركة الهجرة، والمآسي التي تحل بطالبي اللجوء على طريق الهجرة، من ارتفاع معدل حالات الغرق في البحر، أو هدر سنوات طويلة من أعمار الذين نجوا ووصلوا في "كامبات" اللجوء قبل البت في أوضاعهم، وأشار "حازم" خلال حديثه الى ابن عمّ له، هدر 5 سنوات من عمره، في مخيمات المهاجرين في اليونان، وفي المحصّلة لم يحصل على حياة أكرم مما كان عليه في سوريا، وفق قوله.
يشعر حازم بالقلق من عدم توفر مدارس مجانية لأطفاله في حال أغلقت وكالة "أونروا" مدارسها، أو توقفت عن تقديم خدماتها، وأكد أن غياب الوكالة سيشكل نكبة كبيرة، موضحاً أن خدمات "أونروا" الصحية ساعدت في ولادة زوجته قبل ثلاث سنوات وتقديم الدواء وتوفير الكشوف والمراجعات، مما وفر عليه تكاليف باهظة.
ولا يعتبر اللاجئون الفلسطينيون في سوريا أن وكالة "أونروا" مصدراً للدعم المعيشي فحسب، بل هي أيضاً شاهد سياسي على نكبتهم وتهجيرهم، ويؤكد "حازم" أن إنهاء خدمات "أونروا" في سوريا سيكون كارثة كبيرة على المستوى المعيشي والقانوني للاجئين الفلسطينيين، ويعادل حكماً بالإعدام الجماعي على اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم، في وقت تتزايد فيه نسبة الفقر وتدهور الأوضاع المعيشية في سوريا.
فلسطينيو الشمال نموذج أسود عن لاجئين بلا خدمات "أونروا" وأطفال غير مسجلين في الوكالة
ما شهدته الساحة الفلسطينية في سوريا، من مآسٍ خلال السنوات السابقة، خلقت نموذجاً مأساوياً، صار الفلسطينيون يستشعرون فيه بعض ملامح مستقبلهم الغامض في حال إنهاء عمل "أونروا"، بعد بروز شريحة من الفلسطينيين يعيشون الآن دون غطائهم القانوني والإغاثي، وهم فلسطينيو الشمال السوري، الذين نثرهم التهجير في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية في الشمال، وتخلت عنهم الوكالة الأممية تحت ذريعة عدم قدرتها على الوصول إلى تلك المناطق، لتخلق بذلك نموذجاً عن الفلسطيني المجّرد من تلك المؤسسة الدولية الملزمة به وفق القانون الدولي.
مئات العائلات الفلسطينية تعيش في تلك المناطق، بواقع 700 عائلة في إدلب وأريافها، و500 عائلة في ريف حلب الشمالي، فيما يسكن مخيم دير بلوط في ريف ناحية جنديريس نحو 250 عائلة، و70 عائلة في مدينة جنديرس نفسها، وضعهم تهميش وكالة "أونروا" في أدنى السلم المعيشي في مناطق الشمال، فهم الآن من أقل الشرائح المهجرة في الشمال التي تتلقى مساعدات إغاثية، فيما يعمل معظم أرباب الأسر في أعمال لا تدر عليهم ما يكفي ثمن وجبة طعام واحدة، حسبما وثّقت عدّة تقارير نشرها بوابة اللاجئين الفلسطينيين.
اقرأ/ي ايضاَ: الدخل اليومي لا يكفي ثمن وجبة.. هكذا يستقبل الفلسطينيون شمالي سوريا شهر رمضان
محمود عوض لاجئ فلسطيني مهجّر الى الشمال السوري منذ العام 2018، بعد أن هجّر أجداده من قرية الشجرة في فلسطين المحتلّة عام 1948، يعيش في الشمال السوري، يقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ تهميش وكالة "أونروا" جعلهم أشبه بحالة بلا تعريف، وخصوصاً المواليد الجدد الذين لا يحملون اعتبارية قانونية كلاجئين فلسطينيين مسجلين في الوكالة، لغياب "أونروا" عن مناطق الشمال.
لا أرقام حول المواليد الجدد في مناطق الشمال السوري، ولكن تقديرات شبه رسمية، تقول: إنّهم بالمئات، فعشرات العائلات الجديدة قد تشكلت جراء واقعات زواج لفلسطينيين في الشمال، أنجبوا اطفالاً غير مسجّلين في بطاقة وكالة "أونروا" التي طالما حملها اللاجئون معهم، للدلالة على حالتهم التاريخية التي وضعهم فيها الاحتلال والعالم، واعتبروها ضمانة لحياتهم الى حين عودتهم.
مدير مركز توثيق اللاجئين الفلسطينيين في مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة المعارضة السوريّة محمد بدر، أشار في تصريح لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، إلى أنّ حصر أعداد المواليد الفلسطينيين الجدد، ما تزال مسألة صعبة، نظراً لانتشارهم في مناطق مختلفة، ولا يوجد تنسيق مؤسساتي فيما بينها.
وأكّد بدر، على ضرورة اتخاذ الوكالة ما يلزم من إجراءات لتسجيل المواليد الفلسطينيين الجدد وضمهم إلى سجلاتها. وأكد أن هذا الإجراء يعد حقاً قانونياً للاجئين الفلسطينيين تجاه الوكالة، لأنها تتعلق بالشخصية الاعتبارية لهم في حالتهم المؤقتة كلاجئين، وحفظ حقوقهم القانونية والدولية إلى حين تنفيذ القرارات الأممية المتعلقة بعودة اللاجئين.
اللاجئ عوض، أشار بدوره، إلى أنّ التهميش المعيشي والقانوني من قبل وكالة "أونروا" لفلسطينيي الشمال، يهدد باندثار هويتهم، خصوصاً أنّ الأطفال حديثي الولادة، وبعضهم ولد منذ أكثر من 6 سنوات، لم يسجلوا في الأمم المتحدة، "وهذا حق قانوني لأطفالنا أن يتم تسجيلهم كلاجين، وتثبيت واقعاتهم المدنية بأسرع وقت"، حسبما طالب.
ويعتبر لاجئون كثر، أنّ تخلي وكالة "أونروا" عنهم، أو إغلاقها بفعل السياسات الأمريكية – "الإسرائيلية" يجسد انتصار النكبة عليهم، وهو ما يواجهونه بالكثير من الصمود والتحدي من أجل البقاء، لذلك لم تتوقف المناشدات للجهات الفلسطينية الرسمية والأهلية، وكل المعنيين، بالضغط على الوكالة لاستيفاء حقهم في تسجيل أبنائهم، كحد أدنى لحفظ هويتهم.
اللاجئ أبو محمد المهجّر إلى الشمال السوري، طالب عبر بوابة اللاجئين الفلسطينيين، بأن لا يتم السماح بانتصار النكبة عليهم، وتركهم الى مصير مجهول بعد 76 عاماً من الصمود.
وأكد أنّ مسألة الاعتراف باللاجئين الفلسطينيين في الشمال السوري، صارت الأكثر أساسية، لافتاً إلى أنّ أحداً لا يعترف بهم وبهويتهم القانونية كلاجئين، ولا يستطيعون الحصول على وثائق رسمية كشهادات ميلاد أو حتى وفاة، بعد تجريدهم من غطائهم القانوني الرسمي والأممي الذي يوثق أحوالهم أوضاعهم ويعينهم حتى تحقيق حق عودتهم إلى فلسطين.