منذ خروج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، عاش اللاجئون الفلسطينيون في هذا البلد أزمات متتابعة تتراوح بين الأمني والمعيشي والاجتماعي وحرماناً وعزلة ويتماً سياسياً جعل المتابع لأوضاعهم يستشرف أن غرقهم في كل ما صُنِع لهم، لن يعيدهم إلى واجهة الكفاح المسلح ضد الاحتلال "الإسرائيلي" مجدداً، خاصة بعد توقيع اتفاقية "أوسلو" واستحداث السلطة الفلسطينية التي حصرت "مفهوم فلسطين" لبضعة من الزمن في الحيز الجغرافي الواقع ضمن قطاع غزة والضفة الغربية.
ورغم محطات تاريخية حافلة بالمقاومة والنضال ضد الاحتلال "الإسرائيلي" منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 إلا أن أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان كسائر مخيمات الشتات لم يبرز دورهم في الفعل القتالي المباشر ضد الجيش "الإسرائيلي" حتى بدء معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث بدأت تفد أخبار ارتقاء لاجئين فلسطينيين شباب (معظمهم من الجيل الثالث أو الرابع للنكبة) من المخيمات في سوريا ولبنان على الحدود الفلسطينية – اللبنانية، ما يعني أن فعلاً عسكرياً مباشراً يخوضه لاجئون فلسطينيون كان قد غاب لبضعة عقود ها هو يعود مجدداً.
ليس الأمر عادياً، بالنسبة للمتابعين (سواء أيدوه أم عارضوه) ولم يكن وقعه وتتالي أخبار ارتقاء شهداء من أبناء مخيمات اللجوء ومشاركتهم في معارك مباشرة عادياً على مجتمع اللجوء الفلسطيني، بل شكل خضة وأعاد إلى أذهان البعض "أحلاماً" أو "شعوراً بالمسؤولية" أو "إحساساً بإمكانية الفعل" ظنوا أنه لن يحدث في وقت قريب، لا سيما وأن ساحة المخيمات الفلسطينية في لبنان استقطبت الخلافات الفلسطينية الداخلية طيلة أكثر من عقدين وعاش أبناؤها من الجيل (الذي لم يعش زمن العمليات الفدائية والتصدي للاجتياح الإسرائيلي) زمن الانقسام السياسي الردئ.
وإذا ما تم استثناء أحداث مسيرات العودة في ذكرى النكبة والنكسة عام 2011 وارتقاء شهداء من الفلسطينيين في لبنان وسوريا برصاص الجيش "الإسرائيلي" على الحدود مع فلسطين حيث كانت المسيرات سلمية، فإن شباباً فلسطينيين في المخيمات يعيشون للمرة الأولى في حياتهم مشاركة مخيماتهم في الفعل المقاوم على الحدود مع فلسطين، ويشهدون أيضاً مع تصاعد جرائم الاغتيال "الإسرائيلية" بحق شخصيات فلسطينية داخل المخيمات.
وعلى الرغم من ذلك يرى الشاب وائل زيد من مخيم البداوي شمالي لبنان أنه "ليس غريبا على شعبنا في مخيمات الشتات اشتراكهم المباشر بالعمل المقاوم ضد العدو الصهيوني وتقديم الشهداء على طريق التحرير والعودة "، وكذلك الرسامة الفلسطينية الشابة تانيا نابلسي التي تعبر عن شعورها بالوجع لارتقاء شبان على الحدود الفلسطينية ووجع أكبر جراء جرائم الاغتيال، لكن في الوقت ذاته "هذا الاستشهاد يشكل فخراً وعزّاً لشعورنا بأننا نقدم الدماء في سبيل قضيتنا الفلسطينية".
الفرق في معركة طوفان الأقصى أن كان للاجئين الفلسطينيين مشاركة فيها
تؤكد النابلسي وهي من الجيل الذي ولد في التسعينيات بأن استشهاد مقاومين فلسطينيين من داخل المخيمات دليل على أنه مهما ولد أطفال في هذه المخيمات ،فهم سيتعرفون على قضيتهم ولن ينسوها "هذه هي الطريق الصحيحة لتحقيق العودة لكامل التراب الفلسطيني".
ربما الفارق في معركة طوفان الأقصى عن سواها من الحروب بحسب الشاب الصحفيى عبد الناصر الحدري أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كان لهم سهم كبير فيها، فهم غالباً ما أُغرقوا وأحيطوا بأزمات متلاحقة، "لا أعلم إذا ما كانت متعمدة الحصول، لكن ذلك مرجح للغاية".
يقول الحدري: "لا أبالغ حينما أقول أنّ المرة الأولى التي أشعر أن مخيماتنا قدمت شيئا للقضية الفلسطينية، عندما شيّعنا أول شهيد ارتقى خلال صد العدوان الصهيوني على لبنان، وكنت أعتقد أن هذا الشعور انتابني بمفردي تأثراً لمعرفتي بالشهيد، إلا أني وجدت الكثيرين من أبناء المخيمات يشاركونني هذا الأمر".
يعبر الحدري أن "معركة طوفان الأقصى عموماً جعلتنا نشعر باقتراب موعد التحرير والعودة إلى فلسطين، ولكن ما صقل هذا اليقين فينا أكثر وأكثر، هو شهادة شباب مخيماتنا، وانخراط العديد منهم في مواجهة العدو الذي حاول بعض الإعلام والجهات الترويج بأنه أمر مستحيل، لكن الواقع نقض ذلك، وأبرز مثال يمكن لنا أن نطرحه هو الشهيد الشاب سليمان حسن (19 عاما) ابن مخيم البداوي".
