في زوايا مخيم خان الشيح بريف دمشق، حيث الحياة تأبى الانكسار رغم كل شيء، كان اللاجئ الفلسطيني محمد حمد يعيش تفاصيل يومية أثقلتها العيون المترقبة والخوف المتربص، بعد أن استعاد النظام السوري السيطرة على المخيم في نهاية عام 2016، ولم يكن شعور محمد يشبه شعور الآخرين، فكل حركة يقوم بها كانت تحت وطأة ألف عين تلاحقه.

وأيضاً، لم يكن الأمر مجرد وهم، فبعد عام ونصف من هذا الشعور الخانق، جاءت اللحظة التي أكدت له أن مراقبته لم تكن مجرد أوهام، حين ذهب لاستخراج جواز سفر، وتلقى طلباً بمراجعة "فرع فلسطين" سيئ السمعة.

هناك، في أروقة التحقيق، فهم محمد أن أمن نظام بشار الأسد لا ينوي منحه جواز السفر، بل يسعى لضمان بقائه داخل سوريا حتى اللحظة المناسبة للقبض عليه.

العمل الإغاثي تهمة وجهت لمحمد

مرت السنوات بصعوبة على محمد، حتى آذار/مارس 2020، حين قرر إطلاق مبادرة شبابية تهدف إلى التخفيف من انتشار فيروس "كورونا" في المخيم، وكانت المبادرة تحمل أملاً للسكان، لكنها حملت له باباً جديداً للجحيم.

في أواخر ذلك الشهر، اعتُقل محمد وقُيدت يداه للمرة الأولى، وجرى نقله إلى فرع 220 المعروف بـ"سعسع"، حيث وجد نفسه في مواجهة سلسلة من الاتهامات الملفقة: (العمل الإغاثي، توثيق القصف على منازل المخيم، إدارة صفحات معارضة على وسائل التواصل)، كانت التهم ثقيلة وكبيرة على شاب يعيش في عهد نظام بشار الأسد، لكن الحقيقة الوحيدة فيها هي دوره في تقديم المساعدات.

صراخ الألم الصادر عن المعتقلين كان نوعاً من التسلية للسجانين

"في فرع سعسع الأيام لم تكن تمر"، يقول محمد لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، حيث كان الضرب هو لغة الحوار الوحيدة أثناء التحقيق، وعانى محمد من إصابات خطيرة في يده، وتلونت أجزاء من جسده بالكدمات الداكنة.

أما عن الطعام، فكان مجرد بطاطا وزيتون مالح وبرغل، بالكاد يكفي للبقاء على قيد الحياة، في حين كان الخروج لقضاء الحاجة لثلاث مرات يومياً يعني جولة جديدة من الضرب، وكان صراخ الألم الصادر عن المعتقلين نوعاً من التسلية للسجانين.

بعد أسابيع من التحقيقات في "سعسع"، نُقل محمد إلى "فرع فلسطين"، حيث واجه ظروفاً أكثر قسوة، ووُضع في زنزانة انفرادية بالكاد تسع شخصين، لكنه غالباً ما كان يشاركها مع آخرين.

كان الهواء شحيحاً، والحديث ممنوعاً، ومن يخالف يُعاقب بجولات من الضرب المبرح أو يُجبر على رفع يديه لساعات طويلة حتى الإنهاك.

الزنزانة الانفراداية التي سجن فيها محمد.jpg
الزنزانة الانفرادية التي سُجن فيها محمد 

استخدموا كل أدوات الإهانة الجسدية واللفظية والشتائم التي تطال الكرامة والسخرية من كونه فلسطينياً

وعن يومياته في فرع فلسطين، أشار حمد إلى أنّ الطعام أصبح أسوأ، حبات زيتون مرة، بيضة واحدة، وقليل من الخضروات المسلوقة، كانت الأيام تمر ببطء قاتل، بينما التحقيقات مستمرة.

وقال حمد: "كنت مجرد رقم، رقم 24"، يتذكر محمد، حيث كان المحققون يستخدمون كل أدوات الإهانة الجسدية واللفظية، بما في ذلك الشتائم التي تطال الكرامة، والسخرية من كونه فلسطينياً: "لماذا لا تذهب لتقاتل في فلسطين؟ سنرميك في البحر هناك."

وتابع: "كان الوقت يمشي ببطء وكأن كل دقيقة دهراً، هذا لأن الحديث ممنوع وإذا سمع السجان صوت همس يطلب من المعتقل بأن يضع يده بالفتحات العلوية لباب الزنزانة لساعات طويلة يشعر خلالها المعتقل بالإعياء وفقدان القوة، وإذا تم تنزيل اليد، فهو موعود بجولة من الضرب المبرح أثناء خروجه لقضاء الحاجة".

أما النوم، "فكان بطانية واحدة كغطاء وبطانية نفترشها تحتنا وكل هذه الأغطية مليئة بالقمل، كما أن المعتقل لا ينام، حَذراً من يأتي دوره بالتحقيق".

هناك معتقل توقف قلبه.. نقلت الجثة كقطعة أثاث بالية

وسط كل هذا القهر، كانت لحظة فارقة تعمق الجرح في ذاكرة محمد، فذات ليلة، طرق معتقلون أبواب زنازينهم المجاورة بشكل مستمر، وبعد إلحاح طويل، حضر السجان أخيراً ليسأل عن السبب. كان الجواب مؤلماً: "هناك معتقل توقف قلبه" لم يتحرك السجان بجدية، بل بدأ يغني ساخطاً وكأنه يحتفل بالموت. لاحقاً، جاء مع عدد من الجنود لنقل الجثة، وكأنها قطعة أثاث بالية.

محمد خرج من المعتقل، لكنه لم يخرج من ذكرياته، ويقول: "تلك الليلة، أدركت أن المعتقل المتوفي يمثل كل الذين لم يعودوا، كل الذين اختفوا، ولا نعرف أي أرض تحتضنهم."

قصة محمد ليست مجرد شهادة، بل صرخة في وجه الصمت، إنها حكاية الفلسطيني الذي وجد نفسه عالقاً في أقبية الموت البطيء وسط أحلام العودة التي تبدو بعيدة المنال.

قصة محمد حمد، عاناها أكثر من 3200 معتقل فلسطيني، اعتقلهم أمن النظام السوري البائد، طوال سنوات حربه على شعبه منذ ما قبل عام 2011، ولكن لم يخرج منهم بعد سقوط النظام السوري سوى 47 معتقلاً، فضلاً عن آلاف مؤلفة من السوريين الذين قضوا في المعتقلات، بعد أن نال الألم من أجسادهم التي لم تحتمل كل تلك المعاناة.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد