في إطار معركة الإسناد ودعم "طوفان الأقصى"، فُقد أثرُ شابين فلسطينيين من مخيّم نهر البارد شمال لبنان، أثناء مشاركتهما في القتال إلى جانب قوى المقاومة للتصدّي لعدوان قوات الاحتلال على لبنان، تاركَين وراءهما عائلتين تعيشان بين الأمل بعودتهما والفخر بتضحياتهما.
عبد الكريم السعدي وبشير لوباني، اسمان يختصران حكاية جيل فلسطيني حمل هم الوطن في قلبه، ومضى في طريق محفوف بالمخاطر، مؤمنًا بأنّ الحرية لا تنتزع إلا بالتضحية، وبأنّ واجب أبناء المخيّمات بالشتات هو المشاركة في القتال ضدّ كيان الإبادة دعمًا لغزّة، ومن أجل تحرير الأرض والعودة.
تسرد عائلتاهما تفاصيل الأيام الأخيرة قبل فقدانهما، والكلمات التي تركاها، والتي باتت اليوم ذكرى نابضة بالألم والعزّة.
بين الأمل والشهادة… وعود منتظرة
قالت نعمات السعدي، شقيقة عبد الكريم: إن شقيقها من مواليد آذار/مارس 1988، ويبلغ نحو 37 عامًا، وله ولدان، بنت وابن. ووصفت شقيقها عبد الكريم بأنه "شخص خلوق جدًا، وكان سند العائلة".
وأضافت: "كان يشعر بالأسى عندما يرى أهل فلسطين يعيشون في ظلّ القهر والظلم، وكان يقول: يا رب أقتل الإسرائيلي، واستشهد… المهم أن تتحرر فلسطين".
وتحدثت نعمات عن الأيام الأخيرة قبل فقدانه، قائلة: "كلّما جاء من دوامه يقول لي: أريد أن أذهب… فأجيبه: لماذا تذهب الآن؟ المنزل ليس بعيدًا، ويجب أن تبقى هنا، فيردّ عليّ قائلاً: لا، بيتي في الجنوب، وفي الحرب… بيتي ليس هنا".
وتابعت: "كنت الأقرب إليه، وكان يظلّ يقول: يا رب الشهادة. أنا كنت أتمنى عودته، لكن قلبي يقول إنه شهيد، بينما والداي ما زالا يملكان الأمل في عودته، وأنه ما زال حيًّا".
  
  ولفتت إلى الأمانة التي تركها لها قبل الرحيل، قائلة: "قال لي: أختي، أنا ذاهب… أمي ووالدي وأولادي برقبتك، وإذا استشهدت تابعي جنازتي، وقد وعدته أنه إذا نال الشهادة سأكون أول من يشارك في مراسم العرس التي سنقيمها له".
وختمت نعمات قائلة: "أطلب من كل شاب فلسطيني أن يسلك طريق عبد الكريم، فهذا واجب علينا… فالدفاع عن الوطن والأرض لا يتحقّق إلا بالدم والشهادة، وأنا فخورة به كثيرًا".
فلسطين مهرها غالٍ… والدم فداء لها
أما والدة بشير لوباني، فقالت إن ابنها من مواليد 27 حزيران/يونيو 2002، وكان يعمل في تصليح السيارات، وتعلّم مؤخرًا تصليح الدراجات النارية، وكان يمارس هذا العمل أيضًا. وأوضحت: "بشير كان البكر وأول أبنائي، وكان سندي بعد وفاة والده، محبوبًا وطيبًا، والجميع يحبونه، وكان يحبّ مساعدة الآخرين كثيرًا".
وأضافت الأم: "كانت فلسطين حاضرة في قلبه منذ صغره، ودائمًا كان يتحدث عن الشهادة وعن فلسطين وكيف يريد تحريرها، فالتحق بـ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتزم بالقضية الفلسطينية".
وتابعت: "كان يقول لي عندي دوام في الجنوب، لكنني لم أكن أعلم بما يعمل. لم يكن كثير الكلام بشأن عمله، وكان كلّما يذهب يودّعني قائلاً: أرضي عليّ، وكنت أستغرب من هذا التصرف".
  وأوضحت الأم أن آخر خروجٍ له كان قبل تفجير "البيجر" بحوالي خمسة عشر يومًا، وقالت: "لم يكن موعد خروجه محددًا، لكنه بمبادرة شخصية ذهب مكان شخصٍ مريض. أعددت له الغداء كما يحب، لكنه لم يعد، وبالتالي اندلعت الحرب التي شنّها كيان الاحتلال على لبنان، ومنذ ذلك الوقت لم أعرف عنه شيئًا".
وأكدت الأم: "لو أعطوني أي خبر عنه… لأعرف إذا كان حيًّا أو شهيدًا حتى يهدأ قلبي". وختمت بصوتٍ يمزج الحزن بالفخر: "كلّنا مشروع شهادة، وأنا فخورة بابني، وأشجّع كل الشباب على السير في هذا الطريق، ففلسطين تحتاج إلى رجال، ومهرها غال".
من وجع الفقدان إلى نصرة المفقودين
وقالت سعاد عبد العال، شقيقة الشهيد القيادي نضال عبد العال: "حملت أمانة أخي وتابعت مهمته النبيلة تجاه فلسطين. أكملت ما بدأ به بطريقتي الخاصة، فأقوم بمساعدة أهالي الشهداء والمفقودين، ولو بشكلٍ معنوي، وأزورهم باستمرار لرفع معنوياتهم".
وأشارت سعاد إلى أنّ المخيمات في لبنان فيها عدد من المفقودين الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا، قائلة: "منهم بشير لوباني وعبد الكريم السعدي، وحتى اللحظة لا أحد يعلم عنهم شيئًا… الله يرحم الشهداء، ويبيّن أثر المفقودين ليطمئن أهلهم".
وتظهر شهاداتُ العائلتين، ومعهما سعاد عبد العال، حجمَ الألم النفسي والمعنوي الذي يعيشه أهالي المفقودين، الذين يتأرجحون بين الأمل والخوف. فبينما لا تزال الأخبار غائبة، تبقى العيون معلّقةً على الجنوب، علّ اتصالًا أو خبرًا يضع حدًّا لهذا الانتظار الطويل.
ويبقى السؤال الذي يؤرق ذويهم: هل المفقودون في عداد الشهداء، أم معتقلون ينتظرون الحرية؟
ورغم الوجع، لا يغيب الفخر عن كلمات الأمهات والأخوات اللواتي يرين في أبنائهنّ جزءًا من مسيرة النضال الفلسطيني الممتدة منذ عقود، مؤمناتٍ بأنّ درب الحرية، وإن طال، لا بد أن يعبد بدماء من صدقوا الوعد مع الله والوطن.