يضيف عبد الناصر: إن الشهيد سليمان كان بإمكانه أن يعيش حياته، وألا ينضم إلى حركات المقاومة، ولن يلومه أحد، لكنه اختار هذه الطريق رغم أنه لم ير فلسطين يوماً، بل آمن بحقه فيها، بل وحقه أيضاً في الدفاع عنها والمشاركة في الدفاع عن أبناء شعبه في قطاع غزة والضفة الغربية وعن لبنان أيضاً، "لذا المنطلق، يجب على كل واحد منّا أن يعي دوره، وفي هذه الحرب لا مجال للمتفرجين"، بحسب ما يقول.
ماذا تتوقعون من شباب ولدوا لاجئين في مخيم وأول ما أدركوه هو أن وطنهم سرق ويشاهدون المجازر الإسرائيلية؟
محمد مصطفى شاب آخر من مخيم البداوي شمالي لبنان، لا يستغرب من الظهور المفاجئ لأبناء المخيمات الفلسطينية يشاركون في معارك مباشرة على الحدود الفلسطينية، بل يرى فيه امتداداً طبيعياً لمفاهيم ينشأ عليها الفلسطينيون في المخيم، "ماذا تتوقعون من شباب ولدوا لاجئين في مخيم، وأول ما أدركوه أن وطنهم سرق منهم وطيلة حياتهم يشاهدون الإجرام الإسرائيلي يزداد ويتصاعد ويرون دماء أبناء شعبهم تزهق؟".
يضيف الشاب الفلسطيني: من الطبيعي جداً على أي شاب فلسطيني في المخيم وخارج المخيم أن يبحث عن طريق لمقاومة الاحتلال "الإسرائيلي"، مشيراً إلى أن معظم اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات يمارسون أدوراً مختلفة من النضال كالمشاركة والتوعية في حراك المقاطعة ومحاولة إيصال الصوت الفلسطيني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هناك من أراد أكثر من ذلك، "وهذا حقه".
وبحسب محمود هنداوي، وهو لاجئ فلسطيني في لبنان فإن استشهاد شبان فلسطينيين في معارك ضد الاحتلال "الإسرائيلي" موجع لفقدانهم، ولكنه حقق رجاء ظنَّ البعضُ أنه لن يتحقق، وهو عودة مشاركة اللاجئ الفلسطيني في الكفاح المسلح، وهذا بدوره يحيي الأمل في إمكانية تحقيق حلم العودة.
يقول هنداوي: إنه رغم ما تمر به المخيمات الفلسطينية من ظروف وأوضاع اقتصادية صعبة إضافة للأزمات والكوارث التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان، إلا أن "كل ذلك يُنسى وكأنه لم يكن حين يتعلق الأمر بإمكانية أن يخطو اللاجئ الفلسطيني خطوة نحو البلاد ونحو فلسطين، ولو كانت الخطوة هي الشهادة".
في ذات السياق، يرى الشاب الفلسطيني اللاجئ طارق الحاج أن دور أهالي المخيمات في مقاومة الاحتلال "الإسرائيلي" جزء لا يتجزأ من سيرورة النضال الفلسطيني، وقد برز جلياً وواضحاً في المعركة الأخيرة "طوفان الأقصى"، موضحاً أن اللاجئين الفلسطينيين كانوا الضحايا الأوائل للنكبة الفلسطينية وهجروا من ديارهم تحت وطأة المجازر منذ بداية تأسيس الكيان "الإسرائيلي" على أرض فلسطين، وشكل أبناء المخيمات منذ بداية الكفاح المسلح في الستينيات من القرن الماضي الشعلة الأولى للثورة بعد النكبة.
مشاركة أبناء المخيمات في المعارك على الحدود نقطة قوة تحسب لهذه المخيمات
ويقول: إن المعركة الحالية المتزامنة مع مجازر الإبادة في قطاع غزة والعدوان المتصاعد على الضفة الغربية ولبنان "يعيد لأبناء اللاجئين الفلسطينيين العزيمة والإصرار لاستئناف المشاركة ويعزز لديهم الأمل بتحقيق النصر والعودة، رغم الخذلان الدولي والعربي".
هذا "الأمل" الذي دفع بالكثير من شباب المخيمات الفلسطينية للمشاركة في غمار المعركة ما هو إلا "تجل إيجابي لمعركة طوفان الأقصى ومشهد السابع من أكتوبر, حيث تمكن المقاتلون الفلسطينيون من اختراق مستوطنات غلاف قطاع غزة، المشهد الذي رآه كثير من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والأردن تجسيداً عملياً لسيناريو العودة" بحسب اللاجئ الفلسطيني عاطف خليل.
يقول خليل: إن انخراط "المقاومة اللبنانية" في المعركة كجبهة إسناد شجّع الكثير من شباب المخيمات إلى الالتحاق بركب الفصائل العسكرية.
ويصف الشاب الفلسطيني اللاجئ أحمد ديب مشاركة أبناء المخيمات في المعارك ضد الاحتلال "الإسرائيلي" نقطة قوة تحسب لهذه المخيمات، معللاً ذلك بأن "أغلب من يقاتلون على الحدود الفلسطينية هم من ولدوا وترعرعوا في لبنان، ولكن نشأتهم في المخيمات جعلت تمسكهم بقضيتهم الفلسطينية حاضراً وتمسكهم بحقهم في العودة متجذر في نفوسهم".